صفحة جزء
ويقنت فيها بعد الركوع ، فيقول : اللهم إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ، ونتوب إليك ونؤمن بك ، ونتوكل عليك ، ونثني عليك الخير كله ، نشكرك ولا نكفرك ، اللهم إياك نعبد .

ولك نصلي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفد ، ونخشى عذابك ، إن عذابك الجد بالكفار ملحق . اللهم اهدنا فيمن هديت .

وعافنا فيمن عافيت ، وبارك لنا فيما أعطيت ، وتولنا فيمن توليت ، وقنا شر ما قضيت ، إنك تقضي ولا يقضى عليك ، إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت . اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك ، وبعفوك من عقوبتك ، وبك منك ، لا نحصي ثناء عليك ، أنت كما أثنيت على نفسك .


( ويقنت فيها ) أي : في الركعة الآخرة في جميع السنة على الأصح ; لأنه عليه السلام كان يقول في وتره أشياء تأتي ، و ( كان ) للدوام ، ولأن ما شرع في رمضان شرع في غيره كعدده ، وعنه : لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان ، اختاره الأثرم ; لأن أبيا كان يفعل ذلك حين يصلي التراويح ، ورواه أبو داود ، والبيهقي ، وفيه انقطاع ، ثم هو رأي أبي ، وعنه : أنه رجع عنها ، وخير الشيخ تقي الدين في دعاء القنوت بين فعله وتركه ، وأنه إن صلى بهم قيام رمضان فإن قنت جميع الشهر ، أو نصفه الأخير أو لم يقنت بحال ، فحسن . ( بعد الركوع ) نص عليه ، روي عن الخلفاء الراشدين لما روى أبو هريرة ، وأنس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع . متفق عليه ، وعنه : يسن قبله ، لكن يكبر ثم يقنت نص عليه ، روي عن جمع من الصحابة . قال الخطيب : الأحاديث التي جاء فيها قبل الركوع كلها معلولة ، ويرفع يديه إلى صدره ، ويبسط بطونهما نحو السماء ، نص على ذلك . ( فيقول ) الإمام جهرا ، وكذا منفرد ، نص [ ص: 8 ] عليه ، وقيل : ومأموم . وكان أحمد : يسر . وظاهر كلام جماعة : أن الجهر مختص بالإمام فقط ، قال في " الخلاف " : وهو أظهر . ( اللهم ) أصله : يا الله ; فحذفت ياء من أوله ، وعوض عنها الميم في آخره ; ولذلك لا يجتمعان إلا في ضرورة الشعر ; لئلا يجمع بين العوض والمعوض ، ولخصوا في ذلك أن يكون الابتداء بلفظ اسم الله تعالى تبركا ، وتعظيما أو طلبا للتخفيف بتصيير اللفظين لفظا واحدا . ( إنا نستعينك ونستهديك ونستغفرك ) أي : نطلب منك المعونة ، والهداية ، والمغفرة . ( ونتوب إليك ) التوبة : الرجوع عن الذنب ، وفي الشرع : الندم على ما مضى من الذنب ، والإقلاع في الحال ، والعزم على ترك العود في المستقبل تعظيما لله تعالى ، فإن كان الحق لآدمي فلا بد أن يحلله ، ( ونؤمن بك ) أي : نصدق بوحدانيتك ( ونتوكل عليك ) قال الجوهري : التوكل إظهار العجز ، والاعتماد على الغير ، والاسم التكلان . وقال ذو النون المصري : هو ترك تدبير النفس ، والانخلاع من الحول والقوة . وقال سهل بن عبد الله : هو الاسترسال مع الله تعالى على ما يريد ( ونثني عليك الخير كله ) أي : نمدحك ، ونصفك بالخير ، والثناء في الخير خاصة ، وبتقديم النون يستعمل في الخير والشر ، وقال أبو عثمان المعافري : أثنيت على الرجل : وصفته بخير أو شر ( نشكرك ولا نكفرك ) أصل الكفر : الجحود والشر ، قال في " المطالع " : والمراد هنا كفر النعمة لاقترانه بالشكر ( اللهم إياك نعبد ) قال الجوهري : معنى العبادة الطاعة ، والخضوع ، والتذلل ، ولا يستحقه إلا الله تعالى ، قال الفخر إسماعيل ، وأبو البقاء : العبادة ما أمر به شرعا من [ ص: 9 ] غير اطراد عرفي ، ولا اقتضاء عقلي ، وسمي العبد عبدا لذاته ، وانقياده لمولاه . ( ولك نصلي ونسجد ) لا لغيرك ، ( وإليك نسعى ) . يقال : سعى يسعى سعيا : إذا عدا ، وقيل : إذا كان بمعنى الجري عدي بإلى ، وإذا كان بمعنى العمل فباللام لقوله تعالى : وسعى لها سعيها [ الإسراء : 19 ] . ( ونحفد ) بفتح النون ، ويجوز ضمها ، يقال : حفد بمعنى أسرع ، وأحفد لغة فيه بمعنى يحفد يسرع ، أي : يبادر العمل ، والخدمة ( نرجو رحمتك ) يقال : رجوته ، أي أملته ، والرحمة : سعة العطاء ، و ( نخشى عذابك ) : أي نخاف عقوبتك ، لقوله تعالى : نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم وأن عذابي هو العذاب الأليم [ الحجر : 49 ، 50 ] ( إن عذابك الجد ) بكسر الجيم : الحق ، لا اللعب . ( بالكفار ملحق ) بكسر الحاء ، أي لاحق بهم ، ومن فتحها أراد أن الله يلحقه إياه ، وهو معنى صحيح غير أن الرواية هي الأولى . قال الخلال : سألت ثعلبا عن ملحق ، وملحق ; فقال : العرب تقولهما جميعا . هذا الدعاء قنت به عمر رضي الله عنه ، وفي أوله : بسم الله الرحمن الرحيم ، وفي آخره : اللهم عذب كفرة أهل الكتاب الذين يصدون عن سبيلك ، وهاتان سورتان في مصحف أبي ، قال ابن سيرين : كتبهما أبي في مصحفه إلى قوله : ملحق ، زاد غير واحد : ونخلع ونترك من يكفرك . ( اللهم اهدنا فيمن هديت ) أصل الهدى : الرشاد والبيان ، لقوله تعالى : وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم [ ص: 10 ] [ الشورى : 52 ] فأما قوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء [ القصص : 56 ] فهي من الله تعالى التوفيق ، والإرشاد ، وطلب الهداية من المؤمنين مع كونهم مهتدين بمعنى طلب التثبت عليها ، أو بمعنى المزيد منها . ( وعافنا فيمن عافيت ) المراد بها : العافية من الأسقام ، والبلايا ، والمعافاة : أن يعافيك الله من الناس ، ويعافيهم منك ، و ( بارك لنا فيما أعطيت ) البركة : الزيادة ، وقيل : هي حلول الخير الإلهي في الشيء ، والعطية : الهبة ، والمراد بها : ما أنعم به ، ( وتولنا فيمن توليت ) الولي : ضد العدو ; وهو فعيل من تليت الشيء إذا عنيت به ، ونظرت فيه ; كما ينظر الولي في مال اليتيم ; لأنه تعالى ينظر في أمر وليه بالعناية ، ويجوز أن يكون من وليت الشيء إذا لم يكن بينه وبينه واسطة ; بمعنى أن الولي يقطع الوسائط بينه وبين الله تعالى حتى يصير في مقام المراقبة والمشاهدة ; وهو مقام الإحسان ، ( وقنا شر ما قضيت إنك تقضي ولا يقضى عليك ) سبحانه لا راد لأمره ، ولا معقب لحكمه ; فإنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ( إنه لا يذل من واليت ، ولا يعز من عاديت ، تباركت ربنا وتعاليت ) رواه أحمد ، ولفظه له ، وتكلم فيه ، وأبو داود ، والترمذي ، وحسنه من حديث الحسن بن علي قال : علمني النبي صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في قنوت الوتر : ( اللهم اهدني ) إلى ( وتعاليت ) وليس فيه : ( ولا يعز من عاديت ) ، ورواه البيهقي ، وأثبتها فيه ، وتبعه المؤلف . والرواية إفراد الضمير ، وجمعها المؤلف ; لأن الإمام يستحب له أن يشارك المأموم في الدعاء . وفي " الرعاية " لك الحمد على ما قضيت نستغفرك اللهم ، ونتوب إليك لا لجأ ، ولا ملجأ ، ولا ملتجأ ، ولا منجا منك إلا إليك " [ ص: 11 ] ( اللهم إنا نعوذ برضاك من سخطك ، وبعفوك من عقوبتك ، وبك منك ) قال الخطابي : في هذا معنى لطيف ; وذلك أنه سأل الله أن يجيره برضاه من سخطه ، وهما ضدان ، ومتقابلان ، وكذلك المعافاة ، والمؤاخذة بالعقوبة ، لجأ إلى ما لا ضد له ; وهو الله ، أظهر العجز والانقطاع ، وفزع منه إليه فاستعاذ به منه . قال ابن عقيل : لا ينبغي أن يقول في دعائه : أعوذ بك منك ; إذ حاصله أعوذ بالله من الله ، وفيه نظر ; إذ هو ثابت في الخبر ( لا نحصي ثناء عليك ) أي : لا نطيقه ، ولا نبلغه ، ولا تنتهي غايته ; لقوله تعالى علم أن لن تحصوه [ المزمل : 20 ] أي : تطيقوه . ( أنت كما أثنيت على نفسك ) اعتراف بالعجز عن تفصيل الثناء ، ورد إلى المحيط علمه بكل شيء جملة وتفصيلا ، فكما أنه لا نهاية لسلطانه وعظمته ، لا نهاية لثناء عليه ; لأنه تابع للمثني عليه . روي هذا عن علي أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره : " اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك " رواه الخمسة ، ورواته ثقات قال في الشرح : ويقول في قنوت الوتر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ; وهو معنى ما نقله أبو الحارث : يدعو بما شاء ، واقتصر جماعة على دعاء : ( اللهم اهدني ) وظاهره أنه يستحب ، وإن لم يتعين ، واختاره أحمد ، ونقل المروذي يستحب بالسورتين ، وأنه لا توقيت على النبي صلى الله عليه وسلم نص عليه ، قال ابن تميم : من أوله ووسطه وآخره ، وفي " التبصرة " : وعلى آله ، وقوله تعالى وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا [ الإسراء : 111 ] الآية . قال في " الفروع " : فيتوجه قولها قبيل الأذان ، وفي " نهاية أبي المعالي " : يكره [ ص: 12 ] فرع : المنفرد يفرد الضمير ، ويجهر به ، نص عليه : وعند الشيخ تقي الدين يجمعه ; لأنه يدعو لنفسه وللمؤمنين . ويؤمن مأموم على الأصح إن سمع ، وعنه : أنه يقنت معه ، ويجهر به ، وعنه : يتابعه في الثناء ، ويؤمن على الدعاء ، وعنه : يخير ، وإن لم يسمع دعاء ، نص عليه ، وذكر أبو الحسين رواية فيمن صلى خلف من يقنت في الفجر أنه يسكت ، ولا يتابعه .

التالي السابق


الخدمات العلمية