صفحة جزء
[ ص: 29 ] باب أدب القاضي . ينبغي أن يكون قويا من غير عنف ، لينا من غير ضعف ، حليما ذا أناة وفطنة ، بصيرا بأحكام الحكام قبله ، وإذا ولي في غير بلده ، سأل عمن فيه من الفقهاء والفضلاء والعدول . وينفذ عند مسيره من يعلمهم يوم دخوله ليتلقوه . ويدخل البلد يوم الاثنين أو الخميس أو السبت ، لابسا أجمل ثيابه ، فيأتي الجامع فيصلي ركعتين ويجلس مستقبل القبلة ، فإذا اجتمع الناس ، أمر بعهده فقرئ عليهم ، وأمر من ينادي من له حاجة فليحضر يوم كذا . ثم يمضي إلى منزله ، وينفذ فيتسلم ديوان الحكم من الذي كان قبله . ثم يخرج في اليوم الذي وعد بالجلوس فيه على أعدل أحواله ، غير غضبان ولا جائع ولا شبعان ولا حاقن ولا مهموم بأمر يشغله عن الفهم فيسلم على من يمر به ، ثم يسلم على من في مجلسه ، ويصلي تحية المسجد إن كان في مسجد ، ويجلس على بساط ، ويستعين بالله ويتوكل عليه ويدعوه سرا أن يعصمه من الزلل ويوفقه للصواب ولما يرضيه من القول والعمل . ويجعل مجلسه في مكان فسيح كالجامع والفضاء والدار الواسعة في وسط البلد إن أمكن .


باب أدب القاضي . الأدب : بفتح الهمزة والدال وضمها ، لغة : إذا صار أدبيا في خلق أو علم . فأدب القاضي : أخلاقه التي ينبغي له أن يتخلق بها ، والخلق صورته الباطنة . ( ينبغي ) أي : يسن . ( أن يكون قويا من غير عنف ) لئلا يطمع فيه الظالم ، والعنف ضد الرفق . ( لينا من غير ضعف ) لئلا يهابه صاحب الحق ، وظاهر " الفصول " يجب ذلك . ( حليما ) لئلا يغضب من كلام الخصم ، فيمنعه ذلك من الحكم بينهم ، ( ذا أناة ) الأناة : اسم مصدر ، لئلا يؤدي إلى عجلته . ( وفطنة ) لئلا يخدع كغيره . ( بصيرا بأحكام الحكام قبله ) لقول علي : لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضيا حتى يكون فيه خمس خصال : عفيف ، حليم ، عالم بما كان قبله ، يستشير ذوي الألباب ، لا يخاف في الله لومة لائم ، ورعا ليؤمن منه مع ذلك أخذ ما لا يحل ، عفيفا : هو الذي يكف عن الحرام ، ولأنه لا يطمع في ميله معه بغير حق . فرع : إذا افتأت عليه الخصم ، ففي " المغني " : له تأديبه والعفو . وفي " الفصول " يزجره فإن عاد عزره . وفي " الرعاية " ينتهره ويصيح عليه قبل ذلك . وظاهره : يختص بمجلس الحكم ، وفيه نظر كالإقرار فيه وفي غيره ، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك لكثرة المتظلمين على الحكام وأعوانهم ، فجاز فيه وفي غيره . [ ص: 30 ] ولهذا شق رفعه إلى غيره ، فأدبه بنفسه مع أنه حق له . ( وإذا ولي في غير بلده سأل عمن فيه من الفقهاء والفضلاء والعدول ) ليعرف حالهم ، حتى يشاور من هو أهل للمشاورة ، ويقبل شهادة من هو من أهل العدالة . ( وينفذ عند مسيره من يعلمهم يوم دخوله ليتلقوه ) لأن في تلقيه تعظيما له ، وذلك طريق لقبول قوله ونفوذ أمره ، وقال جماعة : يأمرهم بتلقيه . ( ويدخل البلد يوم الاثنين أو الخميس أو السبت ) كذا في " المحرر " و " الوجيز " و " الفروع " ؛ لقوله - عليه السلام - : بورك لأمتي في سبتها وخميسها ، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم من سفر قدم يوم الخميس ، ولأن الاثنين يوم مبارك . وفي " الكافي " : يستحب أن يدخل يوم الخميس . وذكر آخرون يستحب يوم الاثنين . فإن لم يقدر فيوم الخميس . وفي " المستوعب " وغيره : أو السبت . ( لابسا أجمل ثيابه ) أي : أحسنها ؛ لأن الله جميل يحب الجمال . ويستحب أن تكون سودا ، وإلا فالعمامة ، فقد قال في " التبصرة " : وكذا أصحابه ، وظاهر كلامهم غير السواد أولى للأخبار . وأنه يدخل ضحوة لاستقبال الشهر ، ولا يتطير بشيء ، وإن تفاءل فحسن . ( فيأتي الجامع ) لأنه الموضع الذي يجتمع فيه أهل البلد للطاعة ، وهو أوسع الأمكنة . ( فيصلي فيه ركعتين ) لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد فصلى فيه ركعتين . ( ويجلس مستقبل القبلة ) لأن خير المجالس ما [ ص: 31 ] استقبل به القبلة . ( فإذا اجتمع الناس أمر بعهده فقرئ عليهم ) أي : على الحاضرين ليعلموا توليته ، ويعلموا احتياط الإمام على اتباع أحكام الشرع والنهي عن مخالفته ، وقدر المولى عنده ، ويعلموا حدود ولايته وما فوض إليه الحكم فيها . ( وأمر من ينادي من له حاجة فليحضر يوم كذا ) ليعلم من له حاجة فيقصد الحضور لفصل حاجته . وفي " التبصرة " : وليقل من كلامه إلا لحاجة للخبر . ( ثم يمضي إلى منزله ) ليستريح من نصب سفره ، ويعد أمره ويرتب نوابه ، ليكون خروجه على أعدل أحواله . ( وينفذ فيتسلم ديوان الحكم ) بكسر الدال ، وحكي فتحها ، وهو فارسي معرب . ( من الذي كان قبله ) وهو : الدفتر المنصوب ليثبت حجج الناس ووثائقهم وسجلاتهم وودائعهم ، ولأنه الأساس الذي يبنى عليه وهو في يد الحاكم بحكم الولاية ، وقد صارت إليه ، فوجب أن ينتقل ذلك إليه . قال في " التبصرة " وليأمر كاتبا ثقة يثبت ما تسلمه بمحضر عدلين . ( ثم يخرج في اليوم الذي وعد بالجلوس فيه على أعدل أحواله غير غضبان ولا جائع ولا شبعان ولا حاقن ولا مهموم بأمر يشغله عن الفهم ) ليكون أجمع لقلبه وأبلغ في تيقظه للصواب ، ولأنه - عليه السلام - قال : " لا يقضي القاضي وهو غضبان " . متفق عليه من حديث أبي بكرة . صرح بالغضب والباقي [ ص: 32 ] بالقياس عليه . ( فيسلم على من يمر به ) من المسلمين ، ولو كان صبيا ؛ لأن السنة سلام المار على الممرور به . ( ثم يسلم على من في مجلسه ) لأن السنة سلام الداخل على أهل المجلس . ( ويصلي تحية المسجد إن كان في مسجد ) لقوله - عليه السلام - : " إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين " . والأخير قاله معظم الأصحاب . والأفضل الصلاة . ( ويجلس على بساط ) ونحوه في الأشهر ؛ لأنه أبلغ في هيبته وأوقع في النفوس وأعظم لحرمة الشرع . وظاهره : أنه لا يجلس على التراب ولا على حصير المسجد . لكن قال في " الشرح " : وما ذكر من جلوسه على البساط دون تراب وحصير لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أحد من خلفائه ، والاقتداء بهم أولى ، فيكون وجوده وعدمه سواء . وفي " المستوعب " : أنفذ بساطا أو لبادا أو حصيرا أو غير ذلك ليفرش له في مجلس حكمه . وفي " الرعاية " : بسكينة ووقار . وفي " الكافي " : ويبسط تحته شيئا يجلس عليه ليكون أوقر له . ( ويستعين بالله ويتوكل عليه ويدعوه سرا أن يعصمه من الزلل ويوفقه للصواب ولما يرضيه من القول والعمل ) لأن ذلك مطلوب مطلقا ، ففي وقت الحاجة أولى ، والقاضي أشد الناس إليه حاجة . ( ويجلس مجلسه في مكان فسيح كالجامع ) ويصونه عما يكره . ( والفضاء والدار الواسعة في وسط البلد إن أمكن ) ليكون ذلك أوسع على الخصوم وأقرب إلى [ ص: 33 ] العدل ، وعلم منه أنه لا يكره القضاء في الجامع والمساجد ، لحديث كعب بن مالك متفق عليه ، وروي عن عمر وعثمان وعلي : أنهم كانوا يقضون في المسجد . وقال مالك : هو السنة . والقضاء فيه من أمر الناس القديم ، فإن اتفق لأحد من الخصوم مانع من دخوله كحيض وكفر ، وكل وكيلا ، أو ينتظر حتى يخرج فيحاكم إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية