صفحة جزء
فصل

إذا قال لامرأته : أمرك بيدك ، فلها أن تطلق ثلاثا ، وإن نوى واحدة ، وهو في يدها ما لم يفسخ أو يطأ ، وإن قال لها : اختاري نفسك ، لم يكن لها أن تطلق أكثر من واحدة ، إلا أن يجعل إليها أكثر من ذلك ، وليس لها أن تطلق إلا ما دامت في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه ، فإن جعل لها الخيار اليوم كله ، أو جعل أمرها في يدها ، فردته ، أو رجع فيه ، أو وطئها - بطل خيارها ، هذا المذهب ، وخرج أبو الخطاب في كل مسألة وجها مثل حكم الأخرى ، ولفظه الأمر ، والخيار كناية في حق الزوج ، يفتقر إلى نيته ، فإن قبلته بلفظ الكناية نحو : اخترت نفسي ، افتقر إلى نيتها أيضا ، وإن قالت : طلقت نفسي - وقع من غير نية ، وإن اختلفا في نيتها ، فالقول قولها ، وإن اختلفا في رجوعه ، فالقول قوله ، وإن قال : طلقي نفسك ، فقالت : اخترت نفسي ، ونوت الطلاق - وقع ، ويحتمل أن لا يقع ، وليس لها أن تطلق أكثر من واحدة ، إلا أن يجعل إليها أكثر منها ، وإن قال : وهبتك لأهلك ، فإن قبلوها ، فواحدة ، وإن ردوها ، فلا شيء ، وعنه : إن قبلوها فثلاث ، وإن ردوها فواحدة ، وكذلك إن قال : وهبتك لنفسك .


فصل

( إذا قال لامرأته : أمرك بيدك ) فهي كناية ظاهرة ( فلها أن تطلق ثلاثا ، وإن نوى واحدة ) في ظاهر المذهب ، وأفتى به أحمد مرارا ، ورواه البخاري في تاريخه عن عثمان ، وقاله علي ، وابن عمر ، وابن عباس ، وفضالة ، ونصره في " الشرح " ؛ لما روى أبو داود والترمذي بإسناد رجاله ثقات ، عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : هو ثلاث قال البخاري : هو موقوف على أبي هريرة ؛ ولأنه يقتضي العموم في جميع أمرها ؛ لأنه اسم جنس مضاف ، فيتناول الطلقات الثلاث ، كما لو قال : طلقي نفسك ما شئت ، فلو قال : أردت واحدة ، لم يقبل ؛ لأنه خلاف مقتضى اللفظ ، ولا يدين ، وعنه : واحدة ما لم ينو أكثر ، قطع به أبو الفرج وصاحب " التبصرة " ، كاختاري عنه ، وفيه غير مكرر ثلاثا ، وعنه : ثلاث بنيتها لها ، كقوله في الأصح : طلقي نفسك ثلاثا ، فتطلق بنيتها ( وهو في يدها ) أي : على التراخي ، [ ص: 286 ] نص عليه ؛ لقول علي ، ولم يعرف له مخالف في الصحابة ، فكان كالإجماع ؛ ولأنه نوع تمليك في الطلاق ، فملكه المفوض إليه في المجلس ، وبعده كما لو جعله لأجنبي ( ما لم يفسخ ) فإن فسخها - بطلت الوكالة كسائر الوكالات ( أو يطأ ) ؛ لأنه يدل على الفسخ ، أشبه ما لو فسخ بالقول ، وقيل : يتقيد بالمجلس كالخيار ، وجوابه : بأنه توكيل مطلق أشبه التوكيل في البيع ، ويعتبر أهليتها ، فلا يصح من صغيرة ولا مجنونة .

فرع : يجوز أن يجعل أمر امرأته بعوض ، قال أحمد : إذا قالت : اجعل أمري بيدي وأعطيك عبدي - فلها أن تختار ما لم يطأ ؛ لأن التوكيل لا يبطل بدخول العوض فيه .

( وإن قال لها : اختاري نفسك ، لم يكن لها أن تطلق أكثر من واحدة ) رجعية ، حكاه أحمد عن ابن عمر ، وابن مسعود ، وزيد بن ثابت ، وعائشة ، وغيرهم ؛ ولأن اختاري تفويض معين ، فيتناول ما يقع عليه الاسم ، وهو طلقة رجعية ؛ لأنها بغير عوض بخلاف ما سبق ، فإنه أمر مضاف إليها ، فيتناول جميع أمرها ( إلا أن يجعل إليها أكثر من ذلك ) كاختاري ما شئت أو ثنتين أو ثلاثا أو نيته ، وهو أن ينوي بقوله : اختاري عددا ، فإنه يرجع إلى ما نواه ؛ لأنها كناية خفية ( وليس لها أن تطلق إلا ما دامت في المجلس ) وظاهره : ولو طال ( ولم يتشاغلا بما يقطعه ) ذهب أكثر العلماء أن التخيير على الفور . رواه النجاد عن عمر وعثمان ، وروي عن ابن مسعود ، وجابر ، ونص عليه أحمد . وقيل : متراخ كالأمر ، وقاله ابن المنذر ، واحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة : إني ذاكر لك أمرا فلا عليك ألا [ ص: 287 ] تعجلي حتى تستأمري أبويك وكان واجبا عليه ، وجوابه أنه قول من سمينا ؛ ولأنه خيار تمليك ، فكان على الفور كخيار القبول ، وأما الخبر ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل لها الخيار على التراخي ، وخلافنا في المطلق ، و " أمرك بيدك " توكيل ، والتوكيل يعم الزمان ما لم يقيده بقيد بخلاف مسألتنا ، وعنه : إن لم يتصل الجواب ، لم يقع ، وشرطه ما لم يشتغلا بقاطع ؛ لأنه بالتشاغل يكون إعراضا عن قوله : اختاري ، ومن المقول لها إعراضا عن القبول ، أشبه ما لو افترقا ( فإن جعل لها الخيار اليوم كله ) جاز ( أو جعل أمرها في يدها فردته ) بطل كالوكيل ( أو رجع فيه أو وطئها ، بطل خيارها - هذا المذهب ) المنصوص عليه : أن أمرك بيدك على التراخي ، واختاري على الفور ، ويحتمل ألا تنفسخ الوكالة ، كما لو وكله في بيع دار وسكنها ( وخرج أبو الخطاب في كل مسألة وجها مثل حكم الأخرى ) أي : يقاس كل من المسألتين على الأخرى ، وقد ذكر المؤلف في كل مسألة حكمين ، الأول على التراخي ، وأن لها أن تطلق ثلاثا ، وفي الثانية الفور ، وأن ليس لها أن تطلق أكثر من واحدة إلا بشرطه ، قلت : كلام أبي الخطاب في كتابه من حيث اللفظ لا يقتضي تخريج العدد من إحدى المسألتين على الأخرى ، ومن حيث إنه نفي الفرق بينهما يقتضي ذلك ، إلا أنه يمكن حمله على نفي الفرق من حيث التراخي والفور - لا من حيث العدد .

تنبيه : إذا قال : اختاري اليوم ، وغدا ، وبعد غد - فلها ذلك ، فإن ردته في الأول بطل كله ؛ لأنه خيار واحد ، بخلاف ما لو قال : اختاري اليوم بعد غد ، فإنها إذا ردته في الأول لم يبطل بعد غد ؛ لأنهما خياران ينفصل أحدهما [ ص: 288 ] عن صاحبه ، فإن نوى - بقوله : اختاري نفسك - إيقاع الثلاث ، وقع ، وإن كرر اختاري ثلاثا ، فإن أراد إفهامها وليس له نية - فواحدة ، وإلا فثلاث ، نص عليه ، وإن أطلق فروايتان ، قاله في " المغني " ، فلو خيرها شهرا فاختارت نفسها ثم تزوجها - لم يكن لها عليه خيار ؛ لأن الخيار المشروط في عقد لا يثبت في عقد سواه كالبيع .

فرع : إذا قال : اختاري نفسك يوما ، فابتداؤه من حين تطلق إلى مثله من الغد ، وإن قال : شهرا ، فمن ساعة نطق إلى استكمال ثلاثين يوما إلى مثل تلك الساعة .

( ولفظه الأمر والخيار كناية ) ظاهرة وخفية ( في حق الزوج ، يفتقر ) وقوع الطلاق ( إلى نيته ) ؛ لأن كلاهما يفتقر إلى النية على ما مضى ، وكذا كذبه بعد سؤالها الطلاق ( فإن قبلته بلفظ الكناية نحو : اخترت نفسي ، افتقر إلى نيتها أيضا ) ؛ لأنها موقعة للطلاق بلفظ الكناية ، فافتقر إلى نيتها كالزوج ، فلو قالت : اخترت نفسي ، وأنكر وجوده - قبل قوله ؛ لأنه منكر ، أشبه ما لو علق طلاقها على دخول الدار ، فادعته وأنكر ( وإن قالت : طلقت نفسي - وقع من غير نية ) ؛ لأنه صريح كأنت طالق ، ويقع من العدد ما نوياه دون ما نواه أحدهما ، وإن نوى أحدهما دون الآخر لم يقع ؛ لفقد النية ( وإن اختلفا في نيتها فالقول قولها ) ؛ لأنها أعلم بنيتها ، ولا يعلم ذلك إلا من جهتها ( وإن اختلفا في رجوعه فالقول قوله ) ؛ لأنهما اختلفا فيما يختص به ، كما لو اختلفا في نيته .

مسائل : الأجنبي في ذلك كالمرأة ، والمذهب : إلا أنه متراخ ، ويقع بإيقاع [ ص: 289 ] الوكيل بصريح أو كناية بنية ، وفي وقوعه بكناية بنية ممن وكل فيه بصريح وجهان ، وكذا عكسه ، وفي " الترغيب " : ولا يقع بقولها : اخترت بنية حتى تقول : نفسي أو أبوي ، أو الأزواج ، ونقل ابن منصور : إن اختارت زوجها ، فواحدة ، ونفسها ثلاث ، وعنه : إن خيرها فقالت : طلقت نفسي ثلاثا - وقعت ، وإن أنكر قولها ، قبل قوله ، وتقبل دعوى الزوج أنه رجع قبل إيقاع وكيله عند أصحابنا ، والمنصوص : أنه لا يقبل إلا بنية ، قال الشيخ تقي الدين : وكذا دعوى عتقه ورهنه ونحوه ، ومن وكل في ثلاث فأوقع واحدة أو عكسه - فواحدة ، نص عليهما ، ولا يملك بالإطلاق تعليقا .

( وإن قال : طلقي نفسك ) فهل يختص بالمجلس ؛ فيه وجهان ، أصلهما : هل تلحق بالأولى أو الثانية ؛ وذلك توكيل يبطل برجوعه ، وكذا لو وكلها بعوض ، نص عليه ، ويرد الوكيل ( فقالت : اخترت نفسي ، ونوت الطلاق - وقع ) نصره في " الشرح " وغيره ؛ لأنه فوض إليها الطلاق ، وقد أوقعته ، أشبه ما لو أوقعته بلفظه ( ويحتمل أن لا يقع ) ؛ لأنه فوضه إليها بلفظه الصريح ، فلا يصح أن يوقع غير ما فوضه إليها ، والأول أصح ؛ لأن التوكيل في شيء لا يقتضي إيقاعه بلفظه ، كما لو وكله في البيع ، فباعه بلفظ التمليك ، وكما لو قال : اختاري نفسك ، فقالت : طلقت نفسي ، فإنه يقع مع اختلاف اللفظ ( وليس لها أن تطلق أكثر من واحدة ) ؛ لأنه أقل ما يقع عليه الاسم ( إلا أن يجعل إليها أكثر منها ) ؛ لأن الطلاق يكون واحدة وثلاثا ، فأيهما نواه فقد نوى بلفظه ما احتمله ، ومميز ومميزة في ذلك كله كالبالغين ، نص عليه .

[ ص: 290 ] ( وإن قال : وهبتك لأهلك ) فهو كناية ، إن نوى به الإيقاع وقع ، وإن لم ينو به الإيقاع فهو كناية في حقها ، فيفتقر إلى قبولهم ، والنية من الزوج ؛ لأنه ليس بصريح ( فإن قبلوها فواحدة ) رجعية ( وإن ردوها ، فلا شيء ) هذا هو المشهور ، وهو قول ابن مسعود ، وعطاء ، ومسروق ؛ لأنه تمليك للبضع ، فافتقر إلى القبول كاختاري ، وكالنكاح ، وعلى أنه لا يكون ثلاثا ؛ لأنه محتمل ، فلا يحمل عليها عند الإطلاق كاختاري ؛ ولأنها طلقة ليس عليها عدة بغير عوض قبل استيفاء ، فكانت رجعية كأنت طالق ، وقوله : واحدة محمول على ما إذا أطلق النية أو نواها ، فإن نوى ثنتين أو ثلاثا فهو على ما نوى كسائر الكنايات ( وعنه : إن قبلوها فثلاث ، وإن ردوها فواحدة ) رجعية ، وقاله زيد بن ثابت ، والحسن . وعن أحمد : إن قبلوها فواحدة بائنة ، وإن ردوها فواحدة رجعية ، وقاله علي بن أبي طالب ، وصيغة القبول أن يقول أهلها : قبلناها ، نص عليه ( وكذلك إن قال : وهبتك لنفسك ) أي : فيها من الخلاف ما سبق ، فإن ردت ذلك ، فلغو ، وعنه : رجعية إذا نوى بالهبة والأمر والخيار الطلاق في الحال ، وقع .

تنبيه : لم يتعرض المؤلف لمسألة البيع ، وحكمها أنه إذا باعها لغيره - فلغو وإن نوى الطلاق ، نص عليه ؛ لأنه لا يتضمن معنى الطلاق ؛ لكونه معاوضة ، والطلاق مجرد إسقاط ، وفي " الترغيب " في كونه كناية كهبة وجهان ، وذكر ابن حمدان : إن ذكر عوضا معلوما طلقت مع النية والقبول ، نقل حنبل : وبائع ومشتر كخائن يؤدبان ، ولا قطع ، ويحبسان حتى يظهرا توبة .

التالي السابق


الخدمات العلمية