صفحة جزء
ومن ارتد وهو سكران لم يقتل حتى يصحو ، وتتم له ثلاثة أيام من وقت ردته ، فإن مات في سكره مات كافرا ، وعنه : لا تصح ردته . وهل تقبل توبة الزنديق ، ومن تكررت ردته ، أو من سب الله ، أو رسوله ، أو الساحر ؛ على روايتين : إحداهما : لا تقبل توبته ، ويقتل بكل حال ، والأخرى تقبل توبته كغيره .


( ومن ارتد وهو سكران ) صحت ردته في ظاهر المذهب ، وجزم به الأكثر ، وصححه في " الرعاية " كإسلامه لقول علي : إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وعلى المفتري ثمانون ، فأوجبوا عليه حد الفرية التي يأتي بها في سكره ، واعتبروا مظنتها ، ولأنه يصح طلاقه ، فصحت ردته كالصاحي ، ولأنه لا يزول بالكلية ، ولهذا يتقي المحذورات ، ويفرح بما يسره ، ويغتم بما يضره ، ويزول سكره عن قرب ، أشبه الناعس ، بخلاف المجنون ( لم يقتل حتى يصحو ) فيكمل عقله ، ويفهم ما يقال له ، وتزول شبهته ، لأن القتل جعل للزجر ( وتتم له ثلاثة أيام من وقت ردته ) لأن زوال العقل حصل بتعديه ، بخلاف الصبي فإن استمر سكره أكثر من ثلاث ، لم يقتل حتى يصحو ، ثم يستتاب عقب صحوه فإن تاب ، وإلا قتل في الحال ( فإن مات ) ، أو قتل ( في سكره مات كافرا ) لأنه هلك بعد ارتداده ، ولم ترثه ورثته من المسلمين ( وعنه : لا تصح ردته ) لأن ذلك متعلق بالاعتقاد ، والقصد ، والسكران لا يصح عقده ، أشبه المعتوه ، ولأنه زائل مكلف أشبه المجنون ، وجوابه : المنع بأنه ليس بمكلف فإن الصلاة واجبة عليه ، وعنه : يصح إسلامه فقط ، حكاها ابن البنا .

[ ص: 179 ] تنبيه : علم مما سبق أنه لا تصح ردة مجنون ، ولا إسلامه ، لأنه لا قول له ، فإن ارتد في صحته ثم جن لم يقتل في حال جنونه ، لأنه يقتل بالإصرار على الردة ، والمجنون لا يوصف بالإصرار ، فإن قتل أحد هؤلاء عزر القاتل ، ولا ضمان عليه ، لأنه قتل كافرا لا عهد له ، أشبه قتل نساء أهل الحرب .

( وهل تقبل توبة الزنديق ؛ ) وهو : المنافق الذي يظهر الإسلام ، ويخفي الكفر ( ومن تكررت ردته ، أو من سب الله ، أو رسوله ، أو الساحر ) أي : من كفر بسحره ( على روايتين ، إحداهما : لا تقبل توبته ، ويقتل بكل حال ) الأشهر : أنها لا تقبل توبتهم ، جزم بها في " الوجيز " ، وقدمها في " الفروع " ، وذكر ابن حمدان : أنها أظهر ، واختارها أبو بكر ، لأن عليا أتي بزنادقة فسألهم ، فجحدوا ، فقامت عليهم البينة ، فقتلهم ، ولم يستتبهم . رواه أحمد في مسائل عبد الله . ولأن في قبول توبته خطرا ، لأنه لا سبيل إلى الثقة به ، ولأن إبقاءه يؤدي إلى السلطة في الباطن على إفساد عقائد المسلمين ، وفيه ضرر عظيم .

