صفحة جزء
الثامن : الردة عن الإسلام . ومن تيقن الطهارة ، وشك في الحدث ، أو تيقن الحدث وشك في الطهارة ، بنى على اليقين ، فإن تيقنهما ، وشك في السابق منهما ، نظر في حاله قبلهما ، فإن كان متطهرا ، فهو محدث ، إن كان محدثا فهو متطهر ، ومن أحدث حرم عليه الصلاة ، والطواف ، ومس المصحف .


( الثامن : الردة عن الإسلام ) هذا هو المجزوم به عند أكثر الأصحاب ، وهو أشهر الروايتين لقوله تعالى لئن أشركت ليحبطن عملك [ الزمر 65 ] ولقول ابن عباس : الحدث حدثان ، حدث اللسان ، وحدث الفرج ، وحدث اللسان أشد ، وفيهما الوضوء ، لكن في إسناده بقية بصيغة " عن " ، قال في " التحقيق " : لا يصح ، ورواه ابن شاهين مرفوعا ، فيدخل في عموم قوله عليه السلام : لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ متفق عليه . ولأنها [ ص: 171 ] طهارة عن حدث ، فأبطلتها الردة كالتيمم ، لكن الآية دالة على أن الردة تحبط العمل بمجردها ، والأشهر عن أصحابنا أنها لا تحبطه إلا بالموت لقوله تعالى ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم [ البقرة 217 ] وبنوا على ذلك صحة الحج في الإسلام الأول ، وقضاء ما فاته من صلاة ، وزكاة ، وصوم على المشهور ، ثم الإحباط إنما ينصرف إلى الثواب دون الفعل ، بدليل مصل خلفه ، وهو مسلم ، ولقائل أن يقول : هذا تمسك بدليل الخطاب ، والمنطوق مقدم عليه ، وعنه : لا نقض ، حكاها ابن الزاغوني ، ولم يذكرها القاضي وعامة أصحابه في النواقض ، لعدم فائدتها لوجوب الغسل عليه إذا عاد إلى الإسلام ، فيدخل فيه الوضوء ، وصرح به جماعة ، ورده الشيخ تقي الدين بأن فائدته تظهر إذا عاد إلى الإسلام ، فإنا نوجبهما عليه ، فإن نواهما بغسله أجزأه على المشهور ، ولو لم ينقض لم يجب إلا الغسل فقط ، ويمكن أن يكون مراد القاضي ما أوجب غسلا أوجب وضوءا فهو ملازم له ، وظاهره أنه لا نقض بغيرها من غيبة ، ونميمة ، وقهقهة ، ونقله الجماعة . نعم ، يستحب من الكلام المحرم ، وفي استحبابه من القهقهة وجهان .

( ومن تيقن الطهارة ) اليقين : ما أذعنت النفس للتصديق به ، وقطعت به ، وقطعت بأن قطعها صحيح ( وشك في الحدث ) الشك خلاف اليقين ( أو تيقن الحدث وشك في الطهارة بنى على اليقين ) لما روى عبد الله بن زيد قال : شكي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة ، فقال : لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا متفق عليه . ولمسلم معناه مرفوعا من حديث [ ص: 172 ] أبي هريرة ، ولم يذكر فيه ، وهو في الصلاة ، ولأنه إذا شك تعارض عنده الأمران ، فيجب سقوطهما ، كالبينتين إذا تعارضتا ، ويرجع إلى اليقين ، وسواء كان في الصلاة أو خارجها تساوى عنده الأمران ، أو غلب على ظنه أحدهما ، لأن غلبة الظن إذا لم يكن لها ضابط في الشرع لم يلتفت إليها ، كظن صدق أحد المتداعيين بخلاف القبلة والوقت ، هذا اصطلاح الفقهاء ، وعند الأصوليين إن تساوى الاحتمالان فهو شك ، والراجح ظن ، والمرجوح وهم ( فإن تيقنهما ) أي : تيقن الطهارة ، والحدث في وقت الظهر مثلا ( وشك في السابق منهما ) أي : لم يعلم الآخر منهما ( نظر في حاله قبلهما ) أي : قبل الطهارة والحدث ، وهو ما قبل الزوال ( فإن كان محدثا فهو ) الآن ( متطهر ) لأنه تيقن زوال ذلك الحدث بطهارة ، ولم يتيقن زوال تلك الطهارة بحدث آخر ، لاحتمال أن يكون الحدث الذي تيقنه بعد الزوال هو الذي كان قبله ، فلم يزل يقين الطهارة بالشك ( وإن كان متطهرا فهو محدث ) لما ذكرنا . هذا في تيقن الحالين ، وأما تيقن الفعلين ، فإذا تيقن أنه في وقت الظهر مثلا تطهر عن حدث ، وأحدث عن طهر ، ولا يعلم أسبقهما فإنه يكون على مثل حاله قبلهما جزما ، فإن كان متطهرا فهو الآن متطهر ، لأن الطهارة التي قبل الزوال قد تيقن زوالها بالحدث ، وتيقن زوال الحدث بالطهارة التي في وقت الظهر ، والأصل بقاؤها ، وإن كان محدثا فهو الآن محدث ، وكذا لو عين وقتا لا يسعهما ، فإن جهل حالهما ، وأسبقهما ، أو تيقن حدثا ، وفعل طهارة فقط ، فبضد حاله قبلهما ، وإن تيقن أن الطهارة عن حدث ، ولا يدري الحدث عن طهارة ، فمتطهر مطلقا ، وعكس هذه بعكسها .

مسألة : إذا سمعا صوتا أو شما ريحا من أحدهما لا بعينه ، فلا وضوء عليهما [ ص: 173 ] على الأصح ، ولا يأتم أحدهما بصاحبه ، ولا يصاففه في الصلاة إن كانا وحدهما ، وإن كان أحدهما إماما أعادا صلاتهما ، نص عليه ، وقيل عنه : ينوي كل منهما الانفراد ، ويتم صلاته وحده .

( ومن أحدث حرم عليه الصلاة ) لما روى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يقبل الله صلاة بغير طهور رواه مسلم ، وهو يعم الفرض والنفل ، والسجود المجرد كسجدة التلاوة ، والقيام المجرد كصلاة الجنازة ، وسواء كان عالما أو جاهلا ، فلو صلى مع الحدث لم يكفر ، وحكى ابن حزم ، والنووي ، عن بعض العلماء جواز الصلاة على الجنازة بغير وضوء ولا تيمم ( والطواف ) لما روى الترمذي بإسناده ، عن عطاء بن السائب ، عن طاوس ، عن ابن عباس ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الطواف حول البيت مثل الصلاة ، إلا أنكم تتكلمون فيه ، فمن تكلم فلا يتكلم إلا بخير إسناده جيد إلى عطاء ، وهو مختلف فيه ، واختلط في آخر عمره ، قال أحمد : عطاء رجل صالح ، قال الترمذي : وقد روي عن طاوس ، عن ابن عباس موقوفا ، ولا نعرفه مرفوعا إلا من حديث عطاء بن السائب . ( ومس المصحف ) لقوله تعالى لا يمسه إلا المطهرون [ الواقعة ] أي : لا يمس القرآن ، وهو خبر بمعنى النهي ، وحرك بالضم لالتقاء الساكنين ، ورد بأنه اللوح المحفوظ ، والمطهرون الملائكة ، لأن المطهر من طهره غيره ، ولو أريد بنو آدم لقيل : المتطهرون ، وجوابه بأن المراد هم وبنو آدم قياسا عليهم ، بدليل ما روى عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، عن [ ص: 174 ] أبيه ، عن جده : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى أهل اليمن كتابا ، وكان فيه : لا يمس القرآن إلا طاهر رواه الأثرم ، والنسائي ، والدارقطني متصلا ، قال الأثرم : واحتج به أحمد ، ورواه مالك مرسلا ، ومقتضاه أنه لا يباح مسه بشيء من جسده حتى يتطهر ، ولو بتيمم ، قال المؤلف : إن احتاجه ، وهو شامل لما يسمى مصحفا من الكتابة ، والجلد ، والحواشي ، والورق الأبيض المتصل به ، بدليل البيع على المذهب ، وله حمله بعلاقته ، أو بحائل منفصل عنه ، لا يتبعه في البيع كغلافه ، أو بحائل تابع للحامل ، كحمله في كمه ، أو ثوبه ، أو تصفحه بعود ، ونحوه على المشهور ، جزم به أبو الخطاب ، والقاضي ، والمؤلف ، وعنه : المنع من حمله بعلاقته ، وتصفحه بكمه ، وخرجه القاضي منه إلى بقية الحوائل ، ولم يعول عليه في " المغني " ، وله الكتابة منه من غير مس ، جزم به كثير من الأصحاب ، وقيل : هو كالتقليب بالعود ، وقيل : يجوز للمحدث دون الجنب ، وهذا إذا لم يحمله على مقتضى ما هو في " التلخيص " وغيره .

وله مس تفسير على المذهب ، ومنسوخ تلاوته على الأصح ، والأحاديث المأثورة ، والتوراة ، والإنجيل ، لأنها ليست بقرآن ، وحكم البعض كالكل ، فلو كتب بعضه منفردا لم يجز مسه ، وإن لم يسم مصحفا ، نعم ، في مس الصبيان ألواحهم ، وفي رواية ذكرها القاضي ، ومس الدراهم المكتوب عليها القرآن ، وثوب طرز به ، روايتان ، أظهرهما : الجواز لمسيس الحاجة إليه ، وعلم منه أن طهارة الخبث لا يشترط انتفاؤها ، نعم ، يمنع من مسه بعضو نجس لا بغيره على المذهب ، والذي لا يمسه ، لكن له نسخه دون حمل ومس ، وعنه : المنع ، وحمله القاضي على حمله حال كتابته ، ولا يجوز مسه بعضو طهره حتى يكملها .

[ ص: 175 ] مسائل :

الأولى : لا يكره تحليته بذهب ، أو فضة لتضييق النقدين ، وعنه : لا كالضبة ، وكتطييبه ، نص عليه ، وكيسه الحرير ، نقله الجماعة ، لأن ذلك قدر يسير ، وقيل : يكره للرجال لا للنساء ، وقيل : يحرم ، جزم به جماعة ، ككتب العلم في الأصح . قال ابن الزاغوني : كتبه بذهب حرام ، لأنه زخرفة ، ويؤمر بحكه ، فإن اجتمع منه ما يتمول زكاه . قال أبو الخطاب : إذا بلغ نصابا . وكره أحمد توسده ، وفي تحريمه وجهان ، وكذا كتب العلم التي فيها قرآن ، وفي معناه التخطي ، ورميه بالأرض ، بلا وضع ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك ، ويحرم كتبه بحيث يهان ، كبول حيوان ، ونحوه ، وتجب إزالته ، ويحرم دوسه ، والمراد غير المسجد ، قال في " الفصول " ، وغيره : يكره أن يكتب على حيطان المسجد ذكرا ، وغيره ، لأن ذلك يشغل المصلي ، ويلهيه ، ويدفن إذا بلي لتعظيمه وصيانته ، وله نقطه ، وشكله ، وكتابة الأعشار ، والسور ، وعدد الآيات في رواية ، وعنه : يستحب نقطه ، وعلله أحمد بأن فيه منفعة الناس ، واختاره أبو الحسين بن المنادي .

الثانية : يجوز تقبيله ، وعنه : يستحب ، ونقل جماعة الوقف ، ولا يجعله على عينيه لعدم النقل ، وظاهره أنه لا يقام له ، لكن يؤخذ من فعل أحمد الجواز .

الثالثة : له أخذ الفأل فيه ، فعله ابن بطة ، ولم يره غيره من الأصحاب ، ونقل ابن العربي أنه يحرم ، حكاه القرافي عن الطرطوشي المالكي ، وظاهر مذهب الشافعي الكراهة .

[ ص: 176 ] الرابعة : يحرم السفر به إلى دار الحرب ، وقيل : إلا مع غلبة السلامة ، وفي " المستوعب " يكره بدون غلبتها .

الخامسة : لا يجوز أن يملكه لكافر ، فلو ملكه بإرث ألزم على إزالة ملكه عنه ، لأنه يتدين بانتهاكه ، وإزالة حرمته .

التالي السابق


الخدمات العلمية