صفحة جزء
فصل : فإن عدم ذلك رجعنا إلى ما يتناوله الاسم ، والأسماء تنقسم إلى ثلاثة أقسام : شرعية ، وحقيقية ، وعرفية . فأما الشرعية ، فهي : أسماء لها موضوع في الشرع ، وموضوع في اللغة ، كالصلاة والصوم والزكاة والحج ونحوه ، فاليمين المطلقة تنصرف إلى الموضوع الشرعي ، وتتناول الصحيح منه ، فإذا حلف لا يبيع ، فباع بيعا فاسدا ، أو لا ينكح ، فنكح نكاحا فاسدا ، لم يحنث . إلا أن يضيف اليمين إلى شيء لا تتصور فيه الصحة ، مثل أن يحلف لا يبيع الخمر أو الحر ، فيحنث بصورة البيع ، وذكر القاضي فيمن قال لامرأته : إن سرقت مني شيئا وبعتيه فأنت طالق ، ففعلت ، لم تطلق . وإن حلف لا يصوم لم يحنث حتى يصوم يوما ، وإن حلف لا يصلي لم يحنث حتى يصلي ركعة ، وقال القاضي : إن حلف لا صليت صلاة ، لم يحنث حتى يفرغ مما يقع عليه اسم الصلاة . وإن حلف لا يصلي حنث بالتكبير ، وإن حلف لا يهب زيدا شيئا ولا يوصي له ولا يتصدق عليه ففعل ولم يقبل زيد حنث ، وإن حلف : لا يتصدق عليه ، فوهبه لم يحنث . وإن حلف لا يهبه فتصدق عليه حنث ، وقال أبو الخطاب : لا يحنث ، وإن أعاره لم يحنث إلا عند أبي الخطاب ، وإن وقف عليه حنث ، وإن أوصى له لم يحنث ، وإن باعه وحاباه حنث ، ويحتمل ألا يحنث .


فصل

( فإن عدم ذلك ) أي : التعيين مع عدم النية والسبب ( رجعنا إلى ما يتناوله الاسم ) لأنه دليل على إرادة المسمى ، ولا معارض له هنا ، فوجب أن يرجع إليه عملا به ، لسلامته عن المعارضة ( والأسماء تنقسم إلى ثلاثة أقسام : شرعية ، وحقيقية ، وعرفية ) ما له مسمى واحد ، كالرجل والمرأة ، تنصرف اليمين [ ص: 290 ] إلى مسماه بغير خلاف ، وما له موضوع شرعي ، وموضوع لغوي ، كالوضوء ، فتنصرف اليمين إلى الموضوع الشرعي عند الإطلاق ، لا نعلم فيه خلافا ، وما له موضوع حقيقي ، ومجاز لم يشتهر كالأسد ، فتنصرف اليمين إلى الحقيقة ، ككلام الشارع وما اشتهر مجازه حتى صارت الحقيقة مغمورة فيه فهو أقسام : منها ما يغلب على الحقيقة ، بحيث لا يعلمها أكثر الناس ، كالراوية في العرف اسم للمزادة ، وفي الحقيقة لما يستقى عليه من الحيوانات ، والظعينة في العرف للمرأة ، وفي الحقيقة الناقة التي يظعن عليها ، فتنصرف اليمين إلى المجاز ، لأنه الذي يريده بيمينه ويفهم من كلامه أشبه الحقيقة في غيره ، وسيأتي بقية أنواعها ( فأما الشرعية ، فهي : أسماء لها موضوع في الشرع ، وموضوع في اللغة ، كالصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والحج ، ونحوه ، فاليمين المطلقة تنصرف إلى الموضوع الشرعي ) لأن ذلك هو المتبادر إلى الفهم عند الإطلاق ، لأن الشارع إذا قال : صل ، تعين عليه فعل الصلاة المشتملة على الأفعال ، إلا أن يقترن بكلامه ما يدل على إرادة الموضوع اللغوي ، فكذا يمين الحالف ( وتتناول الصحيح منه ) لأن الفاسد ممنوع منه بأصل الشرع ، فلا حاجة إلى المنع من فعله باليمين ( فإذا حلف لا يبيع ، فباع بيعا فاسدا ، أو لا ينكح ، فنكح نكاحا فاسدا ، لم يحنث ) نصره في الشرح ، وقدمه الجماعة ، وجزم به في الوجيز ، لأن اليمين على ذلك تتناول الصحيح منه ، ولأنه المشروع ، وعنه : يحنث ، لوجوده صورة ، وعنه : في البيع دون النكاح الفاسد ، قاله ابن أبي موسى ، وقال أبو الخطاب : إن نكحها نكاحا مختلفا فيه فوجهان ، وقال ابن حمدان : إن اعتقد صحته حنث ، وإلا فلا ، ومقتضاه : أنه إذا كان بيعا بشرط الخيار أنه يحنث : [ ص: 291 ] ونص عليه ، لأنه بيع شرعي ، فيحنث به كاللازم ، وإن حلف : لا ملكت هذا ، فاشتراه شراء فاسدا ، لم يحنث ( وفيه احتمال ، إلا أن يضيف اليمين إلى شيء لا تتصور فيه الصحة ، مثل أن يحلف لا يبيع الخمر ، أو الحر ، فيحنث بصورة البيع ) أي : إذا قيد يمينه بممتنع الصحة كما ذكره ، فيحنث في الأصح ، بصورة البيع ، لأنه يتعذر حمل يمينه على عقد صحيح ، فتعين محلا لها ( وذكر القاضي فيمن قال لامرأته : إن سرقت مني شيئا وبعتيه ، فأنت طالق ، ففعلت ، لم تطلق ) قال في الرعاية : هو أقيس ، وخرجه السامري على الخلاف الذي ذكره ابن أبي موسى ، والشراء كالبيع ، وخالف في عيون المسائل في : إن سرقت مني شيئا وبعتيه ، كما لو حلف لا يبيع ، فباع بيعا فاسدا ، وإن حلف لتبيعنه ، فباعه بعرض بر ، وكذا نسيئة ، وقيل : ينقض يمينه .

فرع : إذا حلف لا يبيع ، أو لا يزوج فأوجب ولم يقبل المشتري والزوج - لم يحنث ، لا نعلم فيه خلافا ، لأنه لا يتم إلا بالقبول ، فلم يقع على الإيجاب بدونه ، وإن قبله حنث ، نص عليه ، وإن حلف ليتزوجن بر بعقد صحيح ، سواء كان له امرأة أو لا ، وسواء كانت نظيرتها أو أعلى منها ، إلا أن يحتال على حل يمينه بتزويج لا يحصل المقصود ، والمذهب يبر بدخوله بنظيرتها ، والمراد ـ والله أعلم ـ بمن تغمها وتتأذى بها لظاهر رواية أبي طالب ، وفي المفردات وغيرها : أو مقاربها ، وقال الشيخ تقي الدين : المنصوص أن يتزوج ويدخل ، ولا تشترط مماثلتها ، واعتبر في الروضة حتى في الجهاز ، ولم يذكر دخولا ، وإن حلف ليطلقن ضرتها ، ففي بره برجعي خلاف ، وإن حلف : لا تسريت ، فوطئ جارية [ ص: 292 ] حنث ، قدمه في الرعاية والمحرر ، وقال القاضي : لا يحنث حتى يطأ فينزل ، فحلا كان أو خصيا ، وعنه : إن عزل فلا حنث ، وجه الأول : أن التسري مأخوذ من السر ، وهو الوطء ، قال تعالى : ولكن لا تواعدوهن سرا ] البقرة : 235 [ لأن ذلك حكم تعلق بالوطء ، فلم يعتبر فيه الإنزال ولا التحصين كسائر الأحكام ، والأول أولى ( وإن حلف لا يصوم لم يحنث حتى يصوم يوما ) لأن إمساك بعض يوم ليس بصوم شرعي ، وهذا إذا لم ينو عددا ، وأقل ذلك يوم ، لأنه ليس في الشرع صوم مفرد أقل من يوم ، فلزمه لأنه اليقين ، والمذهب أنه يحنث بشروع صحيح ، وقيل : إن حنث بفعل ، وما ذكره المؤلف ، حكاه في المحرر والفروع قولا ، كقوله صوما ، وكحلفه ليفعلنه ، وإن كان صائما فدام فوجهان ( وإن حلف لا يصلي لم يحنث حتى يصلي ركعة ) بسجدتيها ، وقاله أبو الخطاب ، لأنه أقل ما ينطلق عليه اسم الصلاة ، وقيل : بلى ، إذا صلى ركعتين ، والمذهب كما قدمه في المستوعب والمحرر والرعاية ، وجزم به في الوجيز ، ونسبه في الفروع إلى الأصحاب ، أنه يحنث بالشروع الصحيح ( وقال القاضي إن حلف : لا صليت صلاة ، لم يحنث حتى يفرغ مما يقع عليه اسم الصلاة ) لأنه يطلق عليه أنه مصل ، فيجب أن يكون ما هو فيه صلاة ، قال في الشرح : ويشبه هذا ما إذا قال لزوجته : إن حضت حيضة فأنت طالق ، فإنها لا تطلق حتى تحيض ثم تطهر ، وإن قال : إن حضت فأنت طالق ، طلقت بأول الحيض ، وشمل كلامه صلاة الجنازة ، فيدخل في العموم ، وذكره أبو الخطاب ، وأما الطواف فقال المجد : ليس صلاة مطلقة ولا مضافة ، لكن [ ص: 293 ] في كلام أحمد إنه صلاة ، وقال أبو الحسين وغيره في الحديث : الطواف بالبيت مثل الصلاة في الأحكام كلها ، إلا فيما استثناه ، وهو النطق ، ولم يذكر المؤلف حكم الحج ، وحاصله أنه إذا حلف لا يحج حنث بإحرامه به ، وقيل : بفراغ أركانه ، ويحنث بحج فاسد ، وإن كان محرما فدام فوجهان ( وإن حلف لا يصلي حنث بالتكبير ) هذا قول القاضي ، لأنه يدخل في الصلاة بذلك ، ويطلق عليه أنه مصل ، فيجب أن يكون ما هو فيه صلاة ، والأول أصح ، لأن ما ذكر ثانيا موجود فيمن شرع ( وإن حلف لا يهب زيدا شيئا ، ولا يوصي له ، ولا يتصدق عليه ) ولا يعيره ، ولا يهدي له ( ففعل ولم يقبل زيد ، حنث ) ذكره الأصحاب ، وقاله ابن شريح : لأن ذلك لا عوض له ، فيحنث بالإيجاب فقط ، كالوصية ، وفي الموجز والتبصرة والمستوعب مثله في بيع ، وقاله القاضي في : إن بعتك فأنت حر ، ولأن الاسم يقع عليها بدون القبول ، لقوله تعالى : كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية الآية ] البقرة : 180 [ أراد الإيجاب ، لأن الوصية تصح قبل موت الموصي ، ولا قبول لها حينئد .

فرع : إذا نذر أن يهبه شيئا بر بالإيجاب كيمينه ، وقد يقال : يحمل على الكمال ، ذكره الشيخ تقي الدين .

( وإن حلف : لا يتصدق عليه فوهبه ، لم يحنث ) في الأصح ، لأن الصدقة نوع من الهبة ، ولا يحلف الحالف على نوع بفعل نوع آخر ، ولا يثبت للجنس حكم النوع ، ولهذا حرمت الصدقة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولم تحرم الهبة ، ولا الهدية ، [ ص: 294 ] لحديث بريرة ، وقيل : يحنث ، لما ذكرناه ( وإن حلف : لا يهبه فتصدق عليه ، حنث ) لأنه من أنواع الهبة ، كما لو أهدى إليه ، أو أعمره ، فإن أعطاه من صدقة واجبة أو نذر أو كفارة لم يحنث ، لأن ذلك حق لله ، فليس هو هبة منه ، فإن تصدق عليه تطوعا حنث ، لم يذكر ابن هبيرة عن أحمد غيره ( وقال أبو الخطاب : لا يحنث ) هذا رواية ، لأنهما يختلفان اسما وحكما ، وجه الأول : أنه تبرع بعين في الحياة فيحنث به كالهدية ، ولأن الصدقة تسمى هبة ، واختلاف التسمية لكون الصدقة نوعا من الهبة ، فتختص باسم دونها ، كاختصاص الهدية والعمرى باسمين ، ولم يخرجهما ذلك عن كونهما هبة ( وإن أعاره لم يحنث ) لأن العارية إباحة ، والهبة تمليك ، وهذا هو الصحيح ، قاله القاضي ، لأن المستعير لا يملك المنفعة ، وإنما يستحقها ، ولهذا يملك المعير الرجوع فيها ، ولا يملك المستعير إجارتها ( إلا عند أبي الخطاب ) فإنه يحنث ، لأن العارية هبة المنفعة ، وهي قائمة مقام هبة العين ، بدليل صحة مقابلة المنفعة بالعوض كالعين ( وإن وقف عليه حنث ) لأنه تبرع له بعين في الحياة ، فهو في العرف هبة ، وقيل : لا يحنث ، كوصية له ، ولأنه لا يملك على رواية ، وبناه في المغني على الملك ، فإن قلنا : يملكه حنث بمساواته الهبة ، وإن قلنا بعدم ملكه فلا ، قال ابن المنجا : ولقائل أن يقول : لا يحنث ، وإن قلنا : يملكه ، لأن الإنسان ممنوع من هبة أولاده الذكور والإناث بالسوية ، فلم يلزم من المنع من الهبة المنع من الوقف ( وإن أوصى له لم يحنث ) لأن الهبة تمليك في الحياة ، بخلاف الوصية ( وإن باعه وحاباه حنث ) قاله أبو الخطاب ، وجزم به [ ص: 295 ] في الوجيز ، لأنه ترك له بعض المبيع بغير عوض ، أو وهبه بعض الثمن ( ويحتمل ألا يحنث ) هذا وجه ، وهو أولى ، لأنها معاوضة يملك الشفيع أخذ جميع المبيع ، ولو كان هبة أو بعضه لم يملك أخذ كله ، وأطلق في الفروع الخلاف ، ويحنث بالهدية خلافا لأبي الخطاب ، وإن أضافه لم يحنث ، لأنه لم يملكه شيئا ، وإنما أباح له الأكل ، ولهذا لا يملك التصرف فيه بغيره ، وإن أسقط عنه دينا لم يحنث ، إلا أن ينوي ، لأن الهبة تمليك عين .

التالي السابق


الخدمات العلمية