صفحة جزء
باب حد القذف وهو الرمي بالزنا ، ومن قذف حرا محصنا ، فعليه جلد ثمانين جلدة ، إن كان القاذف حرا ، وأربعين إن كان عبدا ، وهل حد القذف حق لله تعالى ، أو للآدميين ؛ على روايتين . وقذف غير المحصن يوجب التعزير ، والمحصن هو الحر المسلم العاقل العفيف الذي يجامع مثله ، وهل يشترط بلوغه ؛ على روايتين . وإن قال : زنيت وأنت صغيرة ، وفسره بصغر عن تسع سنين ، لم يحد ، وإلا خرج على الروايتين ، وإن قال لحرة مسلمة : زنيت ، وأنت نصرانية أو أمة ، ولم تكن كذلك ، فعليه الحد ، وإن كانت كذلك ، وقالت : أردت قذفي في الحال ، فأنكرها ، على وجهين . ومن قذف محصنا ، فزال إحصانه قبل إقامة الحد ، لم يسقط الحد عن القاذف .


باب حد القذف .

وهو محرم بالإجماع ، وسنده قوله تعالى : إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المؤمنات لعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم [ النور : 23 ] وقوله عليه السلام : اجتنبوا السبع الموبقات ، قالوا : وما هي يا رسول الله ؛ قال : الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات . متفق عليه . ( وهو الرمي بالزنا ) فبيان لمعنى القذف ، وكذا رميه بلواط أو شهادة عليه به ، ولم تكمل البينة ، وأصله : الرمي بالحجر بخلاف الخذف بالخاء المعجمة فإنه الرمي بالحصى ، وهو في الأصل رمي الشيء بقوة ، ثم استعمل في الرمي بالزنا ونحوه من المكروهات ، يقال : قذف يقذف قذفا ، فهو قاذف ، وجمعه قذاف وقذفة ، كفاسق وفسقة ، وكافر وكفرة ( ومن قذف ) وهو مكلف [ ص: 84 ] مختار ( حرا محصنا ، فعليه جلد ثمانين جلدة إن كان القاذف حرا ، وأربعين إن كان عبدا ) أجمعوا على وجوب الحد على من قذف محصنا ، حرا كان القاذف أو عبدا ، وأن حده ثمانون إن كان حرا ، لقوله تعالى : والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة [ النور : 23 ] والرقيق على النصف من ذلك في قول أكثر العلماء ، ويروى أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم جلد عبدا قذف حرا ثمانين ، وبه قال قبيصة وعمر بن عبد العزيز ، لعموم الآية ، والصحيح الأول ، لإجماع الصحابة ، قال عبد الله بن عامر بن ربيعة : أدركت أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، والخلفاء ، هلم جرا ، ما رأيت أحدا جلد عبدا في فرية أكثر من أربعين ، رواه مالك . كحد الزنا ، والآية وإن كانت عامة ، فدليلنا خاص ، والخاص مقدم ، وتقدم قول الخرقي : يكون بدون سوط الحر ، وظاهره : ولو ذات محرم أو مجبوبا سوى ولده وإن نزل ، نص على الثلاثة ، ولو عتق قبل حد ، ومعتق بعضه بالحساب ، وقيل : كعبد ( وهل حد القذف حق لله تعالى ، أو للآدميين ؛ على روايتين ) .

إحداهما وهي الأظهر والأشهر وقاله الجمهور ، هو حق لآدمي ، فعليه يسقط بعفوه عنه ، قال القاضي وأصحابه : لا عفوه عن بعضه .

والثانية : هو حق لله ، قدمها في الرعاية ، وعليها لا يسقط بالعفو أو الإبراء ، ولا يستوفيه إلا الإمام أو نائبه ، وعليهما : لا يحد ولا يجوز أن يعرض له إلا بطلب ، وذكره الشيخ تقي الدين إجماعا ، ويتوجه على الثانية وبدونه ، ولا يستوفيه بنفسه ، خلافا لأبي الخطاب ، وإنه لو فعل لم يعتد به ، وعلله القاضي بأنه تعتبر نية الإمام أنه حد ، وفي البلغة : لا يستوفيه بدونه ، [ ص: 85 ] فإن فعل ، فوجهان ، وإن هذا في القذف الصريح ، وإن غيره يبرأ به ، سواء على خلاف في المذهب كاعتبار الموالاة أو النية ( وقذف غير المحصن ) كمن قذف مشركا ، أو عبدا ، أو مسلما له دون عشر سنين ، أو مسلمة لها دون تسع سنين ، أو من ليس بعفيف ( يوجب التعزير ) ردعا له عن أعراض المعصومين وكفالة عن أذاهم ، وقيل : سوى سيد لعبده .

فرع : يحد أبواه وإن علوا بقذفه ، وإن نزل كقود ، فلا يرثه عليهما ، وإن ورثه أخوه لأمه ، وحد له لتبعيضه ، وفي الترغيب : لا يحد أب ، وفي أم وجهان ( والمحصن ) هنا ( هو الحر المسلم العاقل العفيف الذي يجامع مثله ) هذه صفة المحصن الذي يحد بقذفه ، أما الحرية والإسلام ، فلأن العبد والكافر حرمتهما ناقصة ، فلم ينتهض لإيجاب الحد ، والآية الكريمة وردت في الحرة المسلمة ، وغيرهما ليس في معناهما ، وأما العقل ، فلأن المجنون لا يعير بالزنا ، لعدم تكليفه ، وغير العاقل لا يلحقه شين بإضافة الزنا إليه لكونه غير مكلف ، وأما العفة عن الزنا فلأن غير العفيف لا يشينه القذف ، والحد إنما وجب من أجل ذلك ، وقد أسقط الله الحد عن القاذف إذا كان له بينة بما قال ، وأما كونه يجامع مثله فلأن غير ذلك لا يعير بالقذف ، لتحقق كذب القاذف ، وأقله أن يكون له عشر سنين إن كان ذكرا ، أو تسع سنين إن كانت أنثى ، وظاهره : أنه لا تشترط فيه العدالة ، بل لو كان المقذوف فاسقا ، كشربه الخمر أو لبدعة ، ولم يعرف بالزنا أنه يجب الحد بقذفه ، وقال الشيرازي : لا يجب الحد بقذف مبتدع ولا مبتدعة ، وقال ابن أبي موسى : إذا قذف أم ولد - رجل ، وله منها [ ص: 86 ] ولد ؛ حد ، وإذا قذف مسلم ذمية تحت مسلم ، أو لها منه ولد حد في رواية ، وإن قذف عبد عبدا جلد أربعين ، قاله في الرعاية ( وهل يشترط بلوغه ؛ على روايتين ) .

إحداهما : يشترط ، قيل : إنها مخرجة ، وليست بمنصوصة لأن غير البالغ غير مكلف ، أشبه المجنون .

والثانية : ليس بشرط ، وهو مقتضى كلام الخرقي ، وقطع بها القاضي والشريف وأبو الخطاب وصاحب الوجيز ، لأن ابن عشر سنين ونحوه يلحقه الشين بإضافة الزنا إليه ويعير بذلك ، ولهذا جعل عيبا في الرقيق ، أشبه البالغ ، وفي اشتراط سلامته من وطء الشبهة وجهان ، ولعله مبني على أن وطء الشبهة هل يوصف بالتحريم أم لا ؛ فذكر عن القاضي أنه وصفه به ، وظاهر كلام جماعة عدم وصفه بذلك ، وظاهر كلام آخرين أنه لا تشترط السلامة في ذلك .

فرع : إذا وجب الحد بقذف من لم يبلغ لم يقم عليه حتى يبلغ ، ويطالب لعدم اعتبار كلامه قبل البلوغ ، وليس لوليه المطالبة حذارا من فوات التشفي ، ولو قذف غائبا اعتبر قدومه وطلبه إلا أن يثبت أنه طالب في غيبته ، فيقام على المذهب ، وقيل : لا لاحتمال عفوه ، ولو قذف عاقلا فجن أو أغمي عليه قبل الطلب لم يقم حتى يفيق ويطالب ، وإن كان بعد الطلب جازت إقامته .

مسألة : يشترط لإقامة الحد على القاذف أمران : أحدهما : مطالبة المقذوف ، لأنه حق له كسائر حقوقه ، الثاني : ألا يأتي ببينة ، فإن كان القاذف زوجا ، اعتبر آخر ، وهو امتناعه من اللعان ، وتعتبر استدامة الطلب إلى إقامته ، فلو طلب ثم عفا سقط ، ويحد بقذف على جهة الغيرة - بفتح الغين - ويتوجه احتمال [ ص: 87 ] وأنها عذر في غيبة ونحوها ( وإن قال ) لمحصنة ( زنيت وأنت صغيرة ، وفسره بصغر عن تسع سنين لم يحد ) لأن حد القذف إنما وجب لما يلحق بالمقذوف من العار ، وهو منتف للصغر ، بل يعزر ، زاد في المغني : إن رآه الإمام ، وأنه لا يحتاج إلى طلب ، لأنه لتأديبه ( وإلا خرج على الروايتين ) وكذا في الفروع ، في اشتراط البلوغ ، جزم في الوجيز بالحد ( وإن قال لحرة مسلمة : زنيت ، وأنت نصرانية أو أمة ، ولم تكن كذلك ، فعليه الحد ) لأنه يعلم كذبه ، وإن لم يثبت ذلك على الأصح ، فإن ثبت فلا حد على الأصح ( وإن كانت كذلك ) لم يحد على الأشهر ( وقالت : أردت قذفي في الحال فأنكرها ) فهل يحد ، أو يعزر ؛ ( على وجهين ) الأصح أنه لا حد عليه ، لأن ظاهر لفظه يقتضي تعليق : وأنت نصرانية أو أمة ، بقوله : زنيت فيصير كأنه قال لها : زنيت حال النصرانية أو الرق ، ولا حد مع ذلك ، لأن ارتباط الكلام بعضه ببعض أولى من عدم ارتباطه ، قال في الفروع : ويتوجه مثله إن أضافه إلى جنون ، وفي الترغيب : إن كان ممن يجن لم يقذفه ، وفي المغني : إن ادعى أنه كان مجنونا حين قذفه ، فأنكرت ، وعرفت له حالة جنون وإفاقة ، فوجهان ، وإن ادعى رق مجهولة فروايتان ، وإن ادعى أن قذفا متقدما كان في صغر ، أو قال : زنيت مكرهة ، أو قال : يا زانية ، ثم ثبت زناها في كفر ، لم يحد كثبوته في إسلام ، وفي المبهج : إن قذفه بما أتى في الكفر حد لحرمة الإسلام ، وسأله ابن منصور : رجل رمى امرأة بما فعلت في الجاهلية ؛ قال : يحد ، وذكر القاضي : لو قال ابن عشرين لابن خمسين : زنيت من ثلاثين سنة ، لم [ ص: 88 ] يحد ، وهو سهو ( ومن قذف محصنا ، فزال إحصانه قبل إقامة الحد ، لم يسقط الحد عن القاذف ) نص عليه . حكم حاكم بوجوبه أم لا ، لأن الحد يعتبر بوقت وجوبه ، وكما لا يسقط بردته وجنونه ، وبخلاف فسق الشهود قبل الحكم لضيق الشهادة ، وعلله المؤلف بأنه حق آدمي ، وبأن الزنا نوع فسق ، واحتمال وجود الجنس أكثر من النوع إلا أن يتقدم مزيله على القذف بإقرار أو بينة .

التالي السابق


الخدمات العلمية