صفحة جزء
[ ص: 113 ] باب

فرض الوضوء وصفته وشرطه

وفروضه ستة : غسل الوجه ، والفم ، والأنف ، منه ، وغسل اليدين ، ومسح الرأس ، وغسل الرجلين ، وترتيبه على ما ذكر الله تعالى والموالاة على إحدى الروايتين ، وهي ألا يؤخر غسل عضو حتى ينشف الذي قبله ، والنية شرط لطهارة الحدث كلها ، وهي أن يقصد رفع الحدث أو الطهارة لما لا يباح إلا بها ، فإن نوى ما تسن له الطهارة ، أو التجديد ، فهل يرتفع حدثه ؛ على روايتين ، وإن نوى غسلا مسنونا فهل يجزئ عن الواجب ؛ على وجهين ، وإن اجتمعت أحداث توجب الوضوء أو الغسل ، فنوى بطهارته أحدها ، فهل يرتفع سائرها ؛ على وجهين ، ويجب تقديم النية على أول واجبات الطهارة ، ويستحب تقديمها على مسنوناتها ، واستصحاب ذكرها في جميعها ، وإن استصحب حكمها ، أجزأه .


باب فرض الوضوء ،

وصفته ، وشرطه .

( وفروضه ستة ) الفروض : جمع فرض ، وهو لغة التأثير ، وشرعا قيل : ما أثيب فاعله ، وعوقب تاركه ، وهو عبارة عن استعمال الماء الطهور في الأعضاء المخصوصة على صفة مفتتحة بالنية ، وكان فرضه مع فرض الصلاة ، كما رواه ابن ماجه ، ثم اعلم أن الفرض طاعة يشتركان في توقف العبادة على وجودهما ، ويفترقان بأن الشرط خارج عنها ، والفرض داخلها ، وبأن الشرط يستصحب فيها إلى انقضائها ، والفرض ينقضي ، ويخلفه غيره ، فمنهم من نظر إلى المعنى الأول فسمى النية ونحوها فرضا ، وهي بالمعنى الثاني شرط ( غسل الوجه ) لقوله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم [ المائدة 6 ] ، ( والفم والأنف منه ) أي : من الوجه لدخولهما في حده ( وغسل اليدين إلى المرفقين ) لقوله تعالى وأيديكم إلى المرافق ( ومسح الرأس ) لقوله تعالى وامسحوا برءوسكم ( وغسل الرجلين ) لقوله تعالى وأرجلكم إلى الكعبين أي : كل واحد منهما ، وهو فرض عندنا ، وعند الجماهير لقراءة نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وحفص بالنصب في ( وأرجلكم ) عطفا على اليدين ، وقرأ الباقون بالخفض للمجاورة كقوله تعالى لهم عذاب من رجز أليم [ سبأ 5 ] ، وقيل : لما كانت الأرجل في مظنة الإسراف في الماء ، وهو منهي عنه مذموم ، عطفها على الممسوح لا لتمسح ، بل للتنبيه على الاقتصار على [ ص: 114 ] مقدار الواجب ، ثم قيل : ( إلى الكعبين ) دفعا لظن ظان أنها ممسوحة ، لأن المسح لم يضرب له غاية في الشرع ، ولفعله عليه السلام ، وقوله : ثم يغسل رجليه كما أمره الله تعالى رواه أحمد ، والطبراني ، وابن خزيمة ، والدارقطني ، وصححاه ، وقال سعيد : حدثنا يونس بن أبي يعقوب ، عن أبي الجحاف ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال : أجمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غسل القدمين . إسناد حسن ، وقالت عائشة : لأن يقطعا أحب إلي أن أمسح القدمين ، وهذا في غير لابس الخف ، فأما لابسه فغسلهما ليس فرضا متعينا في حقه ( وترتيبه على ما ذكر الله تعالى هذا هو الأصح ، وفي " الكافي " أنه ظاهر المذهب ، لأن الله تعالى أدخل الممسوح بين المغسولات ، ولا نعلم لهذا فائدة غير الترتيب ، والآية سيقت لبيان الواجب ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - رتب الوضوء ، وقال : هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ولأنه عبادة تبطل بالحدث ، فكان الترتيب من شرطه كالصلاة يجب فيها الركوع قبل السجود ، ولو كان التنكيس جائزا لفعله ، ولو مرة لتبيين الجواز ، وهذا كله على أن الواو للجمع المطلق ، فأما إذا قيل : إنها للترتيب ، فواضح ، فعلى هذا لو بدأ بشيء من الأعضاء قبل غسل الوجه لم يحسب له ، نعم إن توضأ منكسا أربع مرات صح وضوءه إن قرب الزمن ، لأنه حصل له في كل مرة غسل عضو ، ولو غسلها جميعا بانغماس واحد ، أو وضأه أربعة في حالة واحدة ، لم يجزئه ، وإن لبث في جار ، فمرت عليه أربع جريات متعاقبة ، سقط الترتيب ، إن قيل بإجزاء الغسل عن [ ص: 115 ] المسح ، وقيل : إن أمر يده على رأسه كفاه ، وإلا فلا ، ولو لم تمر عليه إلا جرية واحدة لم يجزئه ، وإن انغمس في كثير راكد فمنصوصه ، وقطع به جمع : إن خرج مرتبا جاز ، وإلا فلا ، والثانية وحكاها أبو الخطاب ، وابن عقيل بعدم الوجوب ، وأخذوا ذلك من نصه على جواز تأخير المضمضة ، والاستنشاق ، وأبى ذلك عامة الأصحاب ، وقيل : يسقط بالجهل والنسيان .

