صفحة جزء
المسألة الخامسة

[ قراءة القرآن ]

اتفق العلماء على أنه لا تجوز صلاة بغير قراءة لا عمدا ، ولا سهوا ، إلا شيئا روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه صلى ، فنسي القراءة ، فقيل له في ذلك ، فقال : كيف كان الركوع والسجود ؟ فقيل : حسن ، فقال : لا بأس إذا ، وهو حديث غريب عندهم ، أدخله مالك في موطئه في بعض الروايات ، وإلا شيئا روي عن ابن عباس أنه لا يقرأ في صلاة السر ، وأنه قال : " قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلوات ، وسكت في أخرى " ، فنقرأ فيما قرأ ونسكت فيما سكت ، وسئل هل في الظهر ، والعصر قراءة ؟ فقال : لا .

[ ص: 108 ] وأخذ الجمهور بحديث خباب " أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الظهر والعصر ، قيل فبأي شيء كنتم تعرفون ذلك ؟ قال : باضطراب لحيته " وتعلق الكوفيون بحديث ابن عباس في ترك وجوب القراءة في الركعتين الأخيرتين من الصلاة لاستواء صلاة الجهر ، والسر في سكوت النبي - صلى الله عليه وسلم - في هاتين الركعتين . واختلفوا في القراءة الواجبة في الصلاة ، فرأى بعضهم أن الواجب من ذلك أم القرآن لمن حفظها ، وأن ما عداها ليس فيه توقيت ، ومن هؤلاء من أوجبها في كل ركعة ، ومنهم من أوجبها في أكثر الصلاة ، ومنهم من أوجبها في نصف الصلاة ، ومنهم من أوجبها في ركعة من الصلاة ، وبالأول قال الشافعي ، وهي أشهر الروايات عن مالك ، وقد روي عنه أنه إن قرأها في ركعتين من الرباعية أجزأته . وأما من رأى أنها تجزئ في ركعة ، فمنهم الحسن البصري وكثير من فقهاء البصرة .

وأما أبو حنيفة : فالواجب عنده إنما هو قراءة القرآن أي آية اتفقت أن تقرأ ، وحد أصحابه في ذلك ثلاث آيات قصار أو آية طويلة مثل آية الدين ، وهذا في الركعتين الأوليين ، وأما في الأخيرتين ، فيستحب عنده التسبيح فيهما دون القراءة ، وبه قال الكوفيون .

والجمهور يستحبون القراءة فيها كلها .

والسبب في هذا الاختلاف : تعارض الآثار في هذا الباب ، ومعارضة ظاهر الكتاب للأثر ، أما الآثار المتعارضة في ذلك ، فأحدها حديث أبي هريرة الثابت : " أن رجلا دخل المسجد فصلى ، ثم جاء ، فسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم - فرد عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - السلام وقال : ارجع فصل فإنك لم تصل ، فصلى ، ثم أمره بالرجوع ، فعل ذلك ثلاث مرات ، فقال : والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره ، فقال عليه الصلاة والسلام : إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ، ثم استقبل القبلة فكبر ، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ، ثم اركع حتى تطمئن راكعا ، ثم ارفع حتى تعتدل قائما ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ، ثم ارفع حتى تستوي قائما ، ثم افعل ذلك في صلاتك كلها " وأما المعارض لهذا فحديثان ثابتان متفق عليهما : أحدهما : حديث عبادة بن الصامت أنه - عليه الصلاة والسلام - قال : " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب " وحديث أبي هريرة أيضا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ، فهي خداج ، فهي خداج ثلاثا " وحديث أبي هريرة المتقدم ظاهره أنه يجزئ من القراءة في الصلاة ما تيسر من القرآن ، وحديث عبادة وحديث أبي هريرة الثاني يقتضيان أن أم القرآن شرط في الصلاة ، وظاهر قوله تعالى : ( فاقرءوا ما تيسر منه ) يعضد حديث أبي هريرة المتقدم ، والعلماء المختلفون في هذه المسألة إما أن يكونوا ذهبوا في تأويل هذه الأحاديث مذهب الجمع ، وإما أن يكونوا ذهبوا مذهب الترجيح ، وعلى كلا القولين يتصور هذا المعنى ، وذلك أنه من ذهب مذهب من أوجب قراءة ما تيسر من القرآن له أن يقول هذا أرجح ; لأن ظاهر [ ص: 109 ] الكتاب يوافقه ، وله أن يقول على طريق الجمع أنه يمكن أن يكون حديث عبادة المقصود به نفي الكمال لا نفي الإجزاء ، وحديث أبي هريرة المقصود منه الإعلام بالمجزئ من القراءة ، إذا كان المقصود منه تعليم فرائض الصلاة .

ولأولئك أيضا أن يذهبوا هذين المذهبين بأن يقولوا هذه الأحاديث أوضح ; لأنها أكثر ، وأيضا فإن حديث أبي هريرة المشهور يعضده ، وهو الحديث الذي فيه يقول تعالى : " قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين : نصفها لي ، ونصفها لعبدي ، ولعبدي ما سأل ، يقول العبد الحمد لله رب العالمين ، يقول الله حمدني عبدي " الحديث ، ولهم أن يقولوا أيضا إن قوله - عليه الصلاة والسلام - ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " مبهم والأحاديث الأخر معينة ، والمعين يقضي على المبهم ، وهذا فيه عسر ، فإن معنى حرف ( ما ) ههنا إنما هو معنى أي شيء تيسر ، وإنما يسوغ هذا إن دلت ( ما ) في كلام العرب على ما تدل عليه لام العهد ، فكان يكون تقدير الكلام : اقرأ الذي تيسر معك من القرآن ويكون المفهوم منه أم الكتاب ، إذا كانت الألف واللام في ( الذي ) تدل على العهد ، فينبغي أن يتأمل هذا في كلام العرب ، فإن وجدت العرب تفعل هذا ( أعني تتجوز في موطن ما ) فتدل بـ ( ما ) على شيء معين فليسغ هذا التأويل ، وإلا فلا وجه له ، فالمسألة كما ترى محتملة ، وإنما كان يرتفع الاحتمال لو ثبت النسخ . وأما اختلاف من أوجب أم الكتاب في الصلاة في كل ركعة أو في بعض الصلاة فسببه احتمال عودة الضمير الذي في قوله - عليه الصلاة والسلام - " لم يقرأ فيها بأم القرآن " على كل أجزاء الصلاة أو على بعضها ، وذلك أن من قرأ في الكل منها أو في الجزء . أعني : في ركعة أو ركعتين لم يدخل تحت قوله - عليه الصلاة والسلام - " لم يقرأ فيها " وهذا الاحتمال بعينه هو الذي أصار أبا حنيفة إلى أن يترك القراءة أيضا في بعض الصلاة : ( أعني : في الركعتين الأخيرتين ) واختار مالك أن يقرأ في الركعتين الأوليين من الرباعية بالحمد وسورة ، وفي الأخيرتين بالحمد فقط ، فاختار الشافعي أن تقرأ في الأربع من الظهر بالحمد ، وسورة إلا أن السورة التي تكون في الأوليين تكون أطول ، فذهب مالك إلى حديث أبي قتادة الثابت " أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يقرأ في الأوليين من الظهر والعصر بفاتحة الكتاب وسورة ، وفي الأخريين منها بفاتحة الكتاب فقط .

وذهب الشافعي إلى ظاهر حديث أبي سعيد الثابت أيضا أنه كان يقرأ في الركعتين الأوليين من الظهر قدر ثلاثين آية ، وفي الأخريين قدر خمس عشرة آية ، ولم يختلفوا في العصر لاتفاق الحديثين فيها ، وذلك أن في حديث أبي سعيد هذا " أنه كان يقرأ في الأوليين من العصر قدر خمس عشرة آية ، وفي الأخريين قدر النصف من ذلك " .

التالي السابق


الخدمات العلمية