صفحة جزء
[ ص: 19 ] ويشترط في القاضي عشر صفات : أن يكون بالغا ، عاقلا ، ذكرا ، حرا مسلما ، سميعا ، بصيرا ، متكلما ، مجتهدا ، وهل يشترط كونه كاتبا ؛ على وجهين .

والمجتهد من يعرف من كتاب الله وسنة رسوله - عليه السلام - الحقيقة والمجاز ، والأمر والنهي ، والمجمل والمبين ، والمحكم والمتشابه ، والخاص والعام ، والمطلق والمقيد ، والناسخ والمنسوخ ، والمستثنى والمستثنى منه ، ويعرف من السنة صحيحها من سقيمها وتواترها من آحادها ومرسلها ومتصلها ، ومسندها ومنقطعها ، مما له تعلق بالأحكام خاصة ، ويعرف ما أجمع عليه مما اختلف فيه ، والقياس وحدوده وشروطه ، وكيفية استنباطه ، والعربية المتداولة بالحجاز والشام والعراق وما يواليهم . وكل ذلك مذكور في أصول الفقه وفروعه ، فمن وقف عليه ورزق فهمه ، صلح للقضاء والفتيا ، وبالله التوفيق .


فصل

( ويشترط في القاضي عشر صفات : أن يكون بالغا عاقلا ) لأن غيرهما لا ينعقد قولهما في أنفسهما ، فلأن لا ينفذ في غيرهما بطريق الأولى ، وهما يستحقان الحجر عليهما ، والقاضي يستحقه على غيره ، وبين الحالين منافاة ، ولم يذكر أبو الفرج في كتبه : بالغا .

وفي " الانتصار " في صحة أشده لا يعرف فيه رواية . ( ذكرا ) وقاله الجمهور ، وقال ابن جرير : لا تشترط الذكورية . وجوابه قوله - عليه السلام - : لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ; لأن المرأة ناقصة العقل ، وقليلة الرأي ، ليست أهلا لحضور الرجال . ( حرا ) لأن العبد منقوص برقه ، مشغول بحقوق سيده ، كالإمامة العظمى ، لكن تصح ولاية عبد إمارة سرية ، وقسم صدقة وفيء ، وإمامة صلاة ، وفيه وجه : يجوز مطلقا ، قاله ابن عقيل وأبو الخطاب ، وقال فيه : بإذن سيد . ( مسلما ) لأن الكفر يقتضي إذلال صاحبه ، والقضاء يقتضي احترامه ، وبينهما منافاة ، وهو شرط في الشهادة ، فكذا هنا عدلا ؛ لأن الفاسق لا يجوز أن يكون شاهدا فهذا أولى ، ولا يجوز تولية من فيه نقص يمنع الشهادة .

وظاهره : ولو تائبا من قذف ، نص عليه ، وقيل : أو فسق بشبهة ، فوجهان . ( سميعا ) لأن الأصم لا يسمع كلام الخصمين . ( بصيرا ) لأن الأعمى لا [ ص: 20 ] يعرف المدعي من المدعى عليه ، ولا المقر من المقر له . ( متكلما ) لأن الأخرس لا يمكنه النطق بالحكم ، ولا يفهم جميع الناس إشارته . ( مجتهدا ) إجماعا ، ذكره ابن حزم ، وأنهم أجمعوا على أنه لا يحل لحاكم ولا لمفت تقليد رجل لا يحكم ولا يفتي إلا بقوله ؛ لأنه فاقد الاجتهاد ، إنما يحكم بالتقليد ! والقاضي مأمور بالحكم بما أنزل الله ولقوله - عليه السلام - : القضاة ثلاثة رواه أبو داود ، ورجاله ثقات . ولأن المفتي لا يجوز أن يكون عاميا مقلدا ، فالحاكم أولى .

ولكن في " الإفصاح " : أن الإجماع انعقد على تقليد كل من المذاهب الأربعة وأن الحق لا يخرج عنهم ، ثم ذكر أن الصحيح في هذه المسألة : أن قول من قال : إنه لا يجوز إلا تولية مجتهد ، فإنه إنما عني به ما كانت الحال عليه قبل استقرار ما استقر من المذاهب .

واختار في " الترغيب " ومجتهدا في مذهب إمامه للضرورة . واختار في " الإفصاح " و " الرعاية " : أو مقلدا . وقيل : يفتي به ضرورة . قال ابن بشار : ما أعيب على من يحفظ خمس مسائل لأحمد يفتي بها .

وظاهر نقل عبد الله : يفتي غير مجتهد ، ذكره القاضي ، وحمله الشيخ تقي الدين على الحاجة . فعلى من يراعي ألفاظ إمامه ومتأخرها وتقليد كبار مذهبه في ذلك ، وظاهره : أنه يحكم ولو اعتقد خلافه ؛ لأنه مقلد ، وأنه لا يخرج عن الظاهر . [ ص: 21 ] قال في " الفروع " : فيتوجه مع الاستواء الخلاف في مجتهد . ( وهل يشترط كونه كاتبا ؛ على وجهين ) .

أحدهما : لا يشترط ، نصره المؤلف وقدمه في " الكافي " ، وهو ظاهر " الوجيز " و " الفروع " ؛ لأنه - عليه السلام - كان أميا وليس من ضرورة الحكم معرفة الكتابة .

والثاني : يشترط ، قدمه في " الرعاية " ليعلم ما يكتبه كاتبه فيأمن تحريفه .

وظاهره : أنه لا يشترط غير ذلك . وشرط الخرقي والحلوانية وابن رزين والشيخ تقي الدين : أن يكون ورعا ، وقيل : وزاهدا . وأطلق فيهما في " الترغيب " وجهين .

وقال ابن عقيل : لا مغفلا ، وهو مراد .

وقال القاضي في موضع : لا يكون بليدا ، ولا نافيا للقياس .

وقال الشيخ تقي الدين : الولاية لها ركنان : القوة والأمانة ، فالقوة في الحكم ترجع إلى العلم بالعدل وتنفيذ الحكم . والأمانة ترجع إلى خشية الله - تعالى - .

وحاصله أنه يجب تولية الأمثل فالأمثل ، فالشاب بالصفات كغيره ، لكن الأسن أولى ، مع التساوي يرجح بحسن الخلق أيضا . ( والمجتهد ) مأخوذ [ ص: 22 ] من الاجتهاد : وهو استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي . ( من يعرف من كتاب الله وسنة رسوله - عليه السلام - الحقيقة ) وهي : اللفظ المستعمل في وضع أول . ( والمجاز ) وهو اللفظ المستعمل في غير وضع أول . زاد بعضهم على وجه يصح . ( والأمر ) وهو : القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور به . ( والنهي ) وهو : اقتضاء كف عن فعل ، لا بقول كف . ( والمجمل ) وهو : ما لا يفهم منه عند الإطلاق شيء . ( والمبين ) وهو : إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي والوضوح .

