صفحة جزء
[ ص: 22 ] باب ما يفسد الصوم ويوجب الكفارة ومن أكل أو شرب أو استعط أو احتقن ، أو داوى الجائفة بما يصل إلى جوفه أو اكتحل بما يصل إلى حلقه أو داوى المأمومة ، أو قطر في أذنه ما يصل إلى دماغه ، أو أدخل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان ، أو استقاء أو استمنى ، أو قبل أو لمس فأمنى ، أو مذى ، أو كرر النظر فأنزل أو حجم أو احتجم عامدا ذاكرا لصومه ، فسد صومه ، وإن كان مكرها أو ناسيا ، لم يفسد


وشرطه أن لا يكون فعل ما يفطره قبل النية ، فإن فعل فلا يجزئه الصوم بغير خلاف نعلمه ، قاله في " الشرح " وخالف فيه أبو زيد الشافعي ، ويحكم بالصوم الشرعي المثاب عليه من وقت النية في الأظهر ، وفي " المجرد " و " الهداية " من أول النهار ، وقاله حماد ، وإسحاق إن نواه قبل الزوال فعلى الأول تطوع حائض طهرت ، وكافر أسلم في يوم ، ولم يأكلا يصوما بقية اليوم ، وعلى الثاني : لا ، لامتناع تبعيض صوم اليوم قال في " الفروع " : ويتوجه يحتمل أن لا يصح عليهما ; لأنه لا يصح منهما صوم .

باب ما يفسد الصوم . المفسد للصوم : كل ما ينافيه من أكل أو شرب ونحوهما ، ( ويوجب الكفارة ومن أكل أو شرب ) فقد أفطر لقوله - تعالى - : وكلوا واشربوا الآية ، فأباحهما إلى غاية ، وهي تبين الفجر ثم أمر بالإمساك عنهما إلى الليل ، لأن حكم ما بعد الغاية يخالف ما قبلها ، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - : كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به إنه ترك طعامه وشرابه من أجلي متفق عليه . وظاهره لا فرق بين مغذ وغيره ، ولا بين القليل والكثير ( أو استعط ) في أنفه بدهن أو غيره فوصل إلى حلقه أو دماغه قال في " الكافي " : أو خياشيمه لنهيه - عليه السلام - الصائم عن المبالغة في الاستنشاق ( أو احتقن ) في دبره ; لأنه يصل إلى الجوف ، ولأن غير المعتاد كالمعتاد في الواصل ، ولأنه أبلغ وأولى من الاستعاط ( أو داوى الجائفة بما يصل إلى جوفه ) ; لأنه أوصل إلى جوفه شيئا باختياره ، أشبه ما لو أكل [ ص: 23 ] ( أو اكتحل ) بكحل أو صبر أو ذرور أو إثمد مطيب ( بما يصل إلى حلقه ) نص عليه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بالإثمد المروح عند النوم ، وقال : ليتقه الصائم رواه أبو داود ، والبخاري في " تاريخه " من حديث عبد الرحمن بن النعمان بن سعيد بن هوذة عن أبيه عن جده قال ابن معين : حديث منكر ، وعبد الرحمن ضعيف ، وقال أبو حاتم : صدوق ، ووثقه ابن حبان ، واختار الشيخ تقي الدين لا يفطر ; لأنها ليست منفذا فلم يفطر به كما لو دهن رأسه ، وأجيب بأن العين منفذ لكنه ليس بمعتاد . وكالواصل من الأنف ( أو داوى المأمومة ، أو قطر في أذنه ما يصل إلى دماغه ) لأن الدماغ أحد الجوفين فالواصل إليه يغذيه فأفسد الصوم كالآخر ( أو أدخل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان ) وهو من عطف العام على الخاص ، وهو شامل إذا طعن نفسه أو طعنه غيره بإذنه بشيء في جوفه ، فغاب هو أو بعضه فيه ، أو ابتلع خيطا ويعتبر العلم بالواصل ، وجزم في " منتهى الغاية " بأنه يكفي الظن ، واختار الشيخ تقي الدين : لا يفطر بمداواة جائفة ومأمومة ، ولا بحقنه ( أو استقاء ) أي : استدعى القيء فقاء ، لخبر أبي هريرة المرفوع من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ، ومن استقاء عمدا فليقض رواه الخمسة ، وقال الترمذي : حسن غريب ، ورواه الدارقطني ، وقال : إسناده كلهم ثقات . وظاهره لا فرق بين القليل والكثير . قال المؤلف : هو ظاهر المذهب ، وذكر المجد أنه أصح الروايات كسائر المفطرات . وعنه : يفطر بملء الفم ، اختاره ابن عقيل ، ويقدر بما لا يمكنه الكلام معه ، وعنه : أو نصفه كنقض الوضوء ، وعنه : إن فحش ، وقاله القاضي ، وذكر ابن هبيرة أنه الأشهر ، وبالغ ابن عقيل فقال : إذا قاء بنظره إلى ما يقيئه فإنه يفطر ، كالنظر والفكر ، وفيه احتمال : لا يفطر مطلقا ، وذكره البخاري عن أبي هريرة ، ويروى عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وخبر أبي هريرة السابق ضعفه أحمد ، والبخاري .

[ ص: 24 ] ( أو استمنى ) أي : استدعى خروج المني ; لأنه إذا فسد بالقبلة المقترنة بالإنزال فلأن يفسد به بطريق أولى ، لكن لو استمنى بيده ، ولم ينزل فقد أتى محرما ، ولا يفسد به ، فأما إن أنزل لغير شهوة فلا كالبول ( أو قبل أو لمس فأمنى ) لما روى أبو داود عن عمر أنه قال : هششت فقبلت وأنا صائم ، فقلت : يا رسول الله إني فعلت أمرا عظيما ، فقبلت وأنا صائم قال : أرأيت لو تمضمضت من إناء وأنت صائم ؛ قلت : لا بأس به قال : فمه فشبه القبلة بالمضمضة من حيث إنها من مقدمات الفطر فإن المضمضة إذا كان معها نزول أفطر ، وإلا فلا ذكره في " المغني " و " الشرح " وفيه نظر ، لأن غايته أنها قد تكون وسيلة وذريعة إلى الجماع ، وفيه احتمال لا يفطر ، وقاله داود وضعف الخبر السابق ، وقال : هو ريح .

( أو مذى ) نص عليه ; لأنه إنزال بمباشرة أشبه المني ، واختار الآجري ، وأبو محمد الجوزي ، والشيخ تقي الدين : لا يفطر . قال في " الفروع " وهو أظهر عملا بالأصل ، وقياسه على المني لا يصح ; لظهور الفرق ، وقيل : يبطل بالمباشرة دون الفرج فقط ، وإن استمنى فأمنى أو مذى فكذلك على الخلاف ، وقوله : فأمنى أو مذى ، راجع إلى الاستمناء ، وما بعده ، وعلم منه أنه لا فطر بدون الإنزال لقول عائشة : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل وهو صائم ، وكان أملككم لإربه رواه البخاري . روي بتحريك الراء وسكونها ، ومعناه : حاجة النفس ووطرها ، وقيل : بالتسكين العضو ، وبالتحريك الحاجة .

( أو كرر النظر فأنزل ) أي : منيا ; لأنه إنزال بفعل يلتذ به ، ويمكن التحرز منه أشبه الإنزال باللمس ، وقال الآجري : لا يفطر كالإنزال بالفكر فلو أنزل مذيا لم يفطر على المذهب ; لأنه لا نص فيه ، والقياس لا يصح ، وقيل : يفطر به قال في " الفروع " : وهو [ ص: 25 ] أقيس على المذهب كاللمس ، وكلام المؤلف يحتمله كالخرقي ; لأنه خارج بسبب الشهوة كالمني ، ولأن الضعيف إذا تكرر قوي ، كتكرار الضرب بصغير في القود لكن في " الكافي " : وسواء في هذا كله إنزال المني أو المذي إلا في تكرار النظر فلا يفطر إلا بإنزال المني . وظاهره لا فطر بعدم الإنزال بغير خلاف ، ولا إذا لم يكرر النظر لعدم إمكان التحرز منه ، وقيل : يفطر ، ونصأحمد : أنه يفطر بالمني لا المذي ، ويلحق به ما ذكره في " الإرشاد " احتمالا فيمن هاجت شهوته فأمنى أو مذى أنه يفطر .

فرع يفطر بالموت فيطعم من تركته في نذر وكفارة ، وبالردة لأن الصوم عبادة محضة ، فنافاها الكفر كالصلاة .

( أو حجم أو احتجم ) نص عليه ، وقاله الأصحاب ، لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أفطر الحاجم والمحجوم رواه أحمد والترمذي من حديث رافع بن خديج ، ورواه أحمد أيضا من حديث ثوبان ، وشداد بن أوس ، وعائشة ، وأسامة بن زيد ، وأبي هريرة ، ومعقل بن سنان ، وهو لأبي داود من حديث ثوبان ، ولابن ماجه من حديث شداد ، وأبي هريرة ، وهذا يزيد على رتبة المستفيض ، قال ابن خزيمة : ثبتت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك ، وقال أحمد : فيه غير حديث ثابت ، وأصحها حديث رافع ، وقال ابن المديني : أصح شيء في هذا الباب حديث ثوبان ، وشداد ، وصححهما أحمد ، والبخاري ، وعنه : إن علما النهي ، وقد كان جماعة من الصحابة يحتجمون ليلا ، ورخص فيها أبو سعيد الخدري ، وابن مسعود ، وقاله أكثر العلماء لما روى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو صائم . رواه البخاري ، ولأنه دم خارج من البدن أشبه الفصد وجوابه أن أحمد ضعف رواية ابن عباس [ ص: 26 ] من رواية الأثرم ;لأن الأنصاري ذهبت كتبه في فتنة فكان يحدث من كتب غلامه أبي حكيم ، ثم لو صح فيجوز أن يكون صومه تطوعا ، ويحتمل أن يكون لعذر ، ويعضده ما روى أبو بكر بإسناده عن ابن عباس قال : احتجم النبي - صلى الله عليه وسلم - من شيء كان وجده . فهذه تسقط الاستدلال ، ولو سلم التساوي ، فأحاديثنا أكثر ، واعتضدت بعمل الصحابة ، ولو سلم فحديثهم فعل ، وتلك قول ، وهو مقدم لعدم عموم الفعل ، واحتمال أنه خاص به ، ونسخ حديثهم أولى ; لأنه موافق لحكم الأصل فنسخه يلزم منه مخالفة الأصل مرة واحدة بخلاف نسخ حديثنا ; لأنه يلزم مخالفة الأصل مرتين ، وذكر الخرقي : احتجم ، ولم يذكر حجم ، والمذهب التسوية للخبر ، ولعل مراده أنه يفطر الحاجم إن مص القارورة ، والحجم في الساق كالحجم في القفا نص عليه . وظاهر كلام أحمد ومعظم الأصحاب : لا فطر إن لم يظهر دم ، واختار ابن عقيل وجمع أنه يفطر . ولو جرح نفسه لا للتداوي بدل الحجامة لم يفطر . وظاهره لا يفطر بالفصد لأن القياس لا يقتضيه ، والثاني بلى ، وصححه الشيخ تقي الدين فعلى هذا في الشرط احتمالان ، ولا فطر بغير ذلك ، واختار الشيخ تقي الدين أنه يفطر إذا أخرج دمه برعاف وغيره ، وقاله الأوزاعي في الرعاف .

( عامدا ) أي : قاصدا للفعل لأن من لم يقصد فهو مكلف ، وإلا يلزم تكليف ما لا يطاق .

( ذاكرا ) أي : غير ناس ( لصومه فسد صومه ) في الصور السابقة كلها ، ويجب القضاء إن كان واجبا ( وإن كان مكرها أو ناسيا ، لم يفسد ) صومه ، وأجزأه لقوله - عليه السلام - : عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ولحديث أبي هريرة مرفوعا من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه ، فإنما أطعمه الله ، وسقاه متفق عليه ، وللدارقطني معناه . وزاد ، ولا قضاء [ ص: 27 ] وللحاكم ، وقال : على شرط مسلم من أكل في رمضان ناسيا ، فلا قضاء عليه ولا كفارة وظاهره أنه لا فرق بين الوعيد ، والإلجاء نص عليه ، كالناسي بل أولى بدليل الإتلاف ، ويدخل فيه النائم إذا فعل به شيء ، بل هو كالناسي لعدم قصده ، وقال ابن عقيل : يحتمل عندي أنه يفطر بالوعيد ; لأنه فعل دفعا للضرر عن نفسه فيه كالمريض . ولو أوجر المغمى عليه معالجة لم يفطر ، وقيل : بلى لرضاه ظاهرا فكأنه قصده ، وكالجاهل بالتحريم نص عليه في الحجامة ، وكالجهل بالوقت والنسيان يكثر وفي " الهداية " و " التبصرة " لا فطر لعدم تعمده المفسد كالناسي ، وجمع بينهما في " الكافي " بعدم التأثيم .

فرع : من أراد الفطر فيه بأكل أو شرب ، وهو ناس أو جاهل ، فهل يجب إعلامه ؛ فيه وجهان : قال في " الفروع " : ويتوجه ثالث : إعلام جاهل لا ناس ، وفيه شيء .

التالي السابق


الخدمات العلمية