صفحة جزء
الثاني : استعمال المروءة وهو فعل ما يجمله ويزينه ، وترك ما يدنسه ويشينه فلا تقبل شهادة المصافع والمتمسخر والمغني والرقاص واللاعب بالشطرنج والنرد والذي يتغذى في السوق ، ويمد رجليه في مجمع الناس ، ويحدث بمباضعة أهله وأمته ، ويدخل الحمام بغير مئزر ، ونحو ذلك ، فأما الشين في الصناعة كالحجام والحائك والنخال والنفاط والقمام والزبال والمشعوذ والدباغ والحارس والقراد والكباش ، فهل تقبل شهادتهم إذا حسنت طرائقهم ؛ على روايتين .


( الثاني : استعمال المروءة ) وهي بالهمز بوزن سهولة : الإنسانية ، قال الجوهري : ولك أن تشدد ( وهو فعل ما يجمله ويزينه ، وترك ما يدنسه ويشينه ) عادة ؛ لأن من فقدها فقد اتصف بالدناءة والسقاطة ، [ ص: 226 ] وكلامه لا تحصل الثقة به ( فلا تقبل شهادة المصافع ) قال الجوهري : الصفع : كلمة مولدة ، فالمصافع إذن من يصفع غيره ، ويمكن غيره من قفاه فيصفعه ( والمتمسخر والمغني والرقاص ) أي : كثير الرقص ؛ لأن ذلك سخف ودناءة ، فمن رضيه لنفسه واستحسنه فليست له مروءة ، ولا تحصل الثقة بقوله .

وحاصله : أن كلام المؤلف مشعر بأن شهادة من ذكر لا تقبل لعدم المروءة .

قال ابن المنجا : وفيه نظر ، وهو أن المتصف بخصلة مما ذكر ينبغي أن ينظر فيما اتصف به ، فإن كان محرما كان المانع من قبول شهادته كونه فاعلا للمحرم ، لا يقال : فعل المحرم مرة لا يمنع من قبول شهادته ؛ لأن الكلام مفروض فيمن هو متصف بذلك مستمر عليه مشهور به ، وذلك يقتضي المداومة عليه ، والمداومة على الصغيرة كالكبيرة في رد الشهادة ، وإن كان ما اتصف به غير محرم ، كان المانع من قبول شهادته كونه فعل دناءة وسفها ، وذلك من فقد المروءة .

فقوله : ( لا تقبل شهادة المصافع ) إلى آخره ، ففعل كل واحد منها دناءة وسفه من غير تحريم ؛ لأنها من الشرع ولم يرد ، ويلتحق بما ذكره المؤلف حكاية ما يضحك به الناس ، ونارنجيات وتعريته وبوله في شارع ، وكشف رأسه أو بطنه أو صدره أو ظهره في موضع لم تجر العادة بكشفه فيه ، وتحريش البهائم والجوارح للصيد ، ودوام اللعب والمعالجة بشيل الأحجار والخشب الثقال ، وما [ ص: 227 ] عده الناس سفها كمتزي بزي يسخر منه .

تنبيه : يكره غناء ، قاله الخلال وصاحبه ، واختاره القاضي لحديث عائشة : وعندي جاريتان تغنيان . الخبر .

وقال عمر : الغناء زاد الراكب . وقال جماعة منهم صاحب " المغني " : هو حرام .

قال في " الترغيب " : اختاره الأكثر ؛ لقوله تعالى : واجتنبوا قول الزور [ الحج : 30 ] .

قال ابن الحنفية : هو الغناء . وقال ابن مسعود وابن عباس في قوله : ومن الناس من يشتري لهو الحديث [ لقمان : 6 ] : هو الغناء .

وعن أبي أمامة مرفوعا : أنه نهى عن شراء المغنيات وبيعهن والتجارة فيهن وأكل أثمانهن رواه الترمذي .

فعلى هذا : ترد شهادته لفعله المحرم ، وعلى الأول فعله دناءة وسفه .

وقال أحمد : يبيع الوصي جارية الطفل على أنها غير مغنية .

قال أحمد ـ أيضا ـ : الغناء ينبت النفاق في القلب ، لا يعجبني .

وذكر في " الشفا " الإجماع على كفر من استحله ، وفي " المستوعب " و " الترغيب " وغيرهما : يحرم مع آلة بلا خلاف بيننا .

[ ص: 228 ] وكذا قالوا هم وابن عقيل : إن استماعه من النساء الأجانب يحرم قولا واحدا ، وإن داومه أو اتخذه صناعة بقصد ، أو اتخذ غلاما أو جارية يجمع عليهما ، ردت شهادته مطلقا .

مسائل : الأولى : يحرم مزمار وطنبور ونحوهما ، نص عليه ، فمن أدام استعمالها ردت شهادته ، وكذا عود وجنك ؛ لأنها تطرب وتفعل في طباع غالب الناس ما تفعله المسكرات .

وقال عليه السلام : ليكونن من أمتي أناس يستحلون الخمر والمعازف مختصر من البخاري .

والمعازف : الملاهي ، قاله الجوهري وغيره ، وقال بعض العلماء : المزمار مباح لحديث نافع عن ابن عمر .

وجوابه : الفرق بين السماع والاستماع ، بدليل سجدة التلاوة ، والمحرم إنما هو الاستماع ، مع أن أبا داود قال : الحديث منكر .

وحاصله : أنه يحرم استماع كل ملهاة مع غناء وغيره في سرور وغيره ، وكره أحمد الطبل ، قاله في " الرعاية " لغير حرب .

الثانية : الضرب بالقضيب مكروه إذا انضم إليه تصفيق ورقص ، وإن خلا عن ذلك لم يكره ؛ لأنه ليس بآلة لهو ولا يطرب ولا يسمع منفردا ، ذكره في " الشرح " و " الرعاية " ، والتغيير يتبع الغناء الذي معه إن حرم حرم ، وإن كره كره ، وقيل : يحرم مطلقا .

قال أحمد : أكره التغيير ؛ لأنه يلذ ويطرب ، وقال : لا يسمع التغيير ، فقيل : هو [ ص: 229 ] بدعة . فقال : حسبك .

وفي " الكافي " : من أدمن على شيء من ذلك ردت شهادته ؛ لأنه إما معصية وإما دناءة .

الثالثة : يباح الدف ؛ لأنه لو كان محرما لما أباحه النبي صلى الله عليه وسلم في العرس ، ذكره السامري ولم يفرق ، وذكر أصحابنا وغيرهم أنه مكروه في غير النكاح ، روي عن عمر ، ذكره في " الشرح " ، قيل : والختان . وقيل : وسرور حادث غيرهما ، لكن إن ضرب به الرجال تشبيها بالنساء كره ذلك ، ذكره في " الكافي " و " الشرح " و " الرعاية " ، الرابعة : الحداء بضم الحاء ، وقيل : بكسرها ، لا بأس به ، ولذلك ينشد الأعراب سائر أنواع الإنشاد ما لم يخرجه إلى حد الغناء ، ذكره في " الشرح " وغيره ، وقيل : هو كالغناء .

الخامسة : قال الشافعي رضي الله عنه : الشعر كالكلام ، حسنه كحسنه ، وقبيحه كقبيحه .

قال أحمد ـ في رواية ابن منصور ـ : ما يكره منه ؛ قال : الهجاء والرقيق الذي يشبب بالنساء ، وأما الكلام الجاهلي فما أنفعه .

وسأله عن الخبر : لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير من أن يمتلئ شعرا فتلكأ ، فذكر له قول النضر : لم تمتلئ أجوافنا ؛ لأن فيها القرآن وغيره ، وهكذا كان في الجاهلية ، فأما اليوم فلا ، فقال : ما أحسن ما قال ، واختار جماعة قول أبي عبيد : أن يغلب عليه .

قال في " الفروع " : وهو أظهر ، وإن أفرط شاعر بالمدحة بإعطائه [ ص: 230 ] وعكسه بعكسه ، أو شبب بمدح خمر أو بأمرد ، فسق ، لا إن شبب بامرأته أو أمته ، ذكره القاضي .

السادسة : تكره قراءة الألحان ، قاله أحمد ، وقال : بدعة لا تسمع ، كل شيء محدث لا يعجبني ، إلا أن يكون طبع الرجل كأبي موسى ، ونقل جمع : أو يحسنه بلا تكلف .

وقال جماعة : إن غيرت النظم حرمت ، وإلا فوجهان في الكراهة ، وفي " الوسيلة " : يحرم . نص عليه .

وعنه : يكره ، وقيل : لا ، ولم يفرق ( واللاعب بالشطرنج ) وهو محرم في قول علي ، قال : وهو ميسر العجم ، وأبي موسى وأبي سعيد وابن عمر ، وقال : هو شر من النرد ، قال مالك : بلغنا أن ابن عباس ولي مال يتيم وهو فيها فأحرقها ، ومر علي على قوم يلعبون به ، فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ؛ ! رواه البيهقي ، وقال : هو الأشبه بمذهب الشافعي .

وقال مالك : قال الله تعالى : فماذا بعد الحق إلا الضلال [ يونس : 32 ] وهذا ليس من الحق فيكون من الضلال ، ولا نسلم على لاعب به ، نص عليه ، فأما إن كان بعوض أو ترك واجب أو فعل محرم فهو محرم إجماعا ( والنرد ) هو محرم ، وإن خلا عن قمار ؛ لما روى بريدة مرفوعا ، قال : من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه رواه مسلم . والنرد : اسم أعجمي معرب ، وشير : بمعنى حلو .