وقال الشافعي : اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول متشعبة الفروع . ( والمحكم ) المتضح المعنى . ( والمتشابه ) مقابله : إما لاشتراك ، أو ظهور تشبيه . ( والخاص ) قصر العام على بعض مسمياته . ( والعام ) ما دل على مسميات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلق أجزائه . ( والمطلق ) ما دل على شائع في جنسه . ( والمقيد ) وهو ما دل على شيء معين . ( والناسخ ) فهو : الرافع لحكم شرعي . ( والمنسوخ ) وهو : ما ارتفع شرعا بعد ثبوته شرعا . ( والمستثنى ) وهو المخرج بإلا ، وما في معناها من لفظ شامل له . ( والمستثنى منه ) وهو : العام المخصوص بإخراج بعض ما دل عليه بإلا ، أو ما في معناها . ( ويعرف من السنة صحيحها ) وهو : ما نقله العدل الضابط عن مثله من غير شذوذ ولا علة . ( من سقيمها ) وهو ما لم توجد فيه شروط الصحة كالمنقطع والمنكر والشاذ وغيرها . ( وتواترها ) هو : الخبر الذي نقله جمع لا يتصور تواطؤهم على الكذب ، مستويا في ذلك طرفاه ووسطه . [ ص: 23 ] الحق أنه لا ينحصر في عدد ، بل يستدل بحصول العلم على حصول العدد ، والعلم الحاصل عنه ضروري في الأصح من آحادها ، وهو ما عدا التواتر ، وليس المراد به أن يكون راويه واحدا ، بل كل ما لم يبلغ التواتر فهو آحاد . ( ومرسلها ) وهو : قول غير الصحابي : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وأما مرسل الصحابي فهو حجة عند الجمهور . ( ومتصلها ) وهو : ما اتصل إسناده ، وكان كل واحد من رواته سمعه ممن فوقه ، سواء كان مرفوعا أو موقوفا ، ( ومسندها ) وهو : ما اتصل إسناده من راويه إلى منتهاه . وأكثر استعماله فيما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - . ( ومنقطعها ) هو : ما لم يتصل سنده ، على أي وجه كان الانقطاع . ( مما له تعلق بالأحكام خاصة ) . وظاهره : أنه لا يجب عليه حفظ القرآن ، وإنما المتعين عليه حفظ خمسمائة آية كما نقله المعظم ؛ لأن المجتهد هو من يعرف الصواب بدليله ، كالمجتهد في القبلة ، ولكل واحد مما ذكرنا دلالة لا يمكن معرفتها إلا بمعرفته ، فوجب معرفة ذلك ليعرف دلالته ، ووقف الاجتهاد على معرفة ذلك . ( ويعرف ما أجمع عليه ) وهو : اتفاق المجتهدين من هذه الأمة في كل عصر على أمر ( مما اختلف فيه ) . ( والقياس ) وهو : رد فرع إلى أصل بعلة . ( وحدوده ) على ما ذكر في أصول الفقه . ( وشروطه ) بعضها يرجع إلى الأصل ، وبعضها إلى الفرع ، وبعضها إلى العلة . ( وكيفية استنباطه ) على الكيفية المذكورة في محالها . ( والعربية ) هي : الإعراب ، أو الألفاظ العربية . والأشهر أنها اللغة العربية من حيث اختصاصها بأحوال هي : الإعراب ، لا توجد في غيرها من اللغات . ( المتداولة [ ص: 24 ] بالحجاز والشام والعراق ) واليمن ، قاله في " المستوعب " و " المحرر " . ( وما يواليهم ) ليعرف به استنباط الأحكام من أصناف علوم الكتاب والسنة . وقد نص أحمد على اشتراط ذلك للفتيا ، فالحكم مثله بل أشد . ( وكل ذلك مذكور في أصول الفقه وفروعه ، فمن وقف عليه ) أو على أكثره ، جزم به في " المحرر " و " الوجيز " . ( ورزق فهمه ، صلح للفتيا والقضاء ، وبالله التوفيق ) لأن العالم بذلك يتمكن من التصرف في العلوم الشرعية ووضعها في مواضعها .

قال أبو محمد الجوزي : من حصل أصول الفقه وفروعه فمجتهد ، ولا يقلد أحدا . وعنه : يجوز . وقيل : مع ضيق الوقت . وفي " الرعاية " : كخوفه على خصوم مسافرين فوت رفقتهم في الأصح ، ويتحرى الاجتهاد في الأصح .

