صفحة جزء
[ ص: 107 ] باب المواقيت وميقات أهل المدينة من ذي الحليفة ، وأهل الشام ومصر والغرب من الجحفة ، وأهل اليمن يلملم ، وأهل نجد قرن ، وأهل المشرق ذات عرق وهذه المواقيت لأهلها ، ولمن مر عليها من غيرهم ومن منزله دون الميقات ، فميقاته من موضعه ، وأهل مكة إذا أرادوا العمرة ، فمن الحل ولو أرادوا الحج ، فمن مكة ومن لم يكن طريقه على ميقات ، فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه ، أحرم . ولا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوز الميقات بغير إحرام إلا لقتال مباح ، أو حاجة مكررة كالحطاب ونحوه . ثم إن بدا له النسك ، أحرم من موضعه ومن جاوزه مريدا للنسك ، رجع ، فأحرم منه ، فإن أحرم من موضعه فعليه دم ، وإن رجع إلى الميقات . والاختيار ألا يحرم قبل ميقاته ولا يحرم بالحج قبل أشهره ، فإن فعل فهو محرم وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة .


باب المواقيت هي جمع ميقات ، ومعناه لغة : الحد ، والمراد به هاهنا : زمن العبادة ، ومكانها .

( وميقات أهل المدينة : من ذي الحليفة ) بضم الحاء ، وفتح اللام بينها ، وبين المدينة ستة أميال أو سبعة ، [ وبينها وبين مكة ] مسيرة عشرة أيام ، ( وأهل الشام ومصر والغرب من الجحفة ) بضم الجيم ، وسكون الحاء المهملة ، وهي قرية جامعة على طريق المدينة ، وكان اسمها " مهيعة " فجحف السيل بأهلها ، وهي على ستة أميال من البحر ، وثمان مراحل من المدينة ، وثلاث من مكة ، ( وأهل اليمن يلملم ) وهو جبل من جبال تهامة على ليلتين من مكة ، والياء بدل من الهمزة ; لأن أصله " ألملم " وليست بمزيدة ، ( وأهل نجد ) هو بفتح النون ، وسكون الجيم قال صاحب " المطالع " : هو ما بين جرش إلى سواد الكوفة ، وكلها من عمل اليمامة ، وقال الجوهري هو خلاف الغور ، والغور : هو تهامة كلها ، وكل ما ارتفع من أرض العراق فنجد انتهى . فنجد اليمن ونجد الحجاز والطائف ( قرن ) بسكون الراء فقط ، ويقال له قرن المنازل ، وقرن الثعالب ، وهو تلقاء مكة على يوم ، وليلة منها ، ( وأهل المشرق ذات عرق ) معروف سمي به ; لأن فيه عرقا ، وهو الجبل الصغير ، وقيل : العرق الأرض السبخة تنبت الطرفاء ، وأصله ما روى ابن عباس قال : وقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشام الجحفة ، ولأهل نجد قرنا ، ولأهل اليمن يلملم ، هن لهن ، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن يريد الحج ، والعمرة ، ومن كان دونهن فمهله من أهله ، وكذلك أهل مكة يهلون منها ، وعن ابن عمر نحوه .

[ ص: 108 ] وعن عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل العراق ذات عرق . رواه أبو داود ، والنسائي ، وعن جابر مرفوعا نحوه . رواه مسلم .

فدل أن هذه المواقيت ثبتت بالنص ، وقال بعض العلماء منهم الشافعي في " الأم " : أن ذات عرق باجتهاد عمر ففي البخاري عن ابن عمر قال : لما فتح هذان المصران أتوا عمر بن الخطاب فحد لهم ذات عرق ، والظاهر أنه خفي النص فوافقه برأيه فإنه موفق للصواب ، وليس الأفضل للعراقي أن يحرم من العقيق وهو واد وراء ذات عرق بمرحلة أو مرحلتين يلي الشرق .

وما رواه أحمد ، والترمذي ، وحسنه عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقت لأهل المشرق العقيق . تفرد به يزيد بن أبي زياد ، وهو شيعي مختلف فيه ، وقال ابن معين ، وأبو زرعة لا يحتج به ، وقال ابن عبد البر : ذات عرق ميقاتهم بإجماع ، ( وهذه المواقيت لأهلها ) كما سلف ( ولمن مر عليها من غيرهم ) كالشامي بذي الحليفة فإنه يحرم منها ، نص عليه ، قيل له : يهل من ميقاته من الجحفة ؛ قال : سبحان الله . واحتج بالخبر ، وحكاه النووي إجماعا ، وفيه نظر ، فإن المالكية وعطاء ، وأبا ثور قالوا : يحرم من الجحفة ، ويتوجه إلى مثله . قاله في " الفروع " ( ومن منزله دون الميقات فميقاته من موضعه ) للخبر السابق ، ولو كان في قرية يسكنها جاز له الإحرام من أي : جوانبها شاء ، والأولى الأبعد ، ( وأهل مكة إذا أرادوا العمرة فمن الحل ) ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يعمر عائشة من التنعيم . متفق عليه . ولأن أفعال العمرة كلها في الحرم فلم يكن بد من الحل ليجتمع في إحرامه بين الحل والحرم بخلاف [ ص: 109 ] الحج فإنه يخرج إلى عرفة فيحصل الجمع . وظاهره من أي الحل أحرم ، جاز ، لكن قال أحمد : كلما تباعد فهو أعظم للأجر قيل : التنعيم أفضل ; لأنه أقرب الحل إلى مكة ، وفي " التلخيص " و " المستوعب " الجعرانة لاعتماره - عليه السلام - منها ، ثم منه ، ثم من الحديبية .

وذكر ابن أبي موسى أن من بمكة من غير أهلها إذا أراد عمرة واجبة فمن الميقات ، وإلا لزمه دم لمن جاوز الميقات ، وأحرم دونه ، وإن أراد نفلا ، فمن أدنى الحل ، فلو خالف فأحرم بها من مكة ، صح ، ولزمه دم لمخالفة الميقات ، ويجزئه إن خرج إلى الحل قبل طوافها ، وكذا بعده ، كإحرامه دون ميقات الحج ، وقيل : لا ; لأنه نسك فاعتبر فيه الجمع بينها كالحج فعليه لا يعتد بأفعاله ، وهو باق على إحرامه حتى يخرج إلى الحل ، ثم يأتي بها ، وإن أتى محظورا فدى ، وبالوطء يلزمه المضي في فاسده وقضاها بعمرة من الحل ، ويجزئه عنها ، ولا يسقط دم المجاوزة .

فرع : حكم من كان بالحرم حكم من بمكة فيما ذكرنا .

( ولو أرادوا الحج فمن مكة ) لقول جابر أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حللنا أن نحرم من الأبطح . رواه مسلم . وظاهره لا ترجيح لموضع على آخر ، ونقل حرب عنه : في المسجد ، ولم أجد عنه خلافه ، ولم يذكره الأصحاب إلا في " الإيضاح " قال : يحرم به من الميزاب ، وعنه : فيمن اعتمر في أشهر الحج زاد غير واحد من أهل مكة : يهل بالحج من الميقات فإن لم يفعل فعليه دم وهي عند الأصحاب ، وأولها بعضهم بسقوط دم المتعة عن الآفاقي بخروجه [ ص: 110 ] إلى الميقات ، وعنه : إذا أحرم من الميقات عن غيره ، ودخل مكة فقضى نسكه ، ثم أراد أن يحرم عن نفسه واجبا أو نفلا أو أحرم عن نفسه ، ثم أراد عن غيره أو عن إنسان ، ثم عن آخر ، يخرج يحرم من الميقات ، وإلا لزمه دم ، اختاره جماعة .

وفي " الترغيب " : لا خلاف فيه ، وفيه نظر ، والأشهر أنه لا يلزمه الخروج إليه كما ذكره المؤلف ، وهو ظاهرالخرقي عملا بإطلاق الحديث .

والمذهب أنه يجوز من الحل والحرم ونصره القاضي وأصحابه ، كما لو خرج إلى الميقات الشرعي ، وكالعمرة ومنعوا وجوب إحرامه من الحرم ومكة .

( ومن لم يكن طريقه على ميقات ) كعنداب فإنها في طرف المغرب ( فإذا حاذى أقرب المواقيت إليه أحرم ) لقول عمر : انظروا حذوها من قديد . رواه البخاري ، ولأنه يعرف بالاجتهاد ، والتقدير فإذا اشتبه دخله الاجتهاد كالقبلة ، وهذا فيمن علم ، فإن لم يعلم حذو الميقات ، أحرم من بعد ; إذ الإحرام قبله جائز ، وتأخيره عنه حرام فإن تساوى ميقاتان في القرب إليه ، أحرم من أبعدهما عن مكة ، فإن لم يحاذ ميقاتا ، ففي " الرعاية " أحرم بقدر مرحلتين ، وهو متجه إن تعذر معرفة المحاذاة .

( ولا يجوز لمن أراد دخول مكة تجاوز الميقات بغير إحرام ) نص عليه ; لأنه - عليه السلام - وقت المواقيت ، ولم ينقل عنه ، ولا عن أحد من أصحابه أنهم تجاوزوه بغير إحرام إلا فيما نذكره ، وعن ابن عباس مرفوعا لا يدخل أحد مكة إلا بإحرام فيه ضعف ، وعنه : لا يلزمه إلا أن يريد نسكا ذكرها جماعة ، وصححها ابن عقيل قال في " الفروع " : وهي ظاهرة ، وينبني على [ ص: 111 ] عموم المفهوم ، والأصل عدم الوجوب ، وحكم من أراد دخول الحرم كمكة ، فإن لم يرد دخوله ، لم يلزمه بغير خلاف ; لأنه - عليه السلام - وأصحابه أتوا بدرا مرتين ، وكانوا يسافرون للجهاد فيمرون بذي الحليفة بغير إحرام .

وظاهر كلامه أنه إذا أرادها لتجارة أو زيارة : أنه يلزمه ، نص عليه ، واختاره الأكثر ; لأنه من أهل فرض الحج ، ولعدم تكرر حاجته ، والثانية وهي ظاهر الخرقي : لا يلزمه ، وحكاه أحمد عن ابن عمر فعلى الأولى إذا دخل طاف وسعى وحلق ، نص عليه ، وليس المراد به كل داخل ، وإنما هو الحر المسلم المكلف ، فلو كان ممن لا تجب عليه كالعبد والصبي والكافر لم يلزمهم الإحرام منه .

فلو زال المانع بعد مجاوزته لميقاتهم فمن موضعهم ، ولا دم عليه .

وعنه : بلى لمن وجبت عليه ، وعنه : يلزم من أسلم ، نصره القاضي وأصحابه ; لأنه عاقل كالمسلم ، وهو متمكن من زوال المانع .

( إلا لقتال مباح ) لدخوله - عليه السلام - يوم فتح مكة ، وعلى رأسه المغفر ، ولم ينقل أنه هو ولا أحد من أصحابه أحرم ، وحكم الخوف كذلك .

( أو حاجة مكررة كالحطاب ونحوه ) كالحشاش لما روى حرب عن ابن عباس : لا يدخلن إنسان مكة إلا محرما إلا الحمالين ، والحطابين ، وأصحاب منافعها احتج به أحمد ، وحكم المكي إذا تردد إلى قريته بالحل كذلك إذ لو وجب لأدى إلى ضرر ومشقة ، وهو منفي شرعا .

قال ابن عقيل : وكتحية المسجد في حق قيمه للمشقة .

( ثم إن بدا له ) أي : من لا تلزمه ، أو لم يرد الحرم ( النسك أحرم من موضعه ) ; لأنه حصل دون الميقات على وجه مباح فكان له الإحرام منه كأهل ذلك [ ص: 112 ] المكان ، ولأن من منزله دون الميقات لو خرج إليه ثم عاد لم يلزمه . وعنه : يلزمه كمن جاوزه مريدا للنسك .

( ومن جاوزه مريدا للنسك رجع ) إلى الميقات ( فأحرم منه ) ; لأن الإحرام من الميقات واجب ، ومن قدر على الواجب لزمه فعله سواء تجاوزه عالما أو جاهلا علم تحريم ذلك أو جهله ، وشرط الرجوع ما لم يخف فوت الحج أو غيره ، وأطلق في " الرعاية " وجهين .

( فإن أحرم من موضعه ) صح إحرامه .

( وعليه دم ) لما روى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من ترك نسكا فعليه دم ، ولتركه الواجب .

( وإن رجع إلى الميقات ) بعد إحرامه ، لم يسقط الدم عنه ، نص عليه ; لأنه وجب لترك إحرامه من ميقاته فلم يسقط كما لو لم يرجع ، وعنه : يسقط لإتيانه بالواجب .

فرع : إذا أفسد نسكه هذا ، لم يسقط دم المجاوزة ، نص عليه . وعليه الأصحاب كدم محظور ، ولأنه الأصل ، ونقل منها تسقط ; لأن القضاء واجب .

( والاختيار ) أي : الأفضل ( أن لا يحرم قبل ميقاته ) المكاني لفعله - عليه السلام - ، ولا يعدل عن الأفضل ، والجواز حصل بقوله ، ونقل صالح : إن نوى على ذلك ، فلا بأس ، واحتج المجيز بما روت أم سلمة أنها سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : من أهل بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من [ ص: 113 ] ذنبه ، وما تأخر أو وجبت له الجنة شك عبد الله بن عبد الرحمن أيتهما قال " . رواه أبو داود قال بعضهم : وإسناده جيد .

وجوابه : بأنه يرويه ابن أبي فديك قال ابن سعد : ليس بحجة ، وفيه نظر فإنه ثقة محتج به في الكتب الستة ، وقوله في " الشرح " وفيه ابن إسحاق مردود .

وجوابه : بأن معنى أهل ، أي : قصد من المسجد الأقصى ، ويكون إحرامه من الميقات قاله القاضي ، وأجاب في " المغني " و " الشرح " بأنه يحتمل أن يكون خاصا ببيت المقدس ليجمع بين الوقوف من المسجدين في إحرام واحد ، بدليل أن ابن عمر أحرم منه ، ولم يكن يحرم في غيره إلا من الميقات .

( ولا يحرم بالحج قبل أشهره ) لقول ابن عباس : من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج . رواه البخاري ، ولأنه أحرم بالعبادة قبل وقتها فلم يكن مختارا لميقات المكان ( فإن فعل ) أي : أحرم قبل ميقات المكان ، والزمان ( فهو محرم ) حكى ابن المنذر الصحة في تقدمه على ميقات المكان إجماعا ; لأنه فعل جماعة من الصحابة والتابعين ، ولم يقل أحد قبل داود إنه لا يصح ، ولكنه مكروه ، وجزم به المعظم ; لأنه - عليه السلام - لم يحرم من دويرة أهله ، وكذا عامة أصحابه ، وأنكره عمر على عمران بن حصين حين أحرم من مصر ، وعثمان على عبد الله بن عامر حين أحرم من خراسان رواهما سعيد .

[ ص: 114 ] قال البخاري : كره عثمان أن يحرم من خراسان أو كرمان ، ولأنه أحرم قبل الميقات ، فكره كالإحرام بالحج قبل أشهره ، ولعدم أمنه من محظور ، وفيه مشقة عظيمة ، والوصال ، وكيف يتصور الأمن مع احتمال ما لا يمكن دفعه ، والمذهب المنصور صحة الحج قبل أشهره كما ذكره المؤلف كالأول نقل طالب وسندي : يلزمه الحج إلا أن يريد فسخه بعمرة ، فله ذلك بناء على أصله ، وعنه : ينعقد عمرة ، اختاره الآجري ، وابن حامد ، ونقل ابن منصور يكره ، وذكر ابن شهاب العكبري رواية لا يجوز .

وجه الأول قوله - تعالى - يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج [ البقرة : 189 ] وكلها مواقيت للناس فكذا للحج ، وقوله الحج أشهر معلومات [ البقرة : 197 ] أي : معظمه في أشهر كقوله الحج عرفة أو أراد حج المتمتع ، وإن أضمر الإحرام ، أضمرنا الفضيلة ، والخصم يضمر الجواز ، والمضمر لا يعم ، وقول ابن عباس محمول على الاستحباب .

( وأشهر الحج شوال ، وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ) رواه ابن عمر مرفوعا ، وقاله جمع من الصحابة ، ويوم النحر منه ، وهو يوم الحج الأكبر ، نص عليه ; لأن العشر بإطلاقه للأيام كالعدة ، وقال القاضي والمؤلف : العرب تغلب التأنيث في العدد خاصة لسبق الليالي فنقول : سرنا عشرا ، وإنما فات الحج بفجر يوم النحر لخروج وقت الوقوف فقط ، والجمع يطلق على اثنين ، وعلى اثنتين ، وبعض آخر كعدة ذات القروء ، وعلم منه أن العمرة لا يفسد فيها توقيت [ ص: 115 ] بل يفعل في كل السنة ، وهي في رمضان أفضل ، لما في " الصحيحين " عن ابن عباس مرفوعا عمرة في رمضان تقضي حجة أو قال : حجة معي ، ونقل عنه ابن إبراهيم هي في رمضان أفضل ، وفي غير أشهر الحج أفضل ، ولا يكره الإحرام بها يوم عرفة ، والنحر ، والتشريق كالطواف المجرد ، إذ الأصل عدم الكراهة ، ولا دليل ، وعنه : يكره . رواه النجاد عن عائشة . وخصها بعضهم بأيام التشريق .

التالي السابق


الخدمات العلمية