صفحة جزء
ثم يستجمر ، ثم يستنجي بالماء ، ويجزئه أحدهما إلا أن يعدو الخارج موضع العادة ، فلا يجزئ إلا الماء ، ويجوز الاستجمار بكل طاهر ينقي كالحجر ، والخشب ، والخرق ، إلا الروث ، والعظام ، والطعام ، وما له حرمة ، وما يتصل بالحيوان ، ولا يجزئ أقل من ثلاث مسحات ، إما بحجر ذي شعب ، أو بثلاثة فإن لم ينق بها زاد حتى ينقى ، ويقطع على وتر .


( ثم يستجمر ، ثم يستنجي بالماء ) وجمعهما أفضل ، لقول عائشة : مرن أزواجكن أن يتبعوا الحجارة الماء ، فإني أستحييهم ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يفعله رواه أحمد ، واحتج به في رواية حنبل ، والنسائي ، والترمذي ، ولأنه أبلغ في الإنقاء وأنظف ، لأن الحجر يزيل عين النجاسة ، ولا تباشرها يده . والماء يزيل أثرها ، فإن بدأ بالماء ، فقال أحمد : يكره ( ويجزئه أحدهما ) أما الماء ، فلما روى أنس قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج لحاجته ، أحمل أنا وغلام نحوي إداوة من [ ص: 89 ] ماء فيستنجي به متفق عليه ، ولفظه لمسلم . ويواصل صب الماء ، ويسترخي قليلا ، ويدلك الموضع حتى يخشن وينقى ، وأما الأحجار ، فلقوله عليه السلام في حديث جابر : إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه رواه أحمد ، وأبو داود ، ولكن الماء أفضل في ظاهر المذهب ، لأنه يزيل العين والأثر ، ويطهر المحل ، والحجر يخفف النجاسة ، وكان القياس يقتضي عدم إجزائه ، لكن الإجزاء رخصة ، وعنه : يكره الاستنجاء وحده ، لأن فيه مباشرة النجاسة بيده ، ونشرها من غير حاجة ، وعنه : الحجر أفضل ، اختاره ابن حامد ، والاقتصار عليه مجزئ بالإجماع ، فأما ما نقل عن سعد بن أبي وقاص ، وعبد الله بن الزبير ، وابن المسيب ، وعطاء من إنكار الماء ، فهو - والله أعلم - إنكار على من يستعمله معتقدا لوجوبه ، ولا يرى الأحجار مجزئة ، لأنهم شاهدوا من الناس محافظة عليه ، فخافوا التعمق في الدين ( إلا أن يعدو الخارج موضع العادة ) جزم به في " المستوعب " ، و " التلخيص " ، و " الوجيز " ، مثل أن ينتشر إلى الصفحتين ، أو يمتد إلى الحشفة كثيرا ، اقتصر عليه في " الشرح " وحده ، وفي " شرح العمدة " إلى النصف من الألية ، والحشفة فأكثر ، فإن كان أقل من ذلك عفي عنه : وهذا ظاهر كلام أبي الخطاب في " الهداية " ، وظاهر " المحرر " أنها إذا تعدت عن مخرجها مطلقا ( فلا يجزئ إلا الماء ) لأن الأصل وجوب إزالة النجاسة بالماء ، وإنما رخص في الاستجمار لتكرر النجاسة على المحل المعتاد ، فإذا جاوزته خرجت عن حد الرخصة ، فوجب غسلها كسائر البدن ، والغسل للمتعدي [ ص: 90 ] نص عليه ، وبه قطع ابن تميم ، ونفس المخرج يجزئ فيه الاستجمار ، وجزم به في " الوجيز " ، وهو مقتضى كلامه في " المحرر " أن الماء متعين للكل ، وحكى ابن الزاغوني في " الوجيز " ، روايتين ، ونص أحمد أنه لا يستجمر في غير المخرج ، وقيل : يستجمر في الصفحتين ، والحشفة ، وبه قطع الشيرازي ، وظاهره أنه لا يشترط التراب ، ولا العدد ، لأنه لم ينقل ، واختلف الأصحاب فيما إذا انسد المخرج ، وانفتح غيره ، فقال القاضي ، والشيرازي : يجزئه الاستجمار فيه ، لأنه صار معتادا ، ونفاه ابن حامد والمؤلف ، ونصره في " الشرح " لأنه لا يتعلق به أحكام الفرج ، وحينئذ يتعين الماء ، سواء انفتح فوق المعدة أو تحتها ، صرح به الشيرازي ، وقيده ابن عقيل ، والمجد بما إذا انفتح أسفل المعدة . قال ابن تميم : وظاهر كلامهم إجراء الخلاف مع بقاء المخرج ، فلو يبس الخارج في مخرجه ، أو تنجس بغير نجاسة ، كالحقنة إذا خرجت ، أو استجمر بنجس ، وجب غسل المحل في الأشهر ، ويغسل الأقلف المفتوق نجاسة حشفته ، ونص أحمد : أنه يسن ، وقيل : حكم طرف القلفة ، حكم رأس الذكر ، وقيل : إن تعذر إخراجها فهو كمختون .

تنبيهان : الأول : البكر كالرجل ، لأن عذرتها تمنع من انتشار البول ، فأما الثيب ، فإن خرج البول ولم ينتشر ، فكذلك ، وإن تعدى إلى موضع الحيض ، فقال أصحابنا : يجب غسله ، لأن مخرج الحيض غير مخرج البول . وفي " المغني " احتمال لا يجب ، لأن هذا إعادة في حقها ، فكفى فيه الاستجمار كالمعتاد .

[ ص: 91 ] الثاني : يبدأ الرجل والبكر بالقبل ، وقيل : يتخير كالثيب ، وذكر السامري : أنها تبدأ بالدبر ، فلا تدخل إصبعها بل يكفي ما ظهر ، لأن المشقة تلحق به كداخل العينين ، وهو في حكم الباطن ، وقال أبو المعالي ، وابن حمدان : هو في حكم الظاهر ، واختلف كلام القاضي ، ويخرج على ذلك إذا خرج ما احتشته ببلل هل ينقض ؛

مسألة : إذا استجمر في فرج ، واستنجى في آخر فلا بأس ، ويستحب لمن استنجى نضح فرجه ، وسراويله بالماء ، لدفع الوسواس ، وعنه : لا لمن استجمر ، ومن ظن خروج شيء ، فقال أحمد : لا تلتفت حتى تتيقن ، ولم ير حشو الذكر ، فإن فعل فصلى ، ثم أخرجه ، فوجد بللا فلا بأس ما لم يظهر خارجا .

( ويجوز الاستجمار بكل طاهر ينقي كالحجر ) إجماعا ، ( والخشب ، والخرق ) هذا هو الصحيح في المذهب ، لما روى أحمد ، وأبو داود ، والدارقطني ، وقال : إسناده صحيح ، عن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا ذهب أحدكم إلى الغائط ، فليستطب بثلاثة أحجار فإنها تجزئ عنه .

والثانية ، واختارها أبو بكر ، وهي قول داود : لا يجزئ إلا الأحجار ، لأنه نص عليها ، وعلق الإجزاء بها . والأول أولى ، لأن المراد بالأحجار كل مستجمر ، فيدخل فيه جميع الجامدات ، ولقول سلمان : أمرنا عليه السلام أن لا نكتفي بدون ثلاثة أحجار ليس فيها رجيع ، ولا عظم فلولا أنه يعم الجميع لم يكن لاستثناء الرجيع والعظم معنى .

[ ص: 92 ] وإنما خص الحجر بالذكر ، لأنه أعم الجامدات وجودا ، وأشملها تناولا ، لا يقال : المراد بالرجيع الحجر المستجمر به مرة ، لأنه في اللغة اسم الروث ، سمي بذلك لأن الحيوان رجعه بعد أن أكله ، يؤيده ما رواه أحمد من حديث رويفع بن ثابت مرفوعا : من استجمر برجيع دابة فإن محمدا بريء منه .

( إلا الروث ، والعظام ، والطعام ، وما له حرمة ، وما يتصل بالحيوان ) لما روى ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تستنجوا بالروث ، ولا بالعظام ، فإنه زاد إخوانكم من الجن رواه مسلم ، وفي رواية : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يستنجى بروث أو عظم ، وقال : إنهما لا يطهران رواه الدارقطني ، وقال : إسناد صحيح ، وإذا ثبت ذلك في طعام الجن ، ففي طعام الآدمي أولى ، وبالجملة فيشترط في المستجمر به شروط :

الأول : أن يكون جامدا
، لأن المائع إن كان ماء ، فهو استنجاء ، وإن كان غيره امتزج بالخارج ، فيزيد المحل نجاسة ، ويؤخذ هذا من تمثيله بالحجر والخرق .

الثاني : أن يكون طاهرا ، لما روى ابن مسعود : أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بحجرين وروثة ، فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - الحجرين ، وألقى الروثة ، وقال : إنها لركس رواه البخاري ، والركس النجس .

الثالث : أن يكون منقيا ، فلا يجوز بالفحم الرخو ، قاله في " الشرح " [ ص: 93 ] وغيره ، ولا بالزجاج ، ولا الحجر الأملس والبلور ، إذ المقصود الإنقاء ، ولم يحصل .

الرابع : أن لا يكون محترما ، فلا يجوز بطعامنا ، ولا بطعام دوابنا ، وكذا طعام الجن ، ودوابهم ، وكذلك كتب الفقه والحديث ، وما فيه اسم الله تعالى لما فيه من هتك الشريعة ، والاستخفاف بحرمتها ، وإذا ثبت ذلك في الطعام بحرمة الأكل فها هنا أولى ، وكذلك ما يتصل بحيوان ، كيده ، وذنبه ، وصوفه المتصل به ، لأن له حرمة فهو كالطعام ، وقد ينجس الغير ، فقوله : وما له حرمة يدخل فيه الطعام ، وما يتصل بحيوان فذكره كاف عنهما ، ولهذا اقتصر في " المحرر " و " الوجيز " عليه .

الخامس : أن لا يكون محرما ، فلا يجوز بمغصوب ، ولا ذهب ، ولا فضة ، ذكره في " النهاية " ، وجزم به في " الوجيز " ، ولم يذكره المؤلف ، وقيل : يجوز بالمغصوب ، وهو مخرج من رواية صحة الصلاة في بقعة غصب ، ورد بأن الاستجمار رخصة ، والرخص لا تستباح على وجه محرم ، واختار الشيخ تقي الدين الإجزاء في ذلك ، وبما نهي عنه ، قال : لأنه لم ينه عنه لكونه لا ينقي ، بل لإفساده ، ومن مذهبه أن النجاسة تزال بغير الماء ، وهي من باب التروك ، بدليل أنه لا يشترط لزوالها قصد ، وجوابه رواية الدارقطني السابقة ، وحيث قيل بعدم الإجزاء فإنه يتعين الماء في الشرط الأول ، وكذا في الثاني على ما قطع به المجد ، والمؤلف في " الكافي " ، وفي " المغني " احتمال بإجزاء الحجر ، وهو وهم ، وفي الثالث يعدل إلى طاهر منق ، وفي الرابع والخامس : هل يجزئه الحجر جعلا لوجود [ ص: 94 ] آلة النهي ، كعدمها أو يعدل إلى الماء لعدم فائدة الحجر إذن لنقاء المحل ؛ فيه وجهان .

( ولا يجزئ أقل من ثلاث مسحات ) منقية ( إما بحجر ) كبير ( ذي ثلاث شعب أو بثلاثة ) إذا حصل له الإنقاء بثلاثة أحجار ، فهي مجزئة بغير خلاف ، وأما الحجر الكبير الذي له شعب فيجوز الاقتصار عليه في ظاهر المذهب ، اختاره الخرقي ، وجل المشايخ ، وعنه : لا بد من ثلاثة أحجار ، اختارها أبو بكر ، والشيرازي ، لأنه عليه السلام ، نص عليها ، وعلق الإجزاء بها ، ولأنه إذا استجمر به تنجس ، فلم يجز كالصغير ، والأول أصح ، لما روى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا تغوط أحدكم فليتمسح ثلاث مرات رواه أحمد ، وهذا يبين أن المقصود تكرار التمسح ، لا تكرار الممسوح به ، ولأنه يحصل بالشعب الثلاثة ما يحصل بالأحجار الثلاثة من كل وجه ، فلا معنى للفرق ، فعلى هذا إن كسر ما تنجس ، أو غسله ، أو استجمر بثلاثة أحجار لكل منهما ثلاث شعب أجزأه لحصول المعنى ، والإنقاء . وعلى قول أبي بكر : لا يجزئه جمودا على اللفظ . قال في " الشرح " : وهو بعيد ، قال ابن عقيل : ولو مسح بالأرض أو بالحائط في ثلاث مواضع ، فهو كالحجر الكبير .

تذنيب : الإنقاء بالحجر بقاء أثر لا يزيله إلا الماء ، وقال المؤلف : خروج الحجر ، أي : الأخير لا أثر به إلا يسيرا ، فلو بقي ما يزول بالخرق لا بالحجر أزيل على ظاهر الأول لا الثاني ، ويندب نظره إلى الحجر قبل رميه ليعلم هل قلع أم لا ، والإنقاء بالماء خشونة المحل كما كان ، والأولى أن يقال : أن يعود المحل [ ص: 95 ] إلى ما كان عليه ، لئلا ينتقض بالأمرد ونحوه ، ويكفي الظن ، جزم به جماعة ، وفي " النهاية " بالعلم ، ومثله طهارة الحدث .

مسألة : ينبغي أن يعم بكل مسحة المحل . ذكره الشريف ، وابن عقيل ، وذكر القاضي : أن المستحب أن يمر الحجر الأول من صفحة مقدم اليمنى إلى مؤخرها ، ثم يديره على اليسرى حتى يصل بها إلى الموضع الذي بدأ منه ، ثم يمر الثاني من صفحته اليسرى كذلك ، ثم الثالث على المسربة ، والصفحتين ، وقال ابن تميم : إن أفرد كل جهة بحجر فهل يجزئ ؛ على وجهين ، وذكره ابن الزاغوني رواية ( فإن لم ينق بها ) أي : بالمسحات الثلاث ( زاد حتى ينقى ) لأن المقصود إزالة أثر النجاسة ( ويقطع ) في الزيادة ( على وتر ) استحبابا لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من استجمر فليوتر رواه الشيخان ، فإن قطع على شفع جاز ، لأن في رواية أبي داود ، وابن ماجه من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج .

التالي السابق


الخدمات العلمية