صفحة جزء
فصل في قصر الصلاة ومن سافر سفرا مباحا . يبلغ ستة عشر فرسخا فله قصر الرباعية خاصة إلى ركعتين ، إذا فارق بيوت قريته أو خيام قومه ، وهو أفضل من الإتمام ، وإن أتم جاز .


فصل

في قصر الصلاة

أجمعوا على قصرها بشرطه ، وسنده قوله تعالى وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم [ النساء : 101 ] علق القصر بالخوف ; لأن الآية نزلت على غالب أسفاره عليه السلام ، وأكثرها لم يخل من عدو .

وذكر الشيخ تقي الدين أن القصر قسمان : مطلق ; وهو ما اجتمع فيه قصر الأفعال ، والعذر ، كصلاة الخوف حيث كان مسافرا ، فإنه يرتكب فيها ما لا يجوز في صلاة الأمن ، والآية وردت على هذا .

ومقيد ; وهو ما اجتمع فيه قصر العدد فقط كالمسافر ، أو قصر العمل فقط كالخائف ; وهو حسن ، لكن يرد عليه قول يعلى لعمر بن الخطاب : ما لنا نقصر وقد أمنا ؛ فقال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : صدقة تصدق الله بها عليكم [ ص: 106 ] فاقبلوا صدقته رواه مسلم فظاهر ما فهمناه تقييد قصر العدد بالخوف ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أقرهما على ذلك ، وقيل : قوله ( إن خفتم ) كلام مبتدأ معناه : وإن خفتم .

وقال ابن عمر : صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فكان لا يزيد في السفر على ركعتين ، وأبو بكر ، وعمر ، وعثمان كذلك متفق عليه . ( ومن سافر سفرا مباحا ) ذكره أكثر الأصحاب ، وحكاه ابن هبيرة اتفاقا ; لأنه عليه السلام كان يترخص في العود من السفر ; وهو مباح ، وكالغزو ، وفي " الوجيز " سفرا جائزا ; وهو أعم ، والمراد من ابتدأ سفرا مباحا ، وصرح به في " الفروع " ، والأصح : أو هو أكثر قصده ، وعنه : لا يترخص في سفر النزهة والتفرج ، اختاره أبو المعالي ; لأنه إنما شرع إعانة على تحصيل المصلحة ، ولا مصلحة في هذا ، وظاهر كلام ابن حامد اختصاصه بسفر الطاعة ، وقال في " المبهج " : إذا سافر لتجارة مكاثرا في الدنيا فهو سفر معصية ، والأول أولى ; وهو شامل إذا غربت المرأة ومعها محرم فله الترخص ، وكذا الزاني ، وقاطع الطريق ، وفيهما وجه ، ودل على جوازه في سفر واجب من باب التنبيه ، ولا قصر في سفر المعصية ، وأباح في " التلخيص " تناول الميتة للضرورة ، ولو عصى في سفره المباح لم يمنع الترخص ، كارتكابها في الحضر لا يمنعه ، ومن نقل سفره المباح إلى معصية لم يترخص في الأصح لزوال سببه ، وإن نقل سفر المعصية إلى مباح ، وقد بقي مسافة قصر ، قصر في الأصح ، لأن وجود ما مضى من سفره كعدمه .

[ ص: 107 ] مسألة : إذا سافر لزيارة القبور والمشاهد ، فقال ابن عقيل وصاحب " التلخيص " : لا يباح له الترخص ; لقوله عليه السلام لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد متفق عليه ، وقال المؤلف : الصحيح جوازه ، والحديث محمول على نفي الفضيلة ، قال ابن المنجا : السفر المكروه كزيارة القبور والمشاهد ملحق بالسفر المحرم ، وفيه نظر ، واختلف كلام الحلواني هل السفر لزيارة النبي صلى الله عليه وسلم أو الوالدين واجب ، أو طاعة كزيارته عليه السلام لكن قال أبو محمد الجويني : يحرم الشد إلى غير المساجد الثلاثة ، نقله النووي ، وذكر الشيخ تقي الدين : يجب السفر المنذور إلى المشاهد . ( يبلغ ستة عشر فرسخا ) الفرسخ واحد الفراسخ ; وهو ثلاثة أميال هاشمية ، وبأميال بني أمية ميلان ونصف ، والميل اثنا عشر ألف قدم ، ستة آلاف ذراع ، والذراع أربعة وعشرون أصبعا معترضة معتدلة ، كل أصبع ست حبات شعير ، بطون بعضها إلى بعض ، عرض كل شعيرة ست شعرات برذون ، وذلك أربعة برد مسيرة يومين قاصدين ، نص عليه ; وهو قول عمر ، وابن عباس لما روى الدارقطني عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يا أهل مكة لا تقصروا في أقل من أربعة برد من مكة إلى عسفان ضعفه أحمد ويحيى ، مع أن أحمد احتج به مع تضعيفه ، وظاهر كلامهم : أن هذا تقريب ، وقال أبو المعالي : تحديد ، والبر والبحر سواء ، فلو قطعه في زمن يسير في البحر قصر ، كما لو قطعها في البر في أقل من يومين ، وذكر صاحب المسالك أن من دمشق إلى القطيفة أربعة وعشرين ميلا ، ومن دمشق إلى الكسوة اثني عشر ميلا ، وعن ابن عباس ، وابن عمر : يقصر في يوم ، وقاله الأوزاعي ، وروى أبو داود أن دحية أفطر في ثلاثة أميال ، وأفطر معه أناس كثيرون ، وقيل : تقصر في طويل [ ص: 108 ] السفر وقصيره ، والأول أولى ، لأنه مسافة تجمع مشقة السفر من الحل والعقد ، فجاز القصر فيه كغيره ، قال المؤلف : والحجة مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن الإجماع انعقد على خلافه .

( فله قصر الرباعية خاصة إلى ركعتين ) ولا قصر في المغرب والفجر إجماعا ، حكاه ابن المنذر ; لأن الفجر لو قصرت صارت ركعة ، ولا نظير لذلك في الفرائض ، والمغرب وتر النهار ، فلو قصر منها ركعة لم يبق وترا ، وركعتان كان إجحافا بها ، وإسقاطا لأكثرها ، ولا نظير لها في الفرض ( إذا فارق بيوت قريته أو خيام قومه ) لأن الله تعالى جوز القصر لمن ضرب في الأرض ، وقبل مفارقة ما ذكر لا يكون ضاربا ولا مسافرا ، ولأن ذلك أحد طرفي السفر ، أشبه حالة الانتهاء ، ولأنه عليه السلام كان يقصر إذا ارتحل ، فعلى هذا يقصر إذا فارق بيوت قريته العامرة ، بشرط أن لا يرجع ، أو لا ينوي الرجوع قريبا ، فإن فعل لم يترخص حتى يرجع ويفارقه ، ولو لم ينو الرجوع ، لكن بدا له لحاجة ، لم يترخص بعد نية عوده حتى يفارقه ثانيا ، وقيل : والخراب ، كما لو وليه عامر ، وقال أبو المعالي : أو جعل مزارع ، وبساتين يسكنه أهله ، ولو في فصل النزهة ، وقيل : يقصر بمفارقة سور بلده ، وظاهره : ولو اتصل به بلد ، واعتبر أبو المعالي انفصاله ولو بذراع ، ويعتبر في ساكن القصور والبساتين مفارقة ما نسبوا إليه عرفا ( وهو أفضل من الإتمام ) نص عليه ; لأنه عليه السلام داوم عليه ، ولم ينقل عنه الإتمام ، وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده ، وروى أحمد عن ابن عمر مرفوعا إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته وفيه أن الإتمام أفضل ; لأنه أكثر عملا وعددا ; وهو الأصل ، أشبه غسل الرجلين ( وإن أتم جاز ) في المشهور للآية ، ولحديث [ ص: 109 ] يعلى ، قالت عائشة : أتم النبي - صلى الله عليه وسلم - وقصر قاله الشافعي ، ورواه الدارقطني ، وصححه ، وبين سلمان أن القصر رخصة بمحضر اثني عشر صحابيا ، رواه البيهقي بإسناد حسن ، ولما أتمت عائشة قال لها النبي صلى الله عليه وسلم : أحسنت . رواه أبو داود الطيالسي ، والدارقطني ، وقال : إسناد حسن ، وقيل : يجب القصر ; وهو قول جماعة ، وعنه : الوقف ، وقال مرة : لا يعجبني الإتمام ، وكرهه الشيخ تقي الدين ، قال في " الفروع " : وهو أظهر .

مسائل : الأولى : يعتبر تحقيق المسافة ، فلو شك في قدر السفر لم يقصر ، وإن بان بعده ، كما لو صلى شاكا في دخول الوقت ، وقال ابن أبي موسى ، وابن عقيل : متى بلغ المسافة قصر ، وعنه : إن بلغ عشرين فرسخا .

الثانية : أنه لا بد أن يقصد جهة معينة ، فلو سافر ولم يقصدها لم يقصر ، وأنه لا بد من الجزم ببلوغ المسافة ، فلو علم صاحبه في بلد بعيد ، ونوى إن وجده قبله لم يقصر ، وقيل : إن بلغ مسافة قصر قصر ، وكذا سائح وتائه .

الثالثة : إذا سافر ليترخص ، فقد ذكروا لو سافر ليفطر حرم ، وقيل : يكره ، ومثله من لا خف في رجله فلبسه لغرض المسح خاصة لا يستحب له ، كما لا يستحب له إنشاء السفر لغرض الترخص ، ويأتي من سافر يقصد حل يمينه .

الرابعة : يقصر ، ويترخص مسافر مكرها ، كأسير على الأصح ، كامرأة وعبد تبعا لزوج وسيد في نيته وسفره ، وفيهما وجه : لا قصر ، وقال أبو المعالي : والجيش مع الأمير ، والجندي مع أميره إن كان رزقهم في مال أنفسهم ، ففي أيهما يعتبر نيته ؛ فيه وجهان ، وإلا فكالأجير والعبد لشريكين ترجح نية إقامة أحدهما ، والأسير إذا صار ببلدهم ، فإنه يتم في المنصوص تبعا لإقامتهم كسفرهم .

[ ص: 110 ] الخامسة : يوتر ، ويركع سنة الفجر في السفر ، ويخير في غيرهما ، وعن الشيخ تقي الدين : يسن ترك غيرهما ، وأطلق أبو المعالي التخيير في النوافل والسنن ، ونقل ابن هاني : يتطوع أفضل ، وجزم به في " الفصول " ، و " المستوعب " ، واختاره الشيخ تقي الدين في غير الرواتب ، ونقله بعضهم إجماعا .

التالي السابق


الخدمات العلمية