صفحة جزء
[ ص: 136 ] فصل : وإذا اشتد الخوف صلوا رجالا وركبانا إلى القبلة وغيرها ، ويومئون إيماء على قدر الطاقة . فإن أمكنهم افتتاح الصلاة إلى القبلة ، فهل يلزمهم ذلك ؛ على روايتين ، ومن هرب من عدو هربا مباحا أو من سيل أو سبع ونحوه ، فله أن يصلي كذلك . وهل لطالب العدو الخائف فواته الصلاة كذلك ؛ على روايتين ، ومن أمن في الصلاة أتم صلاة آمن ، ومن ابتدأها آمنا فخاف ، أتم صلاة خائف ، ومن صلى صلاة الخوف لسواد ظنه عدوا ، فبان أنه ليس بعدو ، أو بينه وبينه ما يمنعه فعليه الإعادة .


فصل

( وإذا اشتد الخوف ) المراد به حال المسايفة ; وهو أن يتواصل الطعن والكر والفر ، ولم يمكن تفريق القوم ، ولا صلاتهم على ما سبق ( صلوا ) أي : يلزمهم فعل الصلاة ( رجالا وركبانا إلى القبلة وغيرها ) لقوله تعالى فإن خفتم فرجالا أو ركبانا [ البقرة : 239 ] قال ابن عمر : فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم ، وركبانا مستقبلي القبلة ، وغير مستقبليها . متفق عليه . زاد البخاري قال نافع : لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ورواه ابن ماجه مرفوعا ، ولأنه عليه السلام صلى بأصحابه في غير شدة الخوف ، وأمرهم بالمشي إلى وجاه العدو ، وهم في الصلاة ، ثم يعودون لقضاء ما بقي من صلاتهم ; وهو مشي كثير ، وعمل طويل ، واستدبار القبلة ، فمع شدته أولى . ( ويومئون إيماء على قدر الطاقة ) لأنهم لو تمموا الركوع والسجود لكانوا هدفا لأسلحة الكفار ، معرضين لأنفسهم بالهلاك ، ويومئ بالسجود أخفض من الركوع ، ولا يجب أن يسجد على ظهر دابته ، وله الكر والفر ونحوه ; لأنه موضع ضرورة ، ولو كان مبطلا لجاز إخلاء الوقت عن الصلاة ، ولأنهم مكلفون تصح طهارتهم ، كالمريض ، بخلاف الصياح ، فإنه لا حاجة بهم إليه ، ولا يزول الخوف إلا بانهزام الكل ، وظاهره أن لهم فعل ذلك ، سواء وجد قبل الصلاة أو فيها ، وتنعقد الجماعة حينئذ ، نص عليه للنصوص ، فظاهره أنها تجب ، [ ص: 137 ] وهو ظاهر ما احتجوا به ، وقيل : لا يجب ، وعند ابن حامد ، والمؤلف : لا ينعقد ، وعلى الأول : يعفى عن تقدم الإمام ، كعمل كثير ، لكن يعتبر إمكان المتابعة ، وأن الصلاة لا تؤخر عن وقتها ; وهو قول أكثرهم ، وعنه : يجوز تأخيرها حال شدة الحرب والتحام القتال والمطاردة ، ذكرها ابن أبي موسى ، ولا يجب . وعنه : ما يدل على الرجوع عنها ، قال في " التلخيص " : وهو الصحيح ، وتأخيره عليه السلام يوم الخندق ، قال أبو سعيد : كان ذلك قبل نزول صلاة الخوف ، رواه أحمد ، والنسائي ، وأنه لا إعادة عليهم . ( فإن أمكنهم افتتاح الصلاة إلى القبلة ، فهل يلزمهم ذلك ؛ على روايتين ) " المذهب " ، وقدمه في " المحرر " ، و " الفروع " لا يلزمه كبقية أجزائها ، والثانية : بلى ; وهي ظاهر الخرقي ، وجزم بها في " الوجيز " كما لو أمكنهم ذلك في ركعة كاملة ، وظاهره : لا تجب مع العجز ، حكاه بعضهم رواية واحدة ، وفيه نظر ، فقد ذكر أبو بكر في " الشافي " ، وابن عقيل : أنه يجب مع القدرة ، ومع العجز روايتان . ( ومن هرب من عدو هربا مباحا ) كخوف قتل محرم أو أسر ( أو من سيل أو سبع ) وهو الحيوان المعروف - بضم الباء وسكونها - ، وقد يطلق على كل حيوان مفترس ( أو نحوه ) كنار ( فله أن يصلي كذلك ) أي : كما تقدم لوجود شرطه ، سواء خاف على نفسه أو ماله أو أهله أو ذبه عنه ، وعلى الأصح : أو عن غيره ، فإن أمكنه صلاة أمن كدخوله حصنا ، أو صعوده ربوة ، فله ذلك ; لأنه لا ضرورة لذلك ، وفي تأخير الصلاة لمحرم خوف فوت الحج [ ص: 138 ] خلاف . وظاهره أن العاصي بهربه له أن يصلي صلاة الخوف لأنها رخصة ، فلا تثبت بالمعصية كرخص السفر ( وهل لطالب العدو الخائف فواته الصلاة كذلك ؛ على روايتين ) إحداهما ، واختارها الأكثر : أن له ذلك ، روي عن شرحبيل بن حسنة ، وقاله الأوزاعي ; لقول عبد الله بن أنيس بعثني النبي صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي ، قال : اذهب فاقتله ، فرأيته وقد حضرته صلاة العصر ، فقلت : إني لأخاف أن يكون بيني وبينه ما يؤخر الصلاة ، فانطلقت وأنا أصلي أومئ إيماء نحوه رواه أبو داود ، وظاهر حاله أنه أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم أو كان قد علم جوازه ، فإنه لا يظن به أنه فعل ذلك مخطئا ، ولأن فوات الكفار ضرر عظيم ، فأبيحت صلاة الخوف عند فوته ، كالحالة الأخرى ، والثانية : لا يصلي إلا صلاة أمن ، صححها ابن عقيل ، وقاله أكثر العلماء ، لأنها مشروطة بالخوف ; وهو معدوم هنا ، وكذا التيمم له ، وقال ابن أبي موسى : إن خاف الطالب رجوع العدو صلى صلاة خائف ; وهو الذي في " الشرح " .

( ومن أمن في الصلاة أتم صلاة آمن ، وإن ابتدأها آمنا فخاف ، أتم صلاة خائف ) على حسب حاله ; لأنه يبني على صلاة صحيحة ، وكما لو صلى قائما ثم عجز ، أو عاجزا ثم قدر ، وظاهره أنه لو انتهى السيل أو الحريق إليه ; وهو يصلي أنه يصلي صلاة خائف ، وكذا من خاف كمينا أو مكيدة أو مكروها ، وإن لم يكن العدو بإزاء المسلمين ، ولا إعادة عليهم على الأشهر ( ومن صلى صلاة الخوف لسواد ظنه عدوا ، فبان أنه ليس بعدو ، أو بينه وبينه ما يمنعه ، فعليه الإعادة ) كذا ذكره الأكثر ; لأنه لم يوجد المبيح ، أشبه من ظن الطهارة ، ثم علم بحدثه .

[ ص: 139 ] وسواء استند ظنه إلى خبر ثقة أو غيره ، وقيل : لا إعادة ، وذكره ابن هبيرة رواية ، وكذا إن كان ، وثم مانع ، وقيل : إن خفي المانع ، وإلا أعاد ، فإن بان عدوا يقصد غيره لم يعد في الأصح ، لوجود سبب الخوف بوجود عدو يخاف هجمه ، كما لا يعيد من خاف عدوا في تخلفه عن رفقته فصلاها ، ثم بان أمن الطريق ، وقال في " التبصرة " : إن كان بينهم وبين العدو خندق أو سور ، فخافوا طمه أو هدمه إن اشتغلوا صلوا صلاة الخوف ، وقال القاضي : فإن علموا أن ذلك لا يتم إلا بعد الفراغ منها صلوا صلاة أمن ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية