صفحة جزء
[ ص: 188 ] كتاب الشهادات .

تحمل الشهادة وأداؤها فرض على الكفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين ، وإن لم يقم بها من يكفي تعينت على من وجد ، قال الخرقي : ومن لزمته الشهادة فعليه أن يقوم بها على القريب والبعيد ، لا يسعه التخلف عن إقامتها وهو قادر على ذلك .

ولا يجوز لمن تعينت عليه أخذ الأجرة عليها ، ولا يجوز ذلك لمن لم تتعين عليه في أصح الوجهين .


كتاب الشهادات .

وهي جمع شهادة ، وهي الإخبار عما شوهد أو علم ، ويلزم من ذلك انعقادها ، ومن ثم كذب الله المنافقين في قولهم : نشهد إنك لرسول الله [ المنافقون : 1 ] لأن قلوبهم لم تواطئ ألسنتهم ، والشهادة يلزم منها ذلك ، فإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم ، وإذا لم يصدق إطلاق ( نشهد ) انتهى .

قال الجوهري : الشهادة خبر قاطع ، فتطلق على التحمل ، تقول : شهدت ، بمعنى تحملت ، وعلى الأداء ، تقول : شهدت عند القاضي شهادة ؛ أي : أديتها ، وعلى المشهود به تقول : تحملت شهادة ، يعني المشهود به ، واشتقاقها من المشاهدة ؛ لأن الشاهد يخبر عما شاهده ، وتسمى بينة لأنها تبين ما التبس .

وهي حجة شرعية تظهر الحق ولا توجب ، والإجماع منعقد على مشروعيتها .

وسنده قوله تعالى : واستشهدوا شهيدين من رجالكم [ البقرة : 282 ] وأشهدوا ذوي عدل منكم [ الطلاق : 2 ] وأشهدوا إذا تبايعتم [ البقرة : 282 ] والسنة مستفيضة بذلك ، والحاجة داعية إلى ذلك ؛ لحصول التجاحد بين الناس ( تحمل الشهادة ) أي : المشهود به ، فهو مصدر بمعنى المفعول ( وأداؤها فرض على الكفاية ) لقوله تعالى : [ ص: 189 ] ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه [ البقرة : 283 ] وإنما خص القلب بالإثم ؛ لأنه موضع العلم بها ، ولأنها لو لم تكن كذلك ، لامتنع الناس من التحمل والأداء ، فيؤدي إلى ضياع الحقوق ، ولأنها أمانة فلزم أداؤها كسائر الأمانات ، وشأن فرض الكفاية ( إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين ) وفي " المغني " و " الشرح " : في إثمه بامتناعه مع وجود غيره ؛ وجهان :

أحدهما : يأثم ؛ لأنه قد تعين عليه بدعائه ، ولأنه منهي عن الامتناع .

والثاني : لا ؛ لأن غيره يقوم مقامه فلم يتعين في حقه ، كما لو لم يدع إليها ، فظاهره أنه لا فرق .

والأولى أنه خاص بالتحمل ، وإذا وجب تحملها ففي وجوب كتابتها لتحفظ وجهان ( وإن لم يقم بها من يكفي تعينت على من وجد ) فتصير فرض عين ، نص عليه ، إن دعي وقدر بلا ضرر في بدنه أو عرضه أو ماله أو أهله ؛ لقوله تعالى : ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ، ولأنها أمانة فلزم أداؤها كالوديعة ( قال الخرقي : من لزمته الشهادة فعليه أن يقوم بها على القريب والبعيد ، لا يسعه التخلف عن إقامتها وهو قادر على ذلك ) ظاهره : أن أداء الشهادة فرض عين وهو المنصوص لظاهر الآيات .

ولقوله تعالى : إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها [ النساء : 58 ] [ ص: 190 ] وقيل : بل أداؤها فرض كفاية ، جزم به أبو الخطاب والمؤلف في كتبه .

فعلى هذا : إذا كان المتحمل جماعة فالأداء متعلق بالجميع ، فإذا قام به من يكفي سقط عن الجميع ، وإن امتنع الكل أثموا ، وإن لم يوجد إلا من يكفي تعين عليه ، كما لو وجد مؤذن واحد ـ ولو كان عبدا لم يمنعه سيده ـ لصلاة الفرض ، فإن أدى شاهد وأبى الآخر ، وقال : احلف أنت بدلي ، فهل يأثم ؛ فيه وجهان .

فعلى ما ذكره الخرقي يتعين على كل من المتحملين القيام بالشهادة ، كما تجب على المكلف الصلاة ، وسواء كان المشهود عليه نسبيا أو غيره ، لكن بشرط أن يقدر على أدائها ، فلو كان عاجزا عن أدائها لحبس أو مرض لم يلزمه ، إذ جميع التكاليف ملحوظ فيها القدرة ، ولا بد مع ذلك أن لا يلحقه ضرر ، فإن كان يلحقه ضرر في نفسه أو ماله لم يلزمه ؛ لقوله تعالى ولا يضار كاتب ولا شهيد [ البقرة : 282 ] على أن يكون مبنيا للمفعول كما صرح به ابن عباس ، حيث قرأ : ( ولا يضارر ) بالفتح .

وقيل : مبنية للفاعل ، قاله عمر ، يقرأ : ( ولا يضارر ) بالكسر فيخرج من هذا ؛ لأن النهي إذا للشاهد عما يطلب منه ، أو عن التحريف والزيادة والنقصان .

وقول النبي صلى الله عليه وسلم لا ضرر ولا إضرار ولأن القاعدة أن الإنسان لا يضر نفسه لنفع غيره ، ومن ثم إذا عجز الشاهد عن المشي فأجرة المركوب والنفقة على رب الشهادة ، كنفقة المحرم في الحج ، وهذا إذا كان دون مسافة قصر .

[ ص: 191 ] وقيل : ما يرجع إلى منزله ليومه ، حكاه ابن حمدان ، وقيل : إن قل الشهود وكثر أهل البلد فهي فرض عين ، وإلا ففرض كفاية ، والأداء مختص بمجلس الحاكم ، وظاهر إطلاق المؤلف ، وأورده ابن حمدان مذهبا مطلقا ، والذي أورده في " المحرر " و " الوجيز " : أنه يختص المال وكل حق آدمي .

فرع : إذا دعي فاسق إلى شهادة ، فله الحضور مع عدم غيره ، ذكره في " الرعاية " ، ومراده لتحملها .

وفي " المغني " وغيره : إن التحمل لا تعتبر له العدالة ، فلو لم يؤد حتى صار عدلا قبلت ( ولا يجوز لمن تعينت عليه أخذ الأجرة عليها ) وكذا في " المستوعب " ؛ لئلا يأخذ العرض عن فرض العين ( ولا يجوز ذلك لمن لم يتعين عليه في أصح الوجهين ) قدمه في " المحرر " و " الرعاية " ، وصححه في " الفروع " ؛ لأن فرض الكفاية إذا قام به البعض وقع منهم فرضا ، وجزم به في " الوجيز " وعبر عنه بالجعل كـ " المحرر " .

وفي " الفروع " : جمع بينهما .

والثاني : يجوز ؛ لأن النفقة على عياله فرض عين فلا يشتغل عنه بفرض كفاية ، قال أبو الخطاب : وأصل ذلك في أخذ الأجرة على القرب .

وفي " المغني " : من له كفاية فليس له الأخذ ، ومن ليس له كفاية ، ولا تعينت [ ص: 192 ] عليه فله أخذها ، وإلا فاحتمالان ، وقيل : يباح مع التعيين للحاجة ، وقيل : يجوز مع التحمل ، وقيل : أجرته في بيت المال كمزك ومعرف ومترجم ومفت ومقيم حد وقود وحافظ مال بيت المال ومحتسب وخليفة .

التالي السابق


الخدمات العلمية