صفحة جزء
ثم يقرأ الفاتحة ، وفيها إحدى عشرة تشديدة ، فإن ترك ترتيبها ، أو تشديدة منها ، أو قطعها بذكر كثير ، أو سكوت طويل ، لزمه استئنافها ، فإذا قال : ولا الضالين ، قال : آمين يجهر بها الإمام والمأموم في صلاة الجهر ، فإن لم يحسن الفاتحة ، أو ضاق الوقت إن تعلمها ، قرأ قدرها في عدد الحروف ، وقيل : في عدد الآيات من غيرها ، فإن لم يحسن إلا آية واحدة كررها بقدرها ، فإن لم يحسن شيئا من القرآن لم يجز أن يترجم عنه بلغة أخرى ، ولزمه أن يقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ، فإن لم يحسن إلا بعض ذلك ، كرره بقدره ، فإن لم يحسن شيئا من الذكر ، وقف بقدر القراءة .


( ثم يقرأ الفاتحة ) وهي ركن في كل ركعة في ظاهر المذهب لما روى عبادة مرفوعا : لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب متفق عليه ، وفي لفظ : لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب رواه الدارقطني ، وقال : إسناده صحيح ، وعن أبي هريرة مرفوعا : من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج يقوله ثلاثا رواه مسلم ، والخداج : النقصان في الذات نقص فساد وبطلان . تقول العرب : أخدجت الناقة ولدها أي : ألقته ، وهو دم لم يتم خلقه . فإن نسيها في ركعة لم يعتد بها ، وذكر ابن عقيل : أنه يأتي بها فيما بعدها مرتين ، ويعتد بها ، ويسجد للسهو ، وعنه : في الأوليين ، وعنه : يكفي آية من غيرها ، وظاهره ولو قصرت ، ولو كانت كلمة ، وعنه : سبع ، وعنه : ما تيسر ، وعنه : لا تجب قراءة في غير الأوليين ، والفجر ، لقول علي ، وحكى أبو الخطاب عن [ ص: 437 ] بعض العلماء أن الفاتحة تتعين في ركعة ، ويأتي حكم المأموم في قراءتها .

بديعة : سميت بالفاتحة ، لأنه يفتتح بقراءتها في الصلاة ، وبكتابتها في المصاحف ، وتسمى الحمد ، والسبع المثاني ، وأم الكتاب ، والواقية ، والشافية ، والأساس ، والصلاة ، وأم القرآن ، لأن المقصود منه تقرير أمور الإلهيات ، والمعاد ، والنبوات ، وإثبات القضاء والقدر لله تعالى فالحمد لله ) إلى ( الرحيم ) يدل على الإلهيات ، و ( مالك يوم الدين ) يدل على المعاد ( إياك نعبد وإياك نستعين ) يدل على نفي الجبر والقدر ، وعلى إثبات أن الكل بقضاء الله تعالى ، و ( اهدنا الصراط المستقيم ) إلى آخرها يدل على الثواب ، وتسمى الشفاء ، والشافية ، والسؤال ، والدعاء ، وقال الحسن : أودع الله تعالى فيها معاني القرآن كما أودع فيه معنى الكتب السابقة ، وهي أفضل سورة ، قاله ابن شهاب ، وغيره ، وهي مكية ، وقال مجاهد : مدنية ، وخطئ في ذلك ، وقيل : نزلت مرتين فهي مكية مدنية ( وفيها إحدى عشرة تشديدة ) بغير خلاف ، وهذا على المذهب ، وعلى أن البسملة آية منها ، فيصير فيها أربعة عشرة تشديدة ، لأن فيها ثلاثة ، ويلزمه أن يأتي بقراءتها مرتبة مشددة غير ملحون فيها لحنا يحيل المعنى ، مثل كسر كاف ( إياك ) أو ضم تاء ( أنعمت ) أو فتح همزة الوصل في ( اهدنا )

( فإن ترك ترتيبها أو تشديدة منها أو قطعها بذكر كثير أو سكوت طويل لزمه استئنافها ) وفيه مسائل .

الأولى : إذا ترك ترتيب الفاتحة ابتدأها ، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرؤها مرتبة [ ص: 438 ] متوالية ، وقال : صلوا كما رأيتموني أصلي ولأن القرآن معجز ، والإعجاز يتعلق بالنظم والترتيب ، وهي ركن ، فلم يجز تنكيسها كتكبيرة الإحرام .

الثانية : إذا ترك شدة منها لزمه استئنافها ، لأن الشدة أقيمت مقام حرف ، ومن ترك حرفا منها فكأنه لم يقرأها ، لأن المركب ينعدم بعدم جزء من أجزائه ، وذكر القاضي في " الجامع " أنها لا تبطل بترك شدة ثابتة في خط المصحف ، وإنما هي صفة للحرف ، ويسمى تاركها قارئا للفاتحة ، ولا يختلف المذهب أنه إذا لينها ، ولم يحققها على الكمال أنه لا يعيد الصلاة ، لأن ذلك لا يحيل المعنى ، ويختلف باختلاف الناس ، قال في " المغني " و " الشرح " : ولعله إنما أراد في " الجامع " هذا المعنى فيكون قوله متفقا ، وفيه نظر .

الثالثة : إذا أطال قطعها بذكر كثير أو سكوت طويل لزمه استئنافها ، لأنه يعد معرضا عن الفاتحة بذلك ، وهو على أضرب .

أحدها : قطع بذكر أو سكوت مشروع كالتأمين ، وسجود التلاوة ، والتسبيح بالتنبيه ، واستماع قراءة الإمام ، فإنه لا يؤثر ، وإن طال ، ذكره ابن تميم ، وكذا إذا سمع آية رحمة فسأل أنه لا يعد معرضا ، وفي " الشرح " أنه إذا كثر استأنفها .

الثاني : قطع غير مشروع ، كالتهليل والتسبيح ، فذكر القاضي أن ذلك مبطل لها ، والأصح أن الكثير مبطل ، لأنه أحل بالموالاة ، بخلاف اليسير فإنه يعفى عنه .

[ ص: 439 ] الثالث : قطع بسكوت طويل غير مشروع فهذا مبطل لها في ظاهر كلام الجماعة ، وسواء كان باختيار أو مانع من عقله ، أو أرتج عليه ، لكن إن كان يسيرا جرت العادة به لم يقطع قراءتها ، سواء نوى قطعها أو لا ، لأنه يسير فعفي عنه ، وقال القاضي : يكون قطعها مع النية لتحقق الإعراض ، ولو نوى قطع القراءة لم يقطع ، لأن القراءة باللسان ، فلم ينقطع بخلاف نية الصلاة ، وقيل : إن سكت مع ذلك يسيرا انقطعت .

الرابع : قطع بسكوت طويل مشروع ، كالمأموم يشرع في القراءة ، ثم يسمع قراءة الإمام فينصت ، ثم يتمها بعد فراغ إمامه ، فهذا لا يؤثر ، لأنه مشروع كالذكر .

مسألة : يستحب أن يقرؤها مرتلة معربة ، يقف عند كل آية لقراءته عليه السلام ، ويكره الإفراط في التشديد ، والمد ، والترجيع ، وإن أحال منها معنى بلحن يقدر على إصلاحه لم يعتد به ، وإن لم يحل صح ، ذكره جماعة ، فإن قرأ ( غير المغضوب عليهم ) بظاء قائمة فأوجه ، ثالثها : إن عرف الفرق بينهما بطلت ، وإلا فلا .

( فإذا قال : ولا الضالين قال : آمين ) بعد سكتة لطيفة ليعلم أنها ليست من القرآن ، وإنما هي طابع الدعاء ، ومعناه : اللهم استجب ، وقيل : اسم من أسمائه تعالى ، ويحرم تشديد الميم ، لأنه يصير بمعنى قاصدين ، ويخير في مد همزته وقصرها ، والمد أولى ، ذكره القاضي ( يجهر بها الإمام والمأموم في صلاة الجهر ) لما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا أمن الإمام فأمنوا ، فإنه من وافق تأمينه [ ص: 440 ] تأمين الملائكة غفر له متفق عليه ، وروى أبو وائل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول آمين يمد بها صوته رواه أحمد ، وأبو داود ، والدارقطني ، وصححه ، وقال عطاء : كان ابن الزبير يؤمن ، ويؤمنون حتى إن للمسجد للجة . رواه الشافعي ، وعن أحمد : ترك الجهر ، وعلى الأولى ، وهي الأصح يقولها المأموم بعد الإمام ، وذكر جماعة معا ، وإن تركه إمام أو أسره ، جهر به مأموم ليذكر الناس ، فإن تركه حتى قرأ غيره لم يقله ، ولم يتعرض المؤلف لذكر المنفرد ، وحكمه الجهر بها قياسا عليهما .

فرع : إذا قال : آمين رب العالمين ، فقياس قول أحمد في التكبير الله أكبر كبيرا لا يستحب ( فإن لم يحسن الفاتحة ) لزمه تعلمها ، لأنها واجبة في الصلاة ، فلزمه تحصيلها إذا أمكنه كشروطها ، فإن لم يفعل مع القدرة عليه لم تصح صلاته ، فإن كان عاجزا عنه إما لبعد ( أو ضاق الوقت عن تعلمها ) سقط . قال أبو الفرج : إذا طال زمنه ( قرأ ) لما روى رفاعة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل : إذا قمت إلى الصلاة فإن كان معك قراءة فاقرأ ، وإلا فاحمد الله ، وهلله ، وكبر ، ثم اركع رواه أبو داود ، والترمذي ، وظاهره أنه لا ينتقل إلى الذكر إلا عند العجز عن القراءة ، ويعتبر أن يكون ذلك ( قدرها في عدد الحروف ) هذا قول في المذهب ، لأن الثواب مقدر بالحرف فكفى اعتباره ( وقيل في عدد الآيات ) دون عدد الحروف ( من غيرها ) لقوله تعالى ولقد آتيناك سبعا من المثاني ولأنه عليه السلام عد الفاتحة سبعا ، ولأن من فاته صوم طويل لم يعتبر في القضاء مثله ، والمذهب أنه يعتبر أن يكون بعدد الآي ، والحروف من غير نقص ، لأن الحرف مقصود بدليل تقدير الحسنات به ، كالآي ، وليكون البدل كالمبدل حسب الإمكان ، وعنه : يجزئه قراءة آية ( فإن لم يحسن إلا آية كررها بقدرها ) [ ص: 441 ] قدمه في " المحرر " و " الفروع " وجزم به في " الوجيز " لأنه بمثابة من قرأها لكونها من جنس الواجب ، وظاهره لو أحسن آية منها فقط كررها في الأصح ، لأن الآية منها أقرب شبها إلى بقية الفاتحة من غيرها ، والثاني : يقرؤها مرة ، ويعدل إلى الذكر بقدر بقيتها ، لأنه إذا قرأها مرة فقد أسقط فرضها ، فيجب أن لا يعيدها ، كمن وجد بعض ما يكفيه لغسله فإنه يستعمله ، ثم ينتقل إلى البدل في الباقي ، وذكر بعضهم أنه إذا كان يحسن آخرها أتى قبله بالذكر كبدل ، ثم أتى بما يحسن منها ، وعنه : لا يلزمه تكرار آية ، اختاره ابن أبي موسى ، وقيل : يقرأ الآية ، وشيئا من غيرها ، وظاهر ما سبق أنه إذا أحسن بعض آية لا يكررها ، ذكره في " المغني " وغيره ، بل يعدل إلى غيره ، وقيل : هي كآية ، والآية الطويلة كآية الدين لا تحتاج إلى تكرار بخلاف القصيرة .

( فإن لم يحسن شيئا من القرآن لم يجز أن يترجم عنه بلغة أخرى ) في المنصوص ، وصححه ابن تميم لقوله تعالى إنا أنزلناه قرآنا عربيا [ يوسف : 2 ] بلسان عربي [ الشعراء : 195 ] قال أحمد : القرآن معجز بنفسه أي : في اللفظ والمعنى ، قال الأصحاب : ترجمته بالفارسية لا تسمى قرآنا ، فلا يحرم على الجنب ، ولا يحنث بها من حلف لا يقرأ ، وقيل : يجوز لقوله تعالى وأوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به ومن بلغ [ الأنعام : 19 ] وإنما ينذر كل قوم بلسانهم ، وجوابه ما سبق ( ولزمه أن يقول : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ) لما روى عبد الله بن أبي أوفى أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - إني لا أستطيع أن آخذ شيئا من القرآن ، فعلمني ما يجزئني ، فعلمه هؤلاء [ ص: 442 ] الخمس رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، والدارقطني ، وزاد : في صلاتي بإسناد حسن ، ولم يأمره عليه السلام أن يصلي خلف قارئ ، زاد بعضهم في الحوقلة : العلي العظيم ، ولأن هذا بدل الجنس أشبه التيمم ، وعنه : يكرره بقدر الفاتحة ، وقاله ابن عقيل : وابن الجوزي ، والمذهب إسقاط الحوقلة كما ذكره في " المحرر " وقدمه في " الفروع " وعنه : يزيد على الخمس جملتين لتصير سبع جمل بدل آيات الفاتحة من أي ذكر شاء يحمد ، ويكبر ، وذكر ابنه في " التبصرة " يسبح ، ونقله صالح ، ونقل ابن منصور : ويكبر ، ونقل الميموني : ويهلل ، ونقل عبد الله : يحمد ، ويكبر ، ويهلل ، واحتج بخبر رفاعة ، فدل أنه لا يعتبر الكل ، ولا شيء معين .

فرع : إذا صلى وتلقف القراءة من غيره صحت ، ذكره في " النوادر " وفي " الفروع " ويتوجه على الأشهر يلزم غير حافظ يقرأ من مصحف .

( فإن لم يحسن إلا بعض ذلك كرره بقدره ) كما قلنا فيمن يحسن بعض الفاتحة ( فإن لم يحسن شيئا من الذكر ) زاد بعضهم : وعجز عن قارئ يومه ( وقف بقدر القراءة ) أي : قراءة الفاتحة ، ذكره في " المحرر " و " الوجيز " لأن القيام مقصود في نفسه ، لأنه لو تركه مع القدرة عليه لم يجزئه ، وإن كان أخرس فمع القدرة تجب القراءة والقيام بقدرها ، فإذا عجز عن أحدهما لزمه الآخر ، لقوله عليه السلام : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم .

مسألة : يستحب سكوت الإمام بعد الفاتحة ليقرأ من خلفه لئلا ينازع فيها ، كنصه على السكوت قبلها ، ونقل عبد الله : يسكت قبل القراءة وبعدها .

[ ص: 443 ] وقيل : ظاهر كلام أحمد أن السكتة إذا فرغ من القراءة كلها ، لئلا يصل القراءة بتكبيرة الركوع ، ولا يسن السكوت ليقرأ المأموم .

التالي السابق


الخدمات العلمية