صفحة جزء
المسألة العاشرة من الصفات

[ غسل الرجلين ]

اتفق العلماء على أن الرجلين من أعضاء الوضوء ، واختلفوا في نوع طهارتهما ، فقال قوم : طهارتهما الغسل ، وهم الجمهور ، وقال قوم : فرضهما المسح ، وقال قوم : بل طهارتهما تجوز بالنوعين : الغسل والمسح ، وإن ذلك راجع إلى اختيار المكلف ، وسبب اختلافهم القراءتان المشهورتان في آية الوضوء : أعني قراءة من قرأ ( وأرجلكم ) بالنصب [ ص: 18 ] عطفا على المغسول ، وقراءة من قرأ : ( وأرجلكم ) بالخفض عطفا على الممسوح ، وذلك أن قراءة النصب ظاهرة في الغسل ، وقراءة الخفض ظاهرة في المسح كظهور تلك في الغسل ، فمن ذهب إلى أن فرضهما واحد من هاتين الطهارتين على التعيين إما الغسل وإما المسح ذهب إلى ترجيح ظاهر إحدى القراءتين على القراءة الثانية ، وصرف بالتأويل ظاهر القراءة الثانية إلى معنى ظاهر القراءة التي ترجحت عنده ; ومن اعتقد أن دلالة كل واحدة من القراءتين على ظاهرها على السواء ، وأنه ليست إحداهما على ظاهرها أدل من الثانية على ظاهرها أيضا جعل ذلك من الواجب المخير ككفارة اليمين وغير ذلك ، وبه قال الطبري وداود .

وللجمهور تأويلات في قراءة الخفض ، أجودها أن ذلك عطف على اللفظ لا على المعنى ، إذ كان ذلك موجودا في كلام العرب مثل قول الشاعر :


لعب الزمان بها وغيرها بعدي سوافي المور والقطر

. بالخفض ، ولو عطف على المعنى لرفع " القطر " . وأما الفريق الثاني ، وهم الذين أوجبوا المسح ، فإنهم تأولوا قراءة النصب على أنها عطف على الموضع كما قال الشاعر :


فلسنا بالجبال ولا الحديدا

.

وقد رجح الجمهور قراءتهم هذه بالثابت عنه - عليه الصلاة والسلام - إذ قال في قوم لم يستوفوا غسل أقدامهم في الوضوء : " ويل للأعقاب من النار " قالوا : فهذا يدل على أن الغسل هو الفرض ; لأن الواجب هو الذي يتعلق بتركه العقاب ، وهذا ليس فيه حجة ; لأنه إنما وقع الوعيد على أنهم تركوