صفحة جزء
[ ص: 253 ] فصل : وتقتل الجماعة بالواحد ، وعنه : لا يقتلون . والمذهب الأول . وإن جرحه أحدهما جرحا والآخر مائة فهما سواء في القصاص والدية ، وإن قطع أحدهما من الكوع ، ثم قطعه الآخر من المرفق فهما قاتلان . وإن فعل أحدهما فعلا لا تبقى الحياة معه كقطع حشوته أو مريئه أو ودجيه ، ثم ضرب عنقه آخر ، فالقاتل هو الأول ويعزر الثاني ، وإن شق الأول بطنه ، أو قطع يده ، ثم ضرب الثاني عنقه ، فالقاتل هو الثاني وعلى الأول ضمان ما أتلف بالقصاص أو الدية . وإن رماه من شاهق فتلقاه آخر بسيف فقده فالقاتل هو الثاني ، وإن رماه في لجة فتلقاه حوت فابتلعه ، فالقود على الرامي في أحد الوجهين ، وإن أكره إنسانا على القتل فقتل فالقصاص عليهما ، وإن أمر من لا يميز أو مجنونا أو عبده الذي لا يعلم أن القتل محرم فقتل ، فالقصاص على الآمر ، وإن أمر كبيرا عاقلا بتحريم القتل فقتل فالقصاص على القاتل . وإن أمر السلطان بقتل إنسان بغير حق من يعلم ذلك ، فالقصاص على القاتل ، وإن لم يعلم فعلى الآمر . وإن أمسك إنسانا لآخر ليقتله فقتله قتل القاتل وحبس الممسك حتى يموت في إحدى الروايتين والأخرى يقتل أيضا ، وإن كتف إنسانا وطرحه في أرض مسبعة ، أو ذات حيات فقتلته فحكمه حكم الممسك .


فصل

( وتقتل الجماعة بالواحد ) على الأشهر لما روى ابن عمر أن غلاما قتل غيلة فقال عمر : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم . رواه البخاري ، وهذا إذا كان فعل كل واحد منهم صالحا للقتل به ، وإلا فلا ما لم يتواطئوا على ذلك ( وعنه : لا يقتلون ) نقلها حنبل ، روي ذلك عن ابن عباس ، وابن الزبير لقوله تعالى : النفس بالنفس [ المائدة : 45 ] يدل على أنه لا يوجد أكثر من نفس واحدة بنفس واحدة ، ولأن كل واحد من الجماعة مكافئ للمقتول ، فلا يؤخذ أبدال بمبدل واحد كما لا تؤخذ ديات بمقتول واحد ، ولأن التفاوت في الأوصاف يمنع بدليل أن الحر لا يؤخذ بالعبد ، فالتفاوت في العدد أولى وعليها تلزمهم دية واحدة ، قال ابن المنذر : لا حجة مع من أوجب قتل الجماعة بواحد ، وعلى الأولى تلزمهم دية واحدة . نص عليه ، وهو أشهر كخطأ ، ونقل ابن ماهان تلزمهم ديات كما لو انفرد كل واحد منهم ، ونقل ابن منصور ، والفضل : إن قتله ثلاثة فله قتل أحدهم ، والعفو عن آخر وأخذ الدية كاملة من أحدهم ( والمذهب الأول ) لقوله تعالى : ولكم في القصاص حياة [ البقرة : 179 ] ; لأنه إذا علم أنه متى قتل قتل به انكف عنه ، فلو لم يشرع القصاص في الجماعة بالواحد لبطلت الحكمة قي مشروعية القصاص ، ولإجماع الصحابة ، فروى سعيد عن هشيم ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب أن عمر قتل سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلا ، وعن علي ، وابن عباس معناه ، ولم نعرف لهم في عصرهم مخالفا ، فكان كالإجماع ، ولأنها عقوبة تجب للواحد على الواحد ، [ ص: 254 ] فوجبت على الجماعة كحد القذف ، والفرق بين قتل الجماعة والدية أن الدم لا يتبعض ، بخلاف الدية ، وهذا إذا قلنا : إن موجب العمد أحد شيئين القصاص أو الدية ، فمتى عفا عن القود تعينت الدية ، وإن قلنا : موجبه القود فقط فللأولياء أن يعفوا عن القليل والكثير من غير تقدير

( وإن جرحه أحدهما جرحا والآخر مائة ) جرح ، أو أوضحه أحدهما ، أو شجه الآخر آمة ، أو أحدهما جائفة ، والآخر غير جائفة ( فهما سواء في القصاص والدية ) لأن اعتبار التساوي يفضي إلى سقوط القصاص عن المشتركين إذ لا يكاد جرحان يتساويان من كل وجه ، ولو احتمل التساوي لم يثبت الحكم ; لأن الشرط يعتبر العلم بوجوده ، ولا يكتفى باحتمال الوجود ، بل الجهل بوجوده كالعلم بعدمه في انتفاء الحكم ، ولأن الجرح الواحد يحتمل أن يموت به دون المائة .

فرع : إذا اشترك ثلاثة فقطع أحدهم يده ، والآخر رجله ، والثالث أوضحه فمات فللولي قتل جميعهم ، والعفو عنهم إلى الدية ويأخذ من كل واحد ثلثها ، وله أن يعفو عن واحد فيأخذ منه ثلث الدية ، ويقتل الآخرين ، وأن يعفو عن اثنين فيأخذ منهما ثلثي الدية ، ويقتل الثالث .

( وإن قطع أحدهما من الكوع ، ثم قطعه الآخر من المرفق فهما قاتلان ) أي : فهما سواء في القصاص ، أو الدية إذا قطع الثاني قبل بروء جراحة الأول على المذهب ; لأنهما قطعان ، فإذا مات بعدهما وجب عليهما القصاص كما لو كانا في يدين ، وقيل : القاتل هو الثاني فيقاد الأول ; لأن قطع الثاني قطع [ ص: 255 ] سراية ، قطعه ومات بعد زوال جنايته ، وعلى الأول إن سقط القود بعفو - غرما ديته نصفين ، وإن اندمل الجرحان ، فعلى من قطع من الكوع القود ، وعلى الآخر حكومة ، وعنه : ثلث دية اليد ، ولو قتلوه بأفعال لا يصلح واحد لقتله نحو أن يضربه كل منهم سوطا في حاله أو متواليا ، فلا قود ، وفيه عن تواطئ وجهان ، قاله في " الترغيب "

( وإن فعل أحدهما فعلا لا تبقى الحياة معه كقطع حشوته ) بضم الحاء وكسرها : أمعاؤه ( أو مريئه ) بالهمز ، وهو مجرى الطعام والشراب في الحلق ( أو ودجيه ) بفتح الواو وكسرها ، والودجان هما عرقان في العنق ( ثم ضرب عنقه آخر ، فالقاتل هو الأول ) لأن الحياة لا تبقى مع جنايته ( ويعزر الثاني ) كما لو جنى على ميت ، فلهذا لا يضمنه ودل على أن هذا التصرف فيه كميت لو كان عبدا ، فلا يصح بيعه ، كذا جعلوا الضابط : من يعيش مثله ، ومن لا يعيش ، وكذا علل الخرقي المسألتين مع أنه قال في الذي لا يعيش : خرق بطنه وأخرج حشوته فقطعها فأبانها منه ، وهذا يقتضي أنه لو لم يبنها لم يكن حكمه كذلك مع أنه بقطعها لا يعيش ، فاعتبر كونه لا يعيش في موضع خاص ، فتعميم الأصحاب فيه نظر

( وإن شق الأول بطنه ، أو قطع يده ، ثم ضرب الثاني عنقه ، فالقاتل هو الثاني ) لأنه هو المفوت للنفس جزءا ، فعلى هذا عليه القصاص في النفس ، والدية إن عفا عنه ; لأنه لم يخرج بجرح الأول من حكم الحياة ( وعلى الأول ضمان ما أتلف ) لأنه حصل بجنايته ( بالقصاص أو الدية ) لأن الحياة تارة تكون موجبة للقصاص كقطع اليد عمدا ، وتارة لا تكون كذلك كقطعها خطأ ، لكن جرح الأول إن كان موجبا [ ص: 256 ] للقصاص خير بين قطع طرفه والعفو عن ديته والعفو مطلقا ، وإن كان لا يوجب قودا كالجائفة فعليه الأرش ، وإنما جعلنا عليه القصاص ; لأن الثاني بفعله قطع سراية الأول ، وإن كان جرح الأول يفضي إلى الموت لا محالة إلا أنه لا يخرج به من حكم الحياة وتبقى معه الحياة المستقرة ، فالقاتل هو الثاني ; لأن عمر لما جرح وسقي لبنا فخرج من جوفه ، فعلم أنه ميت وعهد إلى الناس وجعل الخلافة في أهل الشورى فقبل الصحابة عهده وعملوا به

( وإن رماه من شاهق فتلقاه آخر بسيف فقده فالقاتل هو الثاني ) لأنه فوت حياته قبل المصير إلى حال ييأس فيها من حياته أشبه ما لو رماه بسهم فبادره آخر فقطع عنقه قبل وصول السهم إليه ، ولأن الرمي سبب ، والقتل مباشرة ( وإن رماه في لجة فتلقاه حوت فابتلعه ، فالقود على الرامي في أحد الوجهين ) جزم به في " الوجيز " وقدمه في " الفروع " وهو المذهب ; لأنه تسبب إلى قتله ، ولم توجد مباشرة فصلح إسناد القتل إليه فوجب أن يعمل السبب عمله وبه فارق بما تقدم ، والثاني : لا قود عليه ; لأنه متسبب ، والإتلاف حصل بالمباشرة ، وهو يوجب قطع التسبب وكما لو منعه موج أو غيره ، أو كان الماء غير مغرق ، والأول أصح ; لأن قطع التسبب لا يكون إلا بشرط صلاحية إسناد التلف إلى المباشرة ، وهو مفقود هنا ، وعلى هذا لا فرق بين أن يلتقمه قبل أن يمس الماء أو بعده قبل الغرق أو بعده ، وقيل : إن التقمه بعد حصوله فيه قبل غرقه ، وقيل : شبه عمد ومع قلة ، فإن علم بالحوت فالقود وإلا دية

( وإن أكره إنسانا ) مكلفا ( على القتل ) أي : على قتل مكافئه ( فقتل [ ص: 257 ] فالقصاص ) أو الدية ، قاله في " المحرر " و " الوجيز " ( عليهما ) لأن المكره تسبب إلى قتله بما يفضي إليه غالبا ، أشبه ما لو أنهشه حية ، والمكره قتله ظلما لاستبقاء نفسه كما لو قتله في المجاعة ليأكله ، فعلى هذا إن صار الأمر إلى الدية فهي عليهما كالشريكين ، وفي " الموجز " إذا قلنا : تقتل الجماعة بالواحد وخصه بعضهم بمكره ويتوجه عكسه ، لا يقال : المكره ملجأ لأنه غير صحيح ; لأنه متمكن من الامتناع ، ولهذا يأثم بالقتل ، وقوله - عليه السلام - عفي لأمتي عما استكرهوا عليه محمول على غير القتل

( وإن أمر من لا يميز أو مجنونا ) أو أعجميا ، لا يعلم خطر القتل ، وفي " الرعاية " و " الفروع " : أو كبيرا يجهل تحريمه ( أو عبده الذي لا يعلم أن القتل محرم ) كمن نشأ في غير بلاد الإسلام ( فقتل ، فالقصاص على الآمر ) لأن القاتل هنا كالآلة ، أشبه ما لو أنهشه حية ، ونقل مهنا : إذا أمر صبيا أن يضرب رجلا فضربه فقتله ، فعلى الآمر ، ولا شيء عليه بدفع سكين إليه ولم يأمره ، وفي " الانتصار " إن أمر صبيا وجب على آمره وشريكه في رواية ، وإن سلم لا يلزمهما فلعجزه غالبا ، وظاهره أنه إذا أقام في بلاد الإسلام بين أهله فلا يخفى عليه تحريم القتل ، ولا يعذر فيه إذا كان عالما ، وحينئذ يقتل العبد ويؤدب سيده الآمر . نص عليه ، وعنه : يقتل الآمر ويحبس العبد حتى يموت كممسكه ، وعلى أنه إذا أمره بزنا أو سرقة فعلى المباشر

( وإن أمر كبيرا عاقلا بتحريم القتل فقتل ، فالقصاص على القاتل ) بغير خلاف نعلمه ; لأنه مقتول ظلما فوجب عليه القصاص كما لو لم يؤمر ، وقال ابن المنجا : [ ص: 258 ] المراد بالكبير هنا من يميز ، وليس بكبير فلا قود عليه ، ولا على الآمر ; لأنه غير مكلف ، ولأن تمييزه يمنع كونه كالآلة ، وليس بظاهر .

فرع : إذا قال لغيره : اقتلني ، أو اجرحني . ففعل غير مكره وهما مكلفان فهدر . نص عليه ، وعنه : تلزم الدية ، وعنه : عليه دية نفسه إرثا ، ويحتمل القود ، ولو قال ذلك عبد لمن يقتل به فقتله ضمنه لسيده بمال فقط . نص عليه ، ولو قال : اقتلني وإلا قتلتك فخلاف كإذنه ، وفي " الانتصار " : لا إثم ولا كفارة ، وفي " الرعاية " اقتل نفسك وإلا قتلتك إكراه كاحتمال في : اقتل زيدا أو عمرا

( وإن أمر السلطان بقتل إنسان بغير حق من يعلم ذلك ، فالقصاص على القاتل ) لأنه غير معذور في فعله لقوله عليه السلام لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولأن غير السلطان لو أمره بذلك كان القصاص على المباشر ، علم أو لم يعلم ، ويحتمل إن خاف السلطان ، قتل كما لو أكرهه ( وإن لم يعلم ، فعلى الآمر ) لأن المأمور معذور لوجوب طاعة الإمام في غير المعصية ، والظاهر من حاله أنه لا يأمر إلا بالحق .

فرع : إذا أكرهه السلطان على قتل أحد بغير حق ، فالقود ، أو الدية عليهما ، فإن كان الإمام يعتقد جواز القتل دون المأمور كمسلم قتل ذميا ، فقال القاضي : الضمان عليه دون الإمام ; لأنه قتل من لا يحل له قتله ، قال في " المغني " : ينبغي أن يفرق بين المجتهد ، والمقلد ، فإن كان مجتهدا فهو كقول القاضي ، وإن كان مقلدا ، فلا ضمان عليه ; لأن له تقليد الإمام فيما رآه ، وإن كان الإمام يعتقد تحريمه ، والمأمور يعتقد حله ، فالضمان على الآمر كما لو أمر السيد عبده الذي [ ص: 259 ] لا يعتقد تحريم القتل به

( وإن أمسك إنسانا لآخر ليقتله فقتله ، قتل القاتل ) بغير خلاف نعلمه ; لأنه قتل من يكافئه عمدا بغير حق ( وحبس الممسك حتى يموت في إحدى الروايتين ) نصره في " الشرح " ، وقدمه في " الفروع " ، وجزم به في " الوجيز " لما روى ابن عمر مرفوعا ، قال : إذا أمسك الرجل وقتله الآخر ، قتل القاتل ، ويحبس الذي أمسك . رواه الدارقطني ، وروى الشافعي نحوه من قضاء علي رضي الله عنه ، ولأنه حبسه إلى الموت ، فيحبس الآخر عن الطعام ، والشراب حتى يموت ( والأخرى يقتل أيضا ) اختارها أبو محمد الجوزي ، وقدمها في " الرعاية " وادعاه سليمان بن موسى إجماعا ; لأن قتله حصل بفعلهما كما لو جرحاه ، لكن إن لم يعلم الممسك أنه يقتله ، إنه لا شيء عليه ، وكذا الخلاف لو فتح واحد فمه وسقاه آخر سما قاتلا فمات ، وجزم في " الوجيز " بقتله ، ومثله لو أمسكه ليقطع طرفه ، ذكره في " الانتصار " ، أو تبع رجلا ليقتله فهرب فأدركه آخر فقطع رجله ، ثم أدركه الثاني فقتله ، فإن كان الأول حبسه بالقطع ليقتله الثاني فعليه القود في القطع ، وحكمه في النفس حكم الممسك ، فإن لم يقصد حبسه فعليه القطع دون القتل كالذي أمسكه غير عالم

( وإن كتف إنسانا وطرحه في أرض مسبعة ، أو ذات حيات فقتلته فحكمه حكم الممسك ) ذكره القاضي ، قال المؤلف : والصحيح أنه لا قصاص فيه ; لأنه لا يقتل غالبا وتجب فيه الدية ; لأنه فعل به فعلا متعمدا ، لا يقتل غالبا ، فهو شبه عمد .

فرع : إذا أمسك زيد عبدا فقتله آخر ضمنه زيد ورجع على عاقلته [ ص: 260 ] وله تضمين أيهما شاء ، وإن أمسكه لغير قتله لم يضمنه الممسك بحال ، قاله في " الرعاية " ومن تعرض لقتل زيد ، ولم يدفعه عن نفسه وسكت ، فقتله ، ضمنه إن قلنا : الدية إرث ، وإن قلنا : له ، فوجهان .

التالي السابق


الخدمات العلمية