مسائل : الأولى : تقدم أن العدالة شرط ، فلا تصح تولية فاسق بفعل محرم إجماعا ، فإن فسق بشبهة فوجهان . وما منع تولية القضاء منع دوامها ، وقيل : الفسق الطارئ يمنع تولية القضاء ودوامها ، وفي الإمامة العظمى روايات : ثالثها : يمنع انعقادها لا دوامها ، قال في " المحرر " : وما فقد منها في الدوام أزال الولاية ، إلا فقد السمع والبصر فيما ثبت عنده ولم يحكم به ، فإن ولاية حكمه باقية فيه . قال في " الرعاية " : فإن نسي الفقه أو خرس ، قال ابن حمدان : ولم تفهم إشارته ، أو فسق ، أو زال عقله بجنون أو سكر محرم أو إغماء ، أو عمي انعزل ، ويلزم المدعي أن يصبر حتى يفرغ له الحاكم من شغله ، وله ملازمة [ ص: 25 ] غريمه حتى يفرغ إن كانت بينته حاضرة أو قريبة ، وإن كانت غائبة بعيدة فوجهان . الثانية : تصح فتيا مستور الحال في الأصح ، وإن كان عبدا أو امرأة أو قرابة ، أو أخرس تفهم إشارته أو كتابته ، أو مع جلب نفع أو دفع ضرر ، وقيل : وعداوة ، وللحاكم أن يفتي . وقيل : لا فيما يتعلق بالقضاء دون الطهارة والصلاة ، ونحوهما . الثالثة : يحرم التساهل في الفتيا واستفتاء من عرف بذلك ، فإن عرف ما سئل عنه وجوابه ، أجاب سريعا . ويحرم أن يتتبع الحيل المحرمة والمكروهة والترخص لمن أراد نفعه ، والتغليظ لمن أراد ضره ، وإن حسن قصده في حيلة لا شبه فيها ، ولا مفسدة ليخلص بها حالفا من يمينه ، كقصة أيوب - عليه السلام - ، جاز . ويحرم التحيل لتحليل حرام أو تحريم حلال بلا ضرورة . الرابعة : يمنع من الفتيا في حال ليس للحاكم أن يحكم فيها فإن أفتى وأصاب كره وصح ، وقيل : لا يصح ، وله أخذ رزق من بيت المال ، وإن تعين أنه يفتي وله كفاية فوجهان .

وإن كان اشتغاله بها وبما يتعلق بها يقطعه عن نفقته ونفقة عياله ، فله أخذه ، فإن أخذه لم يأخذ على فتياه أجرة ، ومع عدمه له أخذ أجرة خطه لا فتياه . وإن جعل له أهل البلد من أموالهم رزقا ليتفرغ لفتاويهم جاز . وله قبول هدية ، وقيل : يحرم إن كانت ليفتيه بما يريده دون غيره أو لنفعه بجاهه أو ماله .

ويقدم الأعلم على الأورع في الأصح ، ويجوز تقليد المفضول مع وجود [ ص: 26 ] الأفضل وإمكان تولية سواه في الأقيس ، ولا يكفيه قول من لم تسكن نفسه إليه منهما . الخامسة : يلزم كل مقلد أن يلتزم بمذهب معين في الأشهر ، فلا يقلد غير أهله ، وقيل : بلى ، وقيل : ضرورة ، فإن التزم فيما أفتى به أو عمل به أو ظنه حقا أو لم يجد مفتيا لزمه قبوله ، وإلا فلا .

ولا تجوز الفتوى في علم الكلام بل ينهى السائل عنه ، والعامة أولى ، ويؤمر الكل بالإيمان المجمل ، وما يليق بالله - تعالى - ، ولا يجوز التقليد فيما يطلب فيه الجزم ، ولا إتيانه بدليل ظني والاجتهاد فيه ، ويجوز فيما يطلب فيه الظن ، وإثباته بدليل ظني ، والاجتهاد فيه ، ولا اجتهاد في القطعيات ، ولا الإجماع الظني ، وإن نهاه في مسألة عن الحكم فيها ، فقال ابن حمدان : يحتمل وجهين .

التالي السابق


الخدمات العلمية