فرع : من أظهر الخير وأبطن الفسق فكالزنديق في توبته في قياس المذهب ، ذكره ابن عقيل ، وحمل رواية قبول توبة الساحر على المتظاهر ، وعكسه بعكسه ، وكذا من تكررت ردته ، لقوله تعالى : إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ] النساء : 137 [ ولما روى الأثرم بإسناده ، عن ظبيان بن عمارة : أن ابن مسعود أتي برجل ، فقال له : إنه قد أتي بك مرة ، فزعمت أنك تبت ، وأراك قد عدت ، فقتله ، وعنه : لا تقبل إن تكررت ثلاثا ، أما من سب الله ، أو رسوله ، فالأصح أنها لا تقبل توبته ، لأن [ ص: 180 ] ذنبه عظيم جدا ، أشبه الزنديق ، ونقل حنبل : أو تنقصه ، وقيل : ولو تعريضا ، نقل حنبل : من عرض بشيء من ذكر الرب فعليه القتل ، مسلما كان أو كافرا ، وهو مذهب أهل المدينة ، وفي " الفصول " عن أصحابنا : لا تقبل إن سب النبي صلى الله عليه وسلم ، لأنه حق آدمي لم يعلم إسقاطه ، وإنها تقبل إن سب الله ، لأنه يقبل التوبة في خالص حقه ، وجزم به في " عيون المسائل " ، لأن الخالق منزه عن النقائص ، فلا تلحق به ، بخلاف المخلوق ، فإنه محل لها ، فافترقا ، وأما الساحر فنقل ابن هبيرة : أنها لا تقبل توبته في ظاهر المذهب ، وهو ظاهر ما نقل عن الصحابة ، ولم ينقل عن أحد منهم أنه استتاب ساحرا ، وحديث عائشة في المرأة التي أتت هاروت وماروت يدل عليه ، ولأن السحر معنى في القلب لا يزول بالتوبة ، أشبه الزنديق ( والأخرى تقبل توبته كغيره ) وهو ظاهر الخرقي ، زنديقا كان أو غيره ، روي عن علي ، وابن مسعود ، واختاره الخلال ، وقال : إنه أولى على مذهب أبي عبد الله ، وقدمه في " الكافي " و " الرعاية " ، لقوله تعالى : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ] الأنفال : 38 [ ولقوله عليه السلام : لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس . متفق عليه . ورجح هذا في " الشرح " ، وأجاب عن قتل ابن النواحة : بأنه إنما قتله لظهور كذبه في توبته ، لأنه أظهرها ، وما زال عما كان عليه من الكفر ، ويحتمل أنه قتله لغير ذلك ، وقال في رواية أبي طالب : إن أهل المدينة يقولون في الزنديق لا يستتاب ، قال أحمد : كنت أقول ذلك أيضا ، ثم هبته ، قال القاضي : وظاهره أنه رجع ، فلو زعم أن لله ولدا فقد سب الله ، بدليل قوله عليه السلام ، إخبارا عن ربه : [ ص: 181 ] يشتمني ابن آدم ، وما ينبغي له أن يشتمني ، أما شتمه إياي فزعم أن لي ولدا ولا شك أن توبته مقبولة بغير خلاف ، فإذا قبلت توبة من سب الله تعالى ، فمن سب نبيه أولى أن تقبل ، والصحيح الأولى ، لأن أدلتها خاصة ، والثانية عامة ، والخاص مقدم على العام .

فرع : الخلاف في قبول توبتهم إنما هو في الظاهر في أحكام الدنيا من ترك قتالهم وثبوت أحكام الإسلام في حقهم ، وأما قبولها في الباطن فلا خلاف فيه حيث صدق ، ذكره ابن عقيل ، والمؤلف ، وجماعة ، وفي إرشاد ابن عقيل رواية : " لا تقبل توبة زنديق باطنا " ، وضعفها ، وقال : كمن تظاهر بالصلاح إذا أتى معصية ، فتاب منها ، وإن قتل علي زنديقا لا يدل على عدم قبولها ، كتوبة قاطع طريق بعد القدرة ، وذكر القاضي ، وأصحابه رواية : لا تقبل توبة داعية إلى بدعة مضلة ، اختارها أبو إسحاق بن شاقلا ، وفي " الرعاية " : من كفر ببدعة قبلت توبته على الأصح .

التالي السابق


الخدمات العلمية