( والموالاة على إحدى الروايتين ) ذكر ابن هبيرة أنها المشهورة ، وصححها في " الرعاية " ، وجزم بها في " الوجيز " ، ورجحها في " الشرح " لقوله تعالى إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم [ المائدة 6 ] ، لأن الأول شرط ، والثاني جواب ، وإذا وجد الشرط ، وهو القيام ، وجب أن لا يتأخر عنه جوابه ، وهو غسل الأعضاء ، يؤيده ما روى خالد بن معدان : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا يصلي ، وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء ، فأمره أن يعيد الوضوء رواه أحمد ، وأبو داود ، وزاد : والصلاة ، وهذا صحيح ، وفيه بقية ، وهو ثقة روى له مسلم ، والثانية ، ونقلها حنبل عنه أنها لا تجب ، وهي قول ابن المنذر ، لأن الله تعالى أمر بالغسل ، ولم يشترط الموالاة ، وعن ابن عمر أنه غسل رجليه بعدما جف وضوءه ، ونصر الشيخ تقي الدين ذلك ، وزعم أنه الأشبه بأصول الشريعة ، وله نظائر منها : التتابع في صوم شهري الكفارة ، وجوابه النص ، والإجماع ، ثم لو تركه لعذر لم ينقطع ، وكذا الموالاة في قراءة الفاتحة ، وفي الطواف ، والسعي لا يبطل بفعل المكتوبة ( وهو أن لا يؤخر غسل عضو [ ص: 116 ] حتى ينشف الذي قبله ) في زمن معتدل ، أو بمقداره من الشتاء ، والصيف ، والهواء ، وهل الاعتبار بما يلي العضو المغسول ، أو أولها ، فيه أقوال ، والتفريق المبطل ما يعد في العرف تفريقا ، قال الخلال : هو الأشبه بقوله ، والعمل عليه ، فلو جف الأول لاشتغاله في الثاني بسنة كتخليل ، وإسباغ لم يضر ، وكذا إن كان لوسوسة ، وإزالة وسخ في الأصح ، وإن كان للاشتغال بتحصيل الماء فروايتان ، ويضر إسراف ، وإزالة الوسخ لغير الطهارة ، وزيادة على الثلاث ، لأنه ليس من الطهارة شرعا ، ولا تسقط هي ، وترتيب سهوا ، كبقية الفروض .

( والنية ) لغة : القصد يقال : نواك الله بخير أي : قصدك به ، ومحلها القلب فلا بد أن يقصد بقلبه ، وأن يخلصها لله تعالى ، لأنه عمل القلب ، والنص دل على الثواب في كل وضوء ، ولا ثواب في غير منوي بالإجماع ( شرط ) وهو لغة : العلامة ، ومنه قوله تعالى فقد جاء أشراطها [ القتال 18 ] ، واصطلاحا : ما يلزم من عدمه العدم ، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم ( لطهارة الحدث كلها ) بغير خلاف نعلمه لقوله تعالى وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين [ البينة 5 ] ، والإخلاص محض النية ، وقد صح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إنما الأعمال بالنيات وأكده بقوله وإنما لكل امرئ ما نوى وقوله لا عمل إلا بنية ولأن الوضوء عبادة لقوله عليه السلام : الطهور شطر الإيمان رواه مسلم . وأخبر أن الخطايا تخرج بالوضوء ، وكل عبادة لا بد لها من [ ص: 117 ] نية ، فالعبادة ما أمر به شرعا من غير اضطراد عرفي ، ولا اقتضاء عقلي ، قيل لأبي البقاء : الإسلام والنية عبادتان ، ولا يفتقران إلى النية ، فقال : الإسلام ليس بعبادة لصدوره من الكافر ، وليس من أهلها ، سلمنا ، لكن صح للضرورة ، لأنه لا يصدر إلا من كافر ، وأما النية ، فلقطع التسلسل ، ولأنها طهارة حكمية ، فافتقرت إلى النية كالكفارة ، بخلاف طهارة الخبث ، فإنها نقل عين ، أشبه رد الوديعة ، ولأن طهارة الحدث بابها الفعل أشبهت الصلاة ، وطهارة النجاسة بابها الترك أشبهت ترك الزنا ، وذكر بعض أصحابنا عن طوائف من العلماء أنه ليس من شرط العبادة النية بدليل الستارة ، واستقبال القبلة ، وهما شرطان للعبادة ، وأجيب بأنهما يوجدان في جميع الصلاة كوجودهما قبلها ، فنية الصلاة متضمنة لهما بخلاف طهارة الحدث ، ولهذا لو حلف لا يتطهر ، وهو متطهر لم يحنث بالاستدامة ، ولو حلف لا يستتر ، ولا يستقبل حنث باستدامتهما ، وظاهره أنها ليست بشرط في طهارة النجس ، وهو كذلك في الأصح ، وفيه وجه : يشترط إن كانت على البدن ، وفي رواية : أنها شرط مطلقا ( وهي أن يقصد رفع الحدث ) ، وهو المانع مما تشترط له الطهارة ، والمراد رفع حكمه ، وإلا فالحدث إذا وقع لا يرتفع ( أو الطهارة لما لا يباح إلا بها ) أي : يقصد استباحة عبادة لا تستباح إلا بالطهارة كالصلاة ، والطواف ، ومس المصحف ، لأن ذلك يستلزم رفع الحدث ضرورة أن صحة ذلك لا تجتمع معه ، فإن نوى التبرد ، وما لا تشرع له الطهارة ، كأكل وبيع ، ونوى مع ذلك الطهارة صحت ، وإلا فلا ، وإن غسل أعضاءه ليزيل عنها [ ص: 118 ] النجاسة ، أو ليعلم غيره لم يجزئه ، وإن نوى صلاة معينة لا غيرها ارتفع مطلقا ، وإن نوى طهارة مطلقة ، أو وضوءا مطلقا فالراجح أنه لا يرتفع ، وإن نوى الجنب بغسله القراءة ارتفع الأكبر ، وفي الأصغر وجهان ، وإن نوى بغسله اللبث في المسجد ، ارتفع الأصغر في أعضاء الوضوء ، وقيل : وغيرها وجهان ، وإن نوى من حدثه مستمرا استباحة الصلاة صح ، وارتفع حدثه ، ولا يحتاج إلى تعيين النية للفرض ، فلو نوى رفع الحدث لم يرتفع في الأقيس ، ويسن نطقه بها سرا ، ولا يضر سبق لسانه بخلاف قصده .

تنبيه : يشترط لصحة وضوء عقل ، وتمييز ، وإسلام ، ودخول وقت على من حدثه دائم لفرضه ، وإزالة ما يمنع وصول الماء ، وطهر من حيض ، ونفاس ، وفراغه من خروج خارج ، وطهورية ماء ، وإباحته ( فإن نوى ما تسن له الطهارة ) كقراءة القرآن ، والأذان ، ونحوهما ( أو التجديد ) ناسيا حدثه ( فهل يرتفع حدثه ؛ على روايتين ) إحداهما : لا يرتفع ، اختارها ابن حامد ، والشيرازي ، وأبو الخطاب ، كمن نوى التبرد ، والأخرى : يرتفع ، اختارها أبو حفص ، والشيخان ، وجزم بها في " الوجيز " لأنه نوى طهارة شرعية ، وصحح السامري أنه لا يرتفع ، إذا نوى ما تسن له الطهارة ، وفي " الرعاية " إن جدد محدث وضوءه ناسيا حدثه ، لم يرتفع في الأشهر ، وفي حصول التجديد إذا لم يرتفع احتمالان ( وإن نوى غسلا مسنونا ) كغسل يوم الجمعة ( فهل يجزئه عن الواجب ) كغسل الجنابة ( على وجهين ) هما مبنيان على الخلاف السابق ، والمذهب الإجزاء كعكسه فإن لم يرتفع الواجب حصل المسنون ، وقيل : لا ، وقيل : يجزئه الواجب [ ص: 119 ] لأنه أعلى ، فإن نواهما حصلا ، نص عليه ( وإن اجتمعت أحداث توجب الوضوء أو الغسل ) متنوعة قيل : معا ، وقيل : أو متفرقة ( فنوى بطهارته أحدها ) وقيل : وعلى أن لا يرتفع غيره ( فهل يرتفع سائرها ) أي : باقيها قال ابن هشام : ولا أعلم أحدا من أئمة اللغة ذكر بأنها بمعنى الجميع إلا الجوهري ، وهو وهم ( على وجهين ) أحدهما : يرتفع ، وهو قول القاضي ، وجزم به في " الوجيز " ، وهو الأصح ، لأن الأحداث تتداخل ، فإذا ارتفع البعض ارتفع الجميع ، والآخر لا يرتفع إلا ما نواه ، وقاله أبو بكر عبد العزيز ، لأنه لم ينوه أشبه ما لم ينو شيئا ، فعلى قوله إذا اغتسلت من هي حائض جنب للحيض ، حل وطؤها دون غيره لبقاء الحرمة ، وفيه وجه ، إن سبق أحدهما ، ونواه ارتفع عن المنوي ، وإلا فلا ، وفيه وجه : يجزئ نية حيض عن جنابة من غير عكس ، وما سوى ذلك يرتفع ، وفيه وجه : لا يجزئ أحدهما عن الآخر ، ويجزئ في غيرهما ، وظاهره أنه إذا نوى الجميع ارتفع وهو كذلك عند الأكثر ، لأنه لم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اغتسل من الجنابة إلا غسلا واحدا ، وهو يتضمن التقاء الختانين ، والإنزال .

( ويجب تقديم النية على أول واجبات الطهارة ) لأن النية شرط لصحتها ، فيعتبر وجودها في أولها ، فلو فعل شيئا من الواجبات قبل وجود النية لم يعتد [ ص: 120 ] به ، ويجوز تقديمها بزمن يسير كالصلاة ، وقيل : وطويل ما لم يفسخها ، والأصح أنه لا يبطلها عمل يسير ( ويستحب تقديمها على مسنوناتها ) أي : يستحب تقديمها على أول المسنونات منها ، كغسل اليد إذا لم يكن قائما من نوم الليل ، ليشمل مفروض الوضوء ومسنونه ، فلو فرق النية على أعضاء الطهارة ، صح في الأشهر .

فرع : غسل الذمية من الحيض لا يفتقر إلى نية ، واعتبره الدينوري قال في " الرعاية " : والنص أنه لا يجزئ غسل بلا نية ( واستصحاب ذكرها في جميعها ) قال الشيخ تقي الدين : وهو أفضل لتكون أفعاله مقرونة بالنية ( وإن استصحب حكمها أجزأه ) ومعناه أن ينوي المتطهر في أولها ، ثم لا ينوي قطعها فإن عزبت عن خاطره ، وذهل عنها لم يؤثر ذلك في قطعها كالصلاة ، والصيام .

فرع إذا شك في النية في أثناء طهارته لزمه استئنافها إلا أن يكون وهما كالوسواس فلا يلتفت ، والأصح أنها لا تبطل بعد فراغه كالشك في حدث ، والثاني : تبطل ، لأن حكمها باق بخلاف الصلاة ، وإن أبطلها في أثناء طهارته بطل ما مضى في الأصح ، ولم تبطل في آخر ، لأنه وقع صحيحا فلم تبطل فتكون النية كما لو نوى قطعها من الوضوء ، ثم هل يتم على الأول ؛ ينبني على وجوب الموالاة .

التالي السابق


الخدمات العلمية