صفحة جزء
[ ص: 400 ] باب استقبال القبلة

وهو الشرط الخامس لصحة الصلاة إلا في حال العجز عنه ، والنافلة على الراحلة في السفر الطويل والقصير ، وهل يجوز التنفل للماشي ؛ على روايتين ، وإن أمكنه افتتاح الصلاة إلى القبلة فهل يلزمه ذلك ؛ على روايتين ، والفرض في القبلة إصابة العين لمن قرب منها ، وإصابة الجهة لمن بعد عنها ، فإن أمكنه ذلك بخبر ثقة عن يقين أو استدلال بمحاريب المسلمين لزمه العمل به ، وإن وجد محاريب لا يعلم : هل هي للمسلمين أو لا ؛ لم يلتفت إليها


باب استقبال القبلة .

قال الواحدي : القبلة الوجهة ، وهي الفعلة من المقابلة ، والعرب تقول : ما له قبلة ولا دبرة ، إذا لم يهتد لجهة أمره ، وأصل القبلة في اللغة : الحالة التي يقابل الشيء غيره عليها ، كالجلسة للحال التي يجلس عليها ، إلا أنها الآن صارت كالعلم للجهة التي يستقبلها المصلي ، وسميت قبلة لإقبال الناس عليها ، وقيل : لأنه يقابلها ، وهي تقابله ( وهو الشرط الخامس لصحة الصلاة ) لقوله تعالى فولوا وجوهكم شطره [ البقرة : 144 ] قال علي : شطره قبله ، وقال ابن عمر : بينما الناس بقباء في صلاة الصبح ، إذ جاءهم آت ، فقال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه قرآن ، وقد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة متفق عليه .

واختلف هل كانت شرعة التوجه إلى بيت المقدس بالمدينة بالسنة أو القرآن ؛ على قولين ذكرهما القاضي ، وذكر ابن الجوزي عن الحسن ، وأبي العالية ، والربيع ، وعكرمة أنه كان برأيه واجتهاده ، قال في " الفروع " : ولم يصرحوا بصلاته قبل الهجرة ، وسئل عنها ابن عقيل فقال : الجواب ذكر ابن أبي خيثمة في " تاريخه " أنه قيل : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى إلى الكعبة قبل الهجرة ، وصلى إلى بيت المقدس بالمدينة ( إلا في حال العجز عنه ) كالمربوط إلى غير القبلة والمصلوب ونحوهما ، لأنه شرط عجز عنه فسقط كالقيام ، ومنه : إذا اشتد الخوف عند التحام الحرب ، ويأتي ( والنافلة على الراحلة في السفر ) هو عبارة عن قطع [ ص: 401 ] المسافة ، وجمعه أسفار سمي بذلك ، لأنه يسفر عن أخلاق الرجال ، قاله ثعلب ( الطويل ) قال ابن عبد البر : أجمعوا على أنه جائز لكل من سافر سفرا تقصر فيه الصلاة أن يتطوع على دابته حيثما توجهت به ( والقصير ) هو مغن عن الأول ، لأنه إذا جاز في القصير جاز في الطويل من باب أولى ، وجزم به الأصحاب لقوله تعالى ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله [ البقرة : 115 ] قال ابن عمر : نزلت في التطوع خاصة ، ولما روى هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسبح على ظهر راحلته حيث كان وجهه ، يومئ برأسه ، وكان ابن عمر يفعله متفق عليه ، وللبخاري إلا الفرائض ولم يفرق بين طويل السفر وقصيره ، ولأن ذلك تخفيف في التطوع ، لئلا يؤدي إلى تقليله أو قطعه ، فاستويا فيه إذا كان مباحا ، زاد في " التلخيص " وابن تميم ، وغيرهما : إذا كان يقصد جهة معينة لا من راكب التعاسيف ، ويومئ بالركوع والسجود ، وهو أخفض من ركوعه ، هذا إذا كان الراكب يحفظ نفسه بفخذيه وساقيه كراحلة القتب ، فأما إذا كان في الهودج والعمارية ، فإن أمكنه الاستقبال والركوع والسجود لزمه ، لأنه ممكن غير مشق ، وإن قدر على الاستقبال دونهما لزمه وأومأ بهما ، نص عليه ، وقال أبو الحسن التميمي : لا يلزمه ذلك ، لأن الرخصة العامة يستوي فيها من وجدت فيه المشقة وغيره ، كالقصر والجمع ، ولعله كلامه ، ويعتبر طهارة محله نحو سرج وركاب ، ولا فرق في المركوب بين أن يكون بعيرا أو غيره ، وظاهره أنه لا يجوز في الحضر على المذهب ، لأنه لم ينقل عنه عليه السلام ، وعنه : يجوز للسائر الراكب خارج المصر ، فعله أنس ، لأنه راكب أشبه المسافر .

[ ص: 402 ] ( وهل يجوز التنفل للماشي ) في السفر سائرا ( على روايتين ) إحداهما : لا يجوز ، وهو ظاهر الخرقي ، و " الوجيز " لأن الرخصة وردت في الراكب ، والماشي بخلافه ، لأنه يأتي في الصلاة بمشي متتابع وعمل كثير فلم يصح الإلحاق ، والثانية : نقلها المثنى بن جامع يجوز ، اختاره القاضي ، وجزم به ابن الجوزي ، وقدمه في " المحرر " وصححه ابن تميم ، وفي " الفروع " لأن الصلاة أبيحت للراكب لئلا ينقطع عن القافلة في السفر ، وهو موجود في الماشي .

فعلى هذا يلزمه أن يفتتحها إلى القبلة إذا أمكنه رواية واحدة ، ويركع ويسجد بالأرض إليهما لأنه ممكن ، ويفعل ما سوى ذلك ماشيا إلى جهة سيره ، وقيل : يومئ بهما إلى جهة سيره ، وقيل : ما سوى القيام يفعله إلى القبلة غير ماش .

( وإن أمكنه ) أي : الراكب ( افتتاح الصلاة ) أي : بالإحرام ( إلى القبلة ) بالدابة أو بنفسه كراكب راحلة منفردة تطيعه ( فهل يلزمه ذلك على روايتين ) إحداهما : يلزمه بلا مشقة جزم به في " الوجيز " ونقله ، واختاره الأكثر ، وذكره أبو المعالي وغيره والمذهب ، لما روى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سافر وأراد أن يتطوع استقبل بناقته القبلة ، فكبر ثم صلى حيث كان وجهة ركابه رواه أحمد ، وأبو داود ، وهذا لفظه ، وهو حديث حسن ، ولأنه أمكنه ابتداء الصلاة إلى القبلة فلزمه ، والثانية : لا يلزمه ، اختاره أبو بكر ، ورجحه في " المغني " وغيره لما فيه من المشقة ، ولحديث ابن عمر ، ولأنه جزء من الصلاة أشبه سائرها ، ويحمل الخبر الأول على الاستحباب ، وعلم منه أنه إذا لم [ ص: 403 ] يمكنه استقبالها به كراكب راحلة لا تطيعه ، أو جمل مقطور لا يمكنه إدارته ، لم يلزمه ، لأنه عاجز عنه ، أشبه الخائف ، وقال القاضي : يحتمل أن يلزمه ، ولم يتعرض لذكر الركوع والسجود ، والمذهب أنه يلزمه إذا أمكنه من غير مشقة ، نص عليه ، لأنه كسفينة ، قاله جماعة ، فدل أنه وفاق ، وقيل : لا يلزمه ، وذكره في " الرعاية " رواية للتساوي في الرخص العامة فدل أن السفينة كذلك كالمحفة .

تذنيب : إذا نذر الصلاة عليها جاز ، وذكر القاضي قولا : لا ، فيتوجه مثله من نذر الصلاة في الكعبة .

فرع : إذا عذر من عدلت به دابته عن جهة سيره ، أو عدل هو إلى غير القبلة وطال ، بطلت ، وقيل : لا ، فيسجد للسهو لأنه مغلوب كساه ، وإن لم يعذر بأن عدلت دابته ، وأمكنه ردها ، أو عدل إلى غيرها مع علمه ، بطلت ، وكذا إن انحرف عن جهة سيره فصار قفاه إلى القبلة عمدا ، إلا أن يكون ما انحرف إليه جهة القبلة ، ذكره القاضي ، وإن وقفت دابته تعبا أو منتظرا رفقة أو لم يسر كسيرهم أو نوى النزول ببلد دخله استقبل القبلة ، وإن نزل في أثنائها نزل مستقبلا وأتمها ، نص عليه ، وإن أقام في أثنائها أتم صلاة مقيم ، وإن ركب ماش فيها أتمها ، والمقدم بطلانها .

( والفرض في القبلة إصابة العين ) أي : عين الكعبة ( لمن قرب منها ) وهو من كان معاينا لها ، أو ناشئا بمكة ، أو كثر مقامه فيها ، فيلزمه بحيث لا يخرج شيء من بدنه عنها ، نص عليه ، لأنه قادر على التوجه إلى عينها قطعا ، [ ص: 404 ] فلم يجز العدول عنه والتوجه إليها ظنا ، فعلى هذا لو خرج ببعض بدنه عن مسامتها ، لم تصح ، وقيل : بلى فإن كان ثم حائل أصلي من جبل ونحوه ، وتعذر عليه التعيين ، اجتهد إلى عينها ، وعنه : أو إلى جهتها ، وذكر جماعة إن تعذر فكبعيد ، ولا يضر علو عليها ، ولا نزول عنها إذا أخرجه ذلك عن بنائها ، ولم يخرج عن موضعها ، لأن الواجب استقبالها .

تنبيه : حكم من كان بالمدينة في استقبال قبلة النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم من كان بمكة ، لأنه لا يقر على الخطأ ، وقال صاحب " النظم " وكذا مسجد الكوفة لاتفاق الصحابة عليه ، لكن قال في " الشرح " : في قول الأصحاب نظر ، فإن صلاة الصف المستطيل في مسجده عليه السلام صحيحة ، مع خروج بعضهم عن استقبال عين الكعبة ، لكون الصف أطول منها ، وقولهم : إنه لا يقر على الخطأ صحيح لكن إنما الواجب عليه استقبال الجهة ، وقد فعله ( وإصابة الجهة لمن بعد عنها ) جزم به في " الكافي " و " الوجيز " وقدمه في " التلخيص " و " المحرر " و " الفروع " وهو المذهب ، لما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : ما بين المشرق والمغرب قبلة رواه ابن ماجه ، والترمذي ، وصححه ، وحكاه عن عمر ، وابنه ، وعلي ، وابن عباس ، ولأن الإجماع انعقد على صحة صلاة الاثنين المتباعدين يستقبلان قبلة واحدة ، وعلى صحة صلاة الصف الطويل على خط مستو .

لا يقال : مع البعد يتسع المحاذي ، لأنه إنما يتسع مع التقوس ، أما مع عدمه فلا ، فعلى هذا لا يضر التيامن والتياسر في الجهة ، والبعيد هنا من لم يقدر على المعاينة ، ولا على من يخبره عن علم ، وعنه : يلزمه إصابة عينها اختاره أبو الخطاب ، وذكر أبو [ ص: 405 ] المعالي أنه المشهور لقوله تعالى فولوا وجوهكم شطره [ البقرة : 144 ] وقياسا على القريب ، والخبر الأول : لا يمكن حمله على عموم الأمكنة بل هو خاص بالمدينة وما شابهها ، فعلى هذا إن تيامن أو تياسر بطلت ، وفي " الرعاية " عليها : إن رفع رأسه نحو السماء فخرج بوجهه عن القبلة منع ، وكذا ذكره ابن عبدوس ، وجعلاه فائدة الخلاف ، وفيه نظر ، بل إنما يظهر في صورة يخرج فيها المصلي عن استقبال العين إلى استقبال الجهة ، وهذا لم يخرج عن العين إلى الجهة ، وإنما خرج وجهه خاصة ( فإن أمكنه ذلك ) أي : معرفة القبلة ( بخبر ثقة ) عدل ظاهرا وباطنا ، وقيل : أو مستور أو مميز ( عن يقين ) أي : عن علم لزمه تقليده في الأصح ، وليس له الاجتهاد كالحاكم يقبل النص من الثقة ، ولا يجتهد ، وقال في " التلخيص " : القادر على معرفة القبلة ليس له متابعة المخبر ، وظاهره أنه لا يقبل خبر فاسق ، لكن يصح التوجه إلى قبلته في بيته ، فلو شك في حاله قبل قوله في الأصح ، وإن شك في إسلامه فلا ، وأنه إذا أخبره عن اجتهاد أنه لا يجوز تقليده في الأصح ، وقيل : مع ضيق الوقت ، ذكره القاضي ، ظاهر كلام أحمد ، واختاره جماعة ، وقيل : أو كان أعلم منه قلده ، وفي " التمهيد " يصليها على حسب حاله ، ثم يعيد إذا قدر ، فلا ضرورة إلى التقليد ، كعادم الطهورين يصلي ويعيد ، ويلزمه السؤال ، فظاهره يقصد المنزل في الليل ليستخبر ( أو استدلال بمحاريب ) واحدها محراب ، وهو صدر المجلس ، ومنه محراب المسجد ، وهو الغرفة ، وقال المبرد : لا يكون محرابا إلا أن يرتقي إليه بدرج ( المسلمين ) عدولا كانوا أو فساقا ( لزمه العمل به ) إذا علمها لهم ، لأن اتفاقهم عليها مع تكرر الأعصار إجماع عليها ، ولا يجوز مخالفتها ، وعنه : يجتهد فإن أخطأ فوجهان ، وعنه : ولو بالمدينة ، والمذهب الأول [ ص: 406 ] ولا ينحرف لأن دوام التوجه إليه كالقطع كالحرمين ( وإن وجد محاريب ) ببلد خراب ( لا يعلم هل هي للمسلمين أو لا ؛ لم يلتفت إليها ) لأنه لا دلالة فيها ، لاحتمال كونها لغير المسلمين ، وإن كان عليها آثار الإسلام ، لجواز أن يكون الباني مشركا عملها ليغر بها المسلمين ، وعلم منه أنه إذا علم أنها للكفار لا يجوز له التقليد ، لأن قولهم لا يرجع إليه ، فمحاريبهم أولى ، وفي " المغني " إذا علمت قبلتهم كالنصارى إذا رأى محاريبهم في كنائسهم علم أنها مستقبلة للمشرق .

التالي السابق


الخدمات العلمية