صفحة جزء
[ ص: 121 ] فصل

وصفة الوضوء أن ينوي ، ثم يسمي ، ويغسل يديه ثلاثا ، ثم يتمضمض ، ويستنشق ثلاثا من غرفة ، وإن شاء من ثلاث ، وإن شاء من ست .

وهما واجبان في الطهارتين ، وعنه : أن الاستنشاق وحده واجب فيهما ، وعنه : أنهما واجبان في الكبرى دون الصغرى .

ثم يغسل وجهه ثلاثا من منابت شعر الرأس إلى ما انحدر من اللحيين ، والذقن طولا مع ما استرسل من اللحية ، ومن الأذن إلى الأذن عرضا ، فإن كان فيه شعر خفيف يصف البشرة ، وجب غسلها معه ، وإن كان يسترها أجزأه غسل ظاهره ، ويستحب تخليله .

ثم يغسل يديه إلى المرفقين ثلاثا ، ويدخل المرفقين في الغسل ، ثم يمسح رأسه ، فيبدأ بيديه من مقدم رأسه ، ثم يمرهما إلى قفاه ، ثم يردهما إلى مقدمه ، ويجب مسح جميعه مع الأذنين وعنه : يجزئ مسح أكثره ولا يستحب تكراره ، وعنه : يستحب ، ثم يغسل رجليه ثلاثا إلى الكعبين ويدخلهما في الغسل ، ويخلل أصابعه ، فإن كان أقطع غسل ما بقي من محل الفرض ، وإن لم يبق شيء سقط ، ثم يرفع نظره إلى السماء ، ويقول : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله . وتباح معونته وتنشيف أعضائه ، ولا يستحب .


فصل

( وصفة الوضوء ) المراد بها هنا الكيفية .

( أن ينوي ، ثم يسمي ) وقد تقدما ( ويغسل يديه ) أي : كفيه ( ثلاثا ) لأن من وصف وضوء النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنه كان يبدأ فيغسل كفيه ثلاث مرات ، لأن اليدين آلة لنقل الماء ، فاستحب غسلهما تحقيقا لطهارتهما ، وتنظيفا لهما ، وحينئذ فيتكرر غسلهما عند الاستيقاظ من النوم ، وفي أوله ، ومع كل يد ( ثم يتمضمض ، ويستنشق ثلاثا من غرفة ) لما روى ابن عباس : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ فأخذ غرفة من ماء فمضمض بها ، واستنشق رواه البخاري ، والمضمضة : إدارة الماء في الفم ، والاستنشاق : اجتذاب الماء بالنفس إلى باطن الأنف ، والسنة أن يكون بيمينه ، ويستنثر بيساره ، وعنه : يجب في الصغرى ، وظاهره أنه يسن تقديم المضمضة عليه ، ويتوجه أنه يجب وفاقا للشافعي ، ولأن الفم أشرف لكونه محل القراءة ، والذكر ، وغيرهما ، وهما في ترتيب ، وموالاة كغيرهما ( وإن شاء من ثلاث ) للحديث المتفق عليه : أنه أدخل يده في الإناء فمضمض ، واستنشق ثلاثا بثلاث غرفات ( وإن شاء من ست ) لأن في حديث جد طلحة بن مصرف قال : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يفصل بين المضمضة ، والاستنشاق رواه أبو داود ، ووضوءه كان ثلاثا ثلاثا ، فلزم كونهما من ست ، والأفضل كما نص عليه أن يكون لهما من غرفة واحدة ، وفي تسميتهما فرضا وسقوطهما سهوا روايتان ، والمذهب أنهما يسميان فرضا ، ولا [ ص: 122 ] يسقطان سهوا ( وهما واجبان في الطهارتين ) هذا هو المشهور ، لأن الله تعالى أمر بغسل الوجه وأطلق ، وفسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله وتعليمه : تمضمض ، واستنشق في كل وضوء توضأه ، ولم ينقل عنه الإخلال به مع اقتصاره على المجزئ ، وهو الوضوء مرة مرة ، وقوله هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به ، وفعله إذا خرج بيانا كان حكمه حكم ذلك المبين ، ولو كان مستحبا لتركه ، ولو مرة ، لتبيين الجواز كما في الثانية والثالثة ، وقد روى الدارقطني ، عن أبي هريرة قال : أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمضمضة ، والاستنشاق ، وإسناده جيد ، وفي حديث لقيط بن صبرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا توضأت فتمضمض رواه أبو داود بإسناد جيد ، ولأنهما في حكم الظاهر ، بدليل أن وضع الطعام ، والخمر فيهما لا يوجب فطرا ، ولا ينشر حرمة ، ولا توجب حدا ، وحصول النجاسة فيهما يوجب غسلهما ، وينقض الوضوء بوصولهما إليهما ، ولا يشق إيصال الماء إليهما ، بخلاف باطن اللحية الكثة ( وعنه : أن الاستنشاق وحده واجب فيهما لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماء ، ثم لينثر ، وفي لفظ : فليستنشق .

وإذا ثبت ذلك في الوضوء ففي الغسل أولى ، ولأن طرف الأنف لا يزال مفتوحا بخلاف الفم ، وقاله أبو عبيد ، وأبو ثور ( وعنه : أنهما واجبان في الكبرى ) لأنه يجب إيصال الماء فيها إلى باطن الشعور ، ونحوه ( دون الصغرى ) لأن المأمور فيها غسل الوجه ، وهو ما تقع به المواجهة ، وليسا كذلك ، أشبها باطن [ ص: 123 ] اللحية الكثة ، وعنه : يجبان في الأصغر فقط ، نقلها الميموني ، وعنه : يجب الاستنشاق وحده في الأصغر ، ذكرها صاحب الهداية ، وعنه : عكسها ذكرها ابن الجوزي ، وعنه : هما سنة وفاقا لمالك والشافعي ، كانتثاره .

( ثم يغسل وجهه ) للنص ، فيأخذ الماء بيديه جميعا أو يغترف بيمينه ، ويضم إليها الأخرى ، ويغسل بها ثلاثا ، لأن السنة قد استفاضت به ، خصوصا حديث عثمان المتفق على صحته ( من منابت شعر الرأس ) غالبا ، فلا عبرة بالأقرع الذي ينبت شعره في بعض جبهته ، ولا بالأجلح الذي انحسر شعره عن مقدم رأسه ( إلى ما انحدر من اللحيين ، والذقن طولا مع ما استرسل من اللحية ، ومن الأذن إلى الأذن عرضا ) لأن ذلك تحصل به المواجهة ، وعلم من كلامه أن الأذنين ليسا من الوجه ، وأن البياض الذي بين العذار ، والأذن منه ، ونص الخرقي عليه ، لأنه يغفل الناس عنه ، وقال مالك : ليس من الوجه ، ولا يجب غسله ، قال ابن عبد البر : لا أعلم أحدا من فقهاء الأمصار قال بقوله هذا ، ولأنه يجب في حق غير الملتحي ، فكذا غيره ، فيدخل في حد الوجه : العذار : وهو الشعر الذي على العظم الناتئ سمت صماخ الأذن ، مرتفعا إلى الصدغ ، ومنحطا إلى العارض ، والعارض : هو الشعر النابت على الخد ، واللحيان : العظمان اللذان في أسفل الوجه قد اكتنفاه ، وعليهما ينبت أكثر اللحية ، والذقن : وهو مجمع اللحيين ، والحاجبان ، وأهداب العينين ، والشارب ، والعنفقة ، ولا يدخل صدغ ، وهو الشعر الذي بعد انتهاء العذار محاذي رأس الأذن ، وينزل عن رأسها قليلا في ظاهر كلام أحمد ، وهو الأصح ، واختلف في التحذيف ، [ ص: 124 ] وهو الشعر بين انتهاء العذار والنزعة ، فقال ابن حامد : هو منه ، وذكر بعضهم : أنه الأصح ، وضابطه أن يضع طرف خيط على رأس الأذن ، والطرف الثاني على أعلى الجبهة ، ويفرض هذا الخيط مستقيما ، فما نزل عنه إلى جانب الوجه ، فهو موضع التحذيف ، ولا يدخل فيه النزعتان ، وهما ما انحسر عنه الشعر في الرأس متصاعدا من جانبيه ، واختار ابن عقيل ، والشيرازي خلافه ، ودل كلامه أنه يجب غسل اللحية مع مسترسلها ، أو خرج عن حد الوجه عرضا ، وهو ظاهر المذهب ، وعنه : لا يجب غسل ما خرج عن محاذاة البشرة طولا ، وعرضا ، وهو ظاهر الخرقي في المسترسل ، كما لا يجب غسل ما استرسل من الرأس ، والأول أصح ، لأن اللحية تشارك الوجه في معنى التوجه والمواجهة ، وخرج ما نزل من الرأس عنه ، لعدم مشاركة الرأس في الترؤس .

مسألة : يستحب أن يزيد في ماء الوجه لأساريره ، ودواخله ، وخوارجه ، وشعوره ، قاله أحمد ، وكره أن يأخذ الماء ، ثم يصبه ، ثم يغسل وجهه ، وقال هذا مسح ، وليس بغسل ، وتقدم أنه لا يجب غسل داخل العينين ( فإن كان فيه شعر خفيف يصف البشرة ، وجب غسلها معه ) لأنها لا يستر ما تحتها ، أشبه الذي لا شعر عليه ، ويجب غسل الشعر تبعا للمحل ( وإن كان يسترها أجزأه غسل ظاهره ) لحصول المواجهة فوجب تعلق الحكم به ، بخلاف الغسل ، وقيل : لا ، كتيمم ، وقيل : يجب غسله ، وشعر غير اللحية كهي ، وقيل : يجب غسله وفاقا للشافعي ( ويستحب تخليله ) كما تقدم .

[ ص: 125 ] فرع : لو كان عليه شعر خفيف ، وكثيف ، فظاهر كلامهم أن لكل واحد حكمه .

( ثم يغسل يديه ) للنص ، ولا خلاف بين الأمة فيه ( إلى المرفقين ) ويجب غسل أظفاره ، ولا يضر وسخ يسير في الأصح كبراجمه ، وقيل : إن منع وصول الماء إلى ما تحته كشمع ففي صحة طهارته وجهان ، وجزم ابن عقيل بعدمها ، وقيل : يسامح فلاح ، ونحوه ، وظاهره أنه إذا نبت له إصبع زائدة أو يد في محل الفرض فإنه يجب غسلها معه ، فلو كان النابت في العضد أو المنكب ، ولم يتميز الأصلي غسلا وجها واحدا ، وإن تميز لم يجب غسل ما لم يحاذ الفرض ، وكذا إن حاذاه منها شيء على المذهب ، واختار القاضي ، والشيرازي ، وصححه ابن حمدان : أنه يجب غسل المحاذي ، وإذا تدلت جلدة إلى محل الفرض ، أو منه غسلت ، وقيل : إن تدلت من محل الفرض غسلت ، وإلا فلا ، ذكره ابن تميم ، وإن التحم رأسها في محل الفرض وجب غسل ما فيه منها ( ثلاثا ) لحديث عثمان ، وغيره ( المرفقين في الغسل ) لما روى الدارقطني ، عن جابر قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضأ أمر الماء على مرفقه ، وهذا بيان للغسل المأمور به في الآية الكريمة ، وعنه : لا يجب إدخالهما فيه ، وقاله زفر : لأن " إلى " للغاية ، قلنا : وقد تكون بمعنى " مع " كقوله تعالى ويزدكم قوة إلى قوتكم [ هود 52 ] [ ص: 126 ] ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم [ النساء 2 ] فبين عليه السلام أنها كذلك ، أو يقال : اليد تطلق حقيقة إلى المنكب ، وإلى آخر عدا المرفق ، فإن كانت اليد لا مرفق لها ، غسل إلى قدر المرفق في غالب الناس .

( ثم يمسح رأسه ) وهو فرض بالإجماع ، وسنده النص ، وهو ما ينبت عليه الشعر في حق الصبي ، قال في " الشرح " : وينبغي أن يعتبر غالب الناس ، فلا يعتبر الأقرع ، ولا الأجلح ، كما سبق في حد الوجه ( فيبدأ بيديه من مقدم رأسه ، ثم يمرها إلى قفاه ، ثم يردهما إلى مقدمه ) كذا في " المحرر " وفي " المغني " ، و " الشرح " : يضع طرف إحدى سبابتيه على طرف الأخرى ، ويضعهما على مقدم رأسه ، ويضع الإبهامين على الصدغين ، ثم يديه إلى قفاه ، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه ، لما روى عبد الله بن زيد في وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فمسح رأسه بيديه ، فأقبل بهما وأدبر ، بدأ بمقدم رأسه حتى إذا ذهب بهما إلى قفاه ، ثم ردهما إلى المكان الذي بدأ منه متفق عليه . ويستثنى من ذلك ما إذا خاف أن ينتفش شعره برد يديه فإنه لا يردهما ، نص عليه ، بل يمسح إلى قفاه فقط ، سواء كان رجلا أو امرأة ، وعنه : يبدأ بمؤخره ، ويختم به ، وعنه : تبدأ هي من وسطه إلى مقدمه ، ثم من الوسط إلى مؤخره ، قال في " المغني " ، و " الشرح " : وكيف مسح بعد استيعاب قدر الواجب أجزأه ، ويجزئ بعض يده ، وبحائل في الأصح ، وفاقا لأبي حنيفة ، والشافعي .

[ ص: 127 ] ( ويجب مسح جميعه ) هذا ظاهر الخرقي ، ومختار عامة الأصحاب ، وذكر القاضي ، والسامري : أنه أصح الروايات ، لأنه تعالى أمر بمسح الرأس ، وبمسح الوجه في التيمم ، وهو يجب الاستيعاب فيه ، فكذا هنا إذ لا فرق ، ولأنه عليه السلام مسح جميعه ، وفعله وقع بيانا للآية ، والباء للإلصاق أي : إلصاق الفعل بالمفعول فكأنه قيل : ألصقوا المسح برءوسكم أي : المسح بالماء ، وهذا بخلاف لو قيل : امسحوا رءوسكم ، فإنه لا يدل على أنه ، ثم شيء ملصق ، كما يقال : مسحت رأس اليتيم ، وأما دعوى أن الباء إذا وليت فعلا متعديا أفادت التبعيض في مجرورها لغة ، فغير مسلم دفعا للاشتراك ، ولإنكار الأئمة ، قال أبو بكر : سألت ابن دريد ، وابن عرفة عن الباء تبعض ؛ فقالا : لا نعرفه في اللغة ، وقال ابن برهان : من زعم أن الباء تبعض فقد جاء عن أهل اللغة بما لا يعرفونه ، وقوله يشرب بها عباد الله [ الإنسان : 6 ] ، وقول الشاعر :


شربن بماء البحر

فمن باب التضمين ، كأنه قيل : تروى ، وما روي أنه عليه السلام مسح مقدم رأسه فمحمول على أن ذلك مع العمامة كما جاء مفسرا في حديث المغيرة بن شعبة ، ونحن نقول به ، وظاهره أنه يتعين استيعاب ظاهره كله ، لكن استثنى في " المترجم " ، و " المبهج " اليسير للمشقة ( مع الأذنين ) أي : يجب مسحهما مع الرأس في رواية اختارها جماعة ، لقوله عليه السلام : الأذنان من الرأس [ ص: 128 ] وظاهر المذهب أنه لا يجب مسحهما ، وإن وجب الاستيعاب ، لأنهما منه حكما لا حقيقة ، لأن الرأس عند إطلاق لفظه إنما يتناول ما عليه الشعر ، بدليل أنه لا يجزئ مسحهما عنه ، وإن قلنا بإجزاء البعض قاله الجمهور ( وعنه : يجزئ مسح أكثره ) لأنه يطلق على الجميع كما يقال جاء العسكر ، والمراد أكثره ، ولأن إيجاب الكل قد يفضي إلى الحرج غالبا ، وأنه منفي شرعا ، فإن ترك الثلاث فما دون ، جاز ، وقاله محمد بن مسلمة ، وعنه : يجزئ بعضه ، وفي " الانتصار " : في التجديد ، وفي " التعليق " : للعذر ، واختاره الشيخ تقي الدين ، وأنه يمسح معه العمامة ، ويكون كالجبيرة فلا توقيت ، وعنه : يجزئ بعضه للمرأة ، وهي الظاهرة عند الخلال والمؤلف; لأن عائشة كانت تمسح مقدم رأسها ، وعنه : قدر الناصية ، وفي تعيينها وجهان ، وهي مقدمة عند القاضي ، وقدمه في " الفروع " وقيل : قصاص الشعر .

تذنيب : إذا مسح بشرة رأسه دون ظاهر شعره لم يجزئه ، وكذا إذا مسح ما نزل عن الرأس من الشعر ، ولو كان معقوصا على الرأس ، وإن غسل رأسه بدلا عن مسحه ، ثم أمر يده عليه جاز في الأشهر ، وكذا الخف والجبيرة ، قال ابن حامد : إنما يجزئ الغسل عنه إذا نواه به ، فلو أصاب رأسه ماء من غير قصد ، ثم مسحه بيده بعد نية الوضوء أجزأه في الأقيس ، والثاني : لا ، كما لو وضع يده مبلولة على رأسه ، ولم يمرها عليه ، أو وضع عليه خرقة مبلولة ، أو بلها عليه ، ولو كان على رأسه خضاب فمسح عليه لم يجزئه ، نص عليه .

[ ص: 129 ] ( ولا يستحب تكراره ) في الصحيح من المذهب ، قال الترمذي : والعمل عليه عند أكثر أهل العلم ، لأن أكثر من وصف وضوء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر أنه مسح رأسه واحدة ، ولأنه مسح في طهارة عن حدث ، فلم يستحب تكراره ، كالمسح على الخفين ، وفي التيمم ( وعنه : يستحب ) قال في " المغني " : ويحتمله كلام الخرقي لقوله : والثلاث أفضل ، وفيه نظر - بماء جديد ، نصره أبو الخطاب ، وابن الجوزي ، لما روى عثمان : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح رأسه ثلاثا رواه أبو داود ، قال ابن الصلاح : حديث حسن ، ولأنه أصل في الطهارة فسن تكراره كالوجه ، والأول أولى ، قال أبو داود : أحاديث عثمان الصحاح كلها تدل على أن مسح الرأس واحدة ، فإنهم ذكروا الوضوء ثلاثا ثلاثا ، وقالوا فيها : ومسح برأسه ، ولم يذكروا عددا كما ذكروا في غيره ، قال في " الشرح " : أحاديثهم لا يصح منها شيء صريح ، لا يقال : إن مسحه عليه السلام مرة واحدة لتبيين الجواز ، وثلاثا لتبيين الفضيلة كما فعل في الغسل ، لأن قول الراوي هذا طهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدل على أنه طهور على الدوام .

فرع : إذا زال شعره بعد غسله ، أو مسحه ، أو ظفر ، أو عضو ، لم يؤثر في طهارته في قول أكثر العلماء ، وقيل : بلى ، وروي عن بعض السلف .

( ثم يغسل رجليه ) للآية الكريمة ( ثلاثا ) لحديث عثمان وغيره ( إلى الكعبين ) أي : كل رجل تغسل إلى الكعبين ، ولو أراد كعاب جميع الأرجل لذكره بلفظ الجمع كقوله تعالى وأيديكم إلى المرافق ، لأن مقابلة الجمع بالجمع يقتضي توزيع الأفراد على الأفراد ، كقولك ركب القوم دوابهم .

[ ص: 130 ] والكعبان : هما العظمان الناتئان اللذان في أسفل الساق من جانبي القدم ، وقاله أبو عبيد ، ويدل عليه حديث النعمان بن بشير ، قال : كان أحدنا يلصق كعبه بكعب صاحبه في الصلاة . رواه أحمد ، وأبو داود ، ولو كان مشط القدم لم يستقم ذلك ( ويدخلهما في الغسل ) كما سبق ، ولقوله عليه السلام : ويل للأعقاب من النار متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو .

( ويخلل أصابعه ) وقد تقدم ( فإن كان أقطع ، غسل ما بقي من محل الفرض ) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم متفق عليه ( وإن لم يبق شيء ) من محل الفرض ( سقط ) لفوات المحل . فلو قطع من المرفق غسل رأس العضد ، نص عليه ، وقدمه في " المحرر " ، وجزم به في " الوجيز " ، وفيه وجه : يستحب مسح طرفه ، صححه في " الرعاية " ، وهو ظاهر كلام المؤلف . فإن كان القطع من فوق المرفق لم يجب شيء ، ولم يستحب مسح موضع القطع ، وقيل : يستحب ، وهو ظاهر ما في " الشرح " لئلا يخلو العضو عن طهارة ، وهو موضع التحجيل ، فأما المتيمم إذا قطعت يده من مفصل الكوع سقط مسح ما بقي هناك ، وإن قلنا : يجب في الغسل ، لأن الواجب هنا مسح الكفين ، وقد رميا ، بخلاف الوضوء ، فإن المرفق من جملة محل الفرض ، وهذا أحد الوجهين ، والمنصوص : وجوب المسح أيضا ، لأن المأمور به مسح اليد إلى الكوع .

[ ص: 131 ] فرع : إذا تبرع بتطهيره لزمه ذلك ، ويتوجه : لا ، ويتيمم . فإن لم يجد إلا بأجرة مثله لزمه ، وقيل : لا ، لتكرر الضرر دواما فإن عجز صلى ، وفي الإعادة وجهان ، كعادم الطهورين . قال في " الفروع " : ويتوجه في استنجاء مثله ، وفي المذهب : يلزمه بأجرة مثله ، وزيادة لا تجحف في وجه .

( ثم يرفع نظره إلى السماء ، ويقول : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ) لما روى مسلم ، عن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ورواه الترمذي ، وزاد اللهم اجعلني من التوابين ، واجعلني من المتطهرين ورواه أحمد ، وأبو داود ، وفيه ثم رفع نظره إلى السماء قال في " الفروع " : ويتوجه ذلك بعد الغسل ، ولم يذكروه .

( وتباح معونته ) كتقريب ماء الوضوء ، أو الغسل إليه ، أو صبه عليه ، لما روى المغيرة بن شعبة قال : بينا أنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة ، إذ نزل ، فقضى حاجته ، فصببت عليه من إداوة كانت معي ، فتوضأ ، ومسح على خفيه متفق عليه ، ولفظه لمسلم ، ويقف عن يساره ، وقيل : عكسه .

فرع : إذا وضأه غيره اعتبرت النية في المتوضئ ، لأنه المخاطب ، وقيل : مع نية من وضأه إن كان مسلما ، قال ابن تميم : لو وضأه غيره ، ولا عذر ، كره ، وأجزأه ، وعنه : لا ، وإن أكرهه عليه لم يصح في الأصح .

[ ص: 132 ] ( وتنشيف أعضائه ) من غير كراهة فيهما ، لما روى قيس بن سعد قال : زارنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في منزلنا ، فأمر له سعد بغسل ، فوضع له ، فاغتسل ، ثم ناوله ملحفة مصبوغة بزعفران ، أو ورس ، فاشتمل بها رواه أحمد ، وأبو داود ، وعنه : يكرهان كنفض يده ، لخبر أبي هريرة إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم فإنها مراوح الشيطان رواه المعمري ، وغيره ، والمذهب عدم الكراهة ، اختاره الشيخان لكن قيل لأحمد عن مسح بلل الخف فكرهه ، وقال : لا أدري لم أسمع فيه بشيء ( ولا يستحب ) جزم به في " الوجيز " لأنه إزالة أثر العبادة ، فلم يستحب كإزالة دم الشهيد ، ولو كان أفضل لداوم عليه .

مسائل :

الأولى : المفاضلة بين أعضاء الوضوء غير مكروهة لحديث عبد الله بن زيد ، وعنه : تكره ، إذ لا مفاضلة بينها كما تدل عليه الأحاديث ، ويعمل في عددها بالأقل ، وفي " النهاية " : بالأكثر .

الثانية : يسن التجديد لكل صلاة للأخبار ، منها ما رواه أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعا قال : لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالوضوء عند كل صلاة وإسناده صحيح ، وعنه : لا ، كما لا يستحب تجديد الغسل ، وكما لو لم يصل بينهما [ ص: 133 ] وقيل : يكره ، وقيل : المداومة ، ولا بأس أن يصلي به ما لم يحدث ، وهو قول الأكثر ، وحكى الطحاوي ، عن ابن عمر ، وجماعة وجوب الوضوء لكل صلاة ، وقال النخعي : لا يصلي بوضوء واحد أكثر من خمس ، وخصها قوم بالمسافر .

الثالثة : يباح هو وغسل في المسجد إن لم يؤذ به أحدا ، حكاه ابن المنذر إجماعا ، وعنه : يكره ، وإن نجس المنفصل حرم كاستنجاء ، وريح ، وهل تكره إراقته فيما يداس ؛ فيه روايتان ، ويكره في مسجد ، قال الشيخ تقي الدين : ولا يغسل فيه ميت : قال : ويجوز عمل مكان للوضوء للمصلحة بلا محذور .

الرابعة : إذا بقي لمعة من محل الفرض لم يصبها الماء ، فهل يجزئ مسحها ؛ على روايتين مع الترتيب ، والموالاة في ظاهر المذهب .

الخامسة : يكره الكلام على الوضوء ، والمراد بغير ذكر الله تعالى ، صرح به جمع ، وكذا السلام عليه ، وظاهر كلام الأكثر لا يكره السلام ، ولا الرد ، وإن كان على طهر فهو أكمل لفعله عليه السلام ، ويستقبل القبلة ، وكذا في كل عبادة إلا لدليل .

السادسة : الحدث يحل جميع البدن كالجنابة ، قال في " الفروع " : ويتوجه أعضاء الوضوء ، وهو ظاهر .

السابعة : يجب الوضوء بالحدث ، وقيل : بإرادة الصلاة بعد ، وقواه ابن الجوزي ، وذكر في " الفروع " : ويتوجه قياس المذهب بدخول الوقت لوجوب [ ص: 134 ] الصلاة إذن ، ووجوب الشرط بوجوب المشروط ، ويتوجه مثله في غسل ، قال الشيخ تقي الدين : وهو لفظي .

فائدة : الحكمة في غسل الأعضاء المذكورة في الوضوء دون غيرها أنه ليس في البدن ما يتحرك للمخالفة أسرع منها ، فأمر بغسلها ظاهرا تنبيها على طهارتها الباطنة ، ورتب غسلها على ترتيب سرعة الحركة في المخالفة ، فأمر بغسل الوجه ، وفيه الفم والأنف ، فابتدأ بالمضمضة ، لأن اللسان أكثر الأعضاء وأشدها حركة ، لأن غيره قد يسلم ، وهو كثير العطب قليل السلامة غالبا ، ثم بالأنف لينوب عما يشم به ، ثم بالوجه لينوب عما نظر ، ثم باليدين لتنوب عن البطش ، ثم خص الرأس بالمسح ، لأنه مجاور لمن تقع منه المخالفة ، ثم بالأذن لأجل السماع ، ثم بالرجل لأجل المشي ، ثم أرشده بعد ذلك إلى تجديد الإيمان بالشهادتين .

التالي السابق


الخدمات العلمية