وروى أبو موسى مرفوعا ، قال : من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله [ ص: 231 ] رواه مالك وأحمد وغيرهما .

قال أحمد : النرد أشد من الشطرنج ، قال الأصحاب : إنما شدد فيه ؛ لأنه لا يسوغ فيه الاجتهاد .

فائدة : ذكر ابن عقيل أن حكم اللعب بالأربعة عشر والصدر ـ وهو حفر تجعل في الأرض والكعاب ـ حكم النرد .

وعن أبي موسى مرفوعا : من لعب بالكعاب فقد عصى الله ورسوله رواه أحمد ولأنه من الميسر ، والحمام : ـ أي : اللاعب بها ـ فإن قصد المراهنة وأخذ حمام غيره حرم ، وإن كان عبثا ولهوا فهو دناءة وسفه .

قال أحمد : من لعب بالحمام الطيارة يراهن عليها أو يسرحها من المواضع لعبا ، لم يكن عدلا ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا سرح حماما ، ثم أتبعه بصره ، فقال : شيطان يتبع شيطانا فأما إن قصد بتعليمها حمل الكتب بما تدعو الحاجة إليه ، واستفراخها ، أو للأنس بأصواتها ، جاز ( والذي يتغذى في السوق ) والناس يرونه ، وألحق به في " الغنية " أكله على الطريق ، فأما إن أكل كسرة ونحوها لم يضر ( ويمد رجليه في مجمع الناس ) وكذا نومه بين جالسين ، وخروجه عن مستوى الجلوس بلا عذر ، وكذا طفيلي بغير خلاف نعلمه ( ويحدث بمباضعة أهله وأمته ) ومخاطبتهما بخطاب فاحش بين الناس ( ويدخل الحمام بغير مئزر ) أي : يكشف عورته في حمام وغيره ؛ لأن فعل ذلك حرام ، لأن فيه كشفا لعورته ، المأمور بسترها ( ونحو ذلك ) كمن بنى حماما للنساء ، نقله ابن الحكم ( فأما الشين في [ ص: 232 ] الصناعة كالحجام والحائك والنخال ) الذي يغربل في الطريق على فلوس وغيرها ( والنفاط ) الذي يلعب بالنفط ، مثل لبان وتمار ( والقمام ) الكناس ، يقال : قم البيت ، إذا كنسه ( والزبال ) وهو الذي صناعته الزبل ، كنسا وجمعا ونقلا ( والمشعوذ ) قال ابن فارس : ليست في كلام أهل البادية ، وهو خفة في اليدين كالسحر ( والدباغ والحارس ) والحداد والصباغ ( والقراد ) الذي يلعب بالقرد ، ويطوف به الأسواق وغيرها مكتسبا به ( والكباش ) الذي يلعب بالكباش ويناطح بها ، وهو من أفعال السفهاء والسفلة ( فهل تقبل شهادتهم إذا حسنت طريقتهم ؛ على وجهين ) أصحهما : تقبل ، زاد في " المحرر " و " الوجيز " : لا مستور الحال منهم ، وإن قبلناه من غيرهم ؛ لأن بالناس حاجة إليهم ، فبرد شهادة فاعله يمنع من تعاطيه فيؤدي إلى ضرر عظيم بالخلق ، وذلك منتف شرعا ، والثاني : لا ؛ لأن تعاطي ذلك يتجنبه أهل المروءات .

وفي " الكافي " و " الشرح " : أن الأولى قبول شهادة الحائك والحارس والدباغ ؛ لأنه تولى ذلك كثير من الصالحين وأهل المروءات ، واختاره في " الترغيب " قال : ترد ببلد يستزرى بهم فيه .

وفي " الفنون " : وكذا خياط ، وهو غريب .

فرع : الصيرفي ونحوه إن لم يتق الربا ردت شهادته ، ذكره المؤلف .

قال أحمد : أكره الصرف ، ويكره كسب من صنعته دنية ، والمراد مع إمكان [ ص: 233 ] أصلح منها ، ومن يباشر النجاسة كجزار ، ذكره جماعة ؛ لأنه يوجب قساوة قلبه ، وفاصد ومزين وجرائحي .

قال بعضهم : وبيطار ، وظاهر " المغني " : لا يكره كسب فاصد ، أفضل المعايش : التجارة ، قاله بعضهم .

وقال الأزجي : الزراعة ، واختار في " الفروع " : الصنعة باليد ، وفي " الرعاية " : أفضل الصنائع الخياطة .

ونقل ابن هانئ أنه سئل عنها وعن عمل الخوص ، أيهما أفضل ؛ قال : كلما نصح فيه فهو حسن ، وكان إدريس خياطا ، وكذا لقمان ، ويستحب الغرس والحرث ، واتخاذ الغنم .

قال المروذي : حثني أبو عبد الله على لزوم الصنعة ، وكان زكريا نجارا متفق عليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية