صفحة جزء
وإن اشتبهت عليه في السفر ، اجتهد في طلبها بالدلائل ، وأثبتها القطب ، فإذا جعله وراء ظهره ، كان مستقبلا للقبلة ، والشمس ، والقمر ، ومنازلهما ، وما يقترن بها ، كلها تطلع من الشرق ، وتغرب في الغرب عن يمين المصلي ، والرياح الجنوب تهب ، مستقبلة لبطن كتف المصلي اليسرى مارة إلى يمينه ، والشمال مقابلتها تهب إلى مهب الجنوب ، والدبور تهب مستقبلة شطر وجه المصلي الأيمن ، والصبا مقابلتها تهب إلى مهبها


( وإن اشتبهت عليه في السفر ) ولم يمكنه معرفتها ( اجتهد في طلبها ) لأن ما وجب اتباعه عند وجوده وجب الاستدلال عليه عند خفائه كالحكم في الحادثة ، والمجتهد في القبلة هو العالم بأدلتها ، لأن من علم أدلة شيء كان مجتهدا فيه ، والجاهل الذي لا يعرف أدلتها وإن كان فقيها ، وكذا الأعمى فهذان فرضهما التقليد ، ويجب على من يريد السفر تعلم ذلك ، ومنعه قوم ، لأن جهة القبلة مما يندر التباسه ، والمكلف يجب عليه تعلم ما يعم لا ما يندر ( بالدلائل ) جمع دليل ، وهو أمور منها : النجوم قال الله تعالى وبالنجم هم يهتدون [ النحل : 16 ] ( وأثبتها القطب ) لأنه لا يزول عن مكانه إلا قليلا ، ويمكن كل أحد معرفته ، قال جماعة : وأصحها وأقواها القطب بتثليث القاف ، حكاه ابن سيده ، وهو نجم خفي شمالي ، وذكر السامري أنه الجدي ، وحوله أنجم دائرة كفراشة الرحى ، في أحد طرفيها الجدي ، والآخر الفرقدان ، وبين ذلك ثلاثة أنجم من فوق ، وثلاثة من أسفل ، تدور هذه الفراشة حول القطب دوران فراشة الرحى حول سفودها ، في كل يوم وليلة دورة ، وعليه تدور بنات نعش ، وهي سبعة أنجم متفرقة مضيئة مما تلي الفرقدين ، وهو خفي جدا يراه حديد النظر إذا لم يكن القمر طالعا [ ص: 407 ] ( فإذا جعله وراء ظهره كان مستقبلا للقبلة ) بالشام ، والعراق ، والجزيرة ، لأنه قد أخبر بذلك ثقات عن يقين ، وقيل : ينحرف في الشام إلى الشرق قليلا ، وبالعراق يجعله حذاء أذنه اليمنى على علوها ، ذكره المؤلف ، وذكر ابن تميم أنه إذا جعل القطب أو الجدي أو الفرقدين أو بنات نعش وراءه فقد استقبلها فيما ذكرنا ، وفيه وجه : لا يجتهد ، وعليه أن يصلي إلى أربع جهات .

( والشمس ، والقمر ، ومنازلهما ، وما يقترن بها ، ويقاربها كلها تطلع من الشرق ، وتغرب في الغرب عن يمين المصلي ) وذلك معلوم ، لكن الشمس تختلف مطالعها ومغاربها على حسب اختلاف منازلها ، فتطلع قرب الجنوب شتاء ، وقرب الصبا صيفا ، وهي في الطلوع والغروب كما ذكره ، والقمر يبدو أول ليلة هلالا في المغرب عن يمين المصلي ، ثم يتأخر كل ليلة منزلا حتى يكون في السابع وقت المغرب في قبلة يصلي مائلا عنها قليلا إلى المغرب ، ثم ليلة الرابع عشر من المشرق قبل غروب الشمس بدرا فيكون مراده عند التكامل ، وليلة إحدى وعشرين يكون في قبلة المصلي أو قريبا منها وقت الفجر ، وليلة ثمان وعشرين يبدو عند الفجر كالهلال من المشرق ، وتختلف مطالعه بحسب اختلاف منازله ، وهي ثمانية وعشرون منزلا ، ينزل في كل ليلة واحدا منها ، والشمس تنزل في كل منزل منها ثلاثة عشر يوما ، فيكون عودها إلى المنزل الذي نزلت فيه عند تمام حول كامل من أحوال السنة الشمسية ، فالمنازل منها ما بين طلوعها إلى غروبها أربعة عشر منزلا ، ومن غروبها إلى طلوعها كذلك ، فوقت الفجر منها منزلان ، والمغرب منزل ، وهو نصف سواد الليل ، وسواد الليل ، وسواد الليل اثنا عشر منزلا ( والرياح ) وأمهاتها أربع ، لكن قال أبو المعالي : الاستدلال بها ضعيف ( الجنوب تهب [ ص: 408 ] مستقبلة لبطن كتف المصلي اليسرى مارة إلى يمينه ) في الزاوية التي بين المشرق والقبلة ، فإذا استقبلها المصلي كانت القبلة بالعراق عن يمينه ، والمشرق على يساره ، وفي الشام من مطلع سهيل إلى مطلع الشمس في الشتاء ( والشمال مقابلتها ) تهب من ظهر المصلي ، لأن مهبها من القطب إلى مغرب الشمس في الصيف ( تهب إلى مهب الجنوب ) ، فإذا استقبلها يكون على يمينه ، والمغرب على يساره ( والدبور تهب مستقبلة شطر وجه المصلي الأيمن ) من الزاوية التي بين القبلة والمغرب ، فإذا استقبلها يكون القطب على يساره ، والمشرق على يمينه ( والصبا مقابلتها تهب إلى مهبها ) فهي تهب يسرة المتوجه إلى قبلة الشام ، لأن مهبها من مطلع الشمس في الصيف إلى مطلع العيوق ، فإذا استقبلها كانت القبلة بالعراق على يساره ، والمغرب على يمينه ، وتسمى القبول ، لأن باب الكعبة ، وعادة أبواب العرب إلى مطلع الشمس فتقابلهم ، وبقية الرياح عن جنوبهم ، وشمائلهم ، ومن ورائهم .

فوائد : قال جماعة من أصحابنا : يستدل بالأنهار الكبار غير المحددة ، فكلها بخلقة الأصل تجري من مهب الشمال من يمنة المصلي إلى يسرته على انحراف قليل إلا نهرين أحدهما بخراسان ، ويسمى المقلوب ، والآخر بالشام ، ويسمى العاصي ، فإنهما يجريان عكس ذلك ، قال في " المغني " : وهذا لا ينضبط ، لأن الأردن بالشام يجري نحو القبلة ، وكثير منها يجري نحو البحر يصب فيه . وبالجبال ، فإن غالب وجوهها إلى القبلة خلفه يعرفه أهله ، وبالمجرة في السماء ، وهي أول الليل ممتدة على كتف المصلي الأيسر إلى القبلة ، وفي آخره على الأيمن في الصيف ، وفي الاستدلال بها فيه نظر ، ولهذا لم يذكرها الأكثر منهم المؤلف .

[ ص: 409 ] مسألة : يستحب أن يتعلم أدلة القبلة والوقت ، ويتوجه وجوبه ، فإن دخل الوقت ، وخفيت عليه لزمه قولا واحدا لقصر زمنه ، ويقلد لضيق الوقت ، لأن القبلة يجوز تركها للضرورة ، وهي شدة الخوف ، ولا يعيد ، بخلاف الطهارة ، والأعمى يقلد فيه ، وله العمل بلمس محراب ونحوه ، فإن قلد غيره ، ثم أبصر في الصلاة ، وفرضه قبول الخبر أتمها ، وكذا إن كان فرضه الاجتهاد ، ورأى ما يدل على صوابه ، وإن لم ير شيئا ، أو كان قلد غيره لعماه بطلت في الأشهر ، ومن صلى باجتهاد أو بيقين ، ثم عمي فيها ، بنى فقط .

التالي السابق


الخدمات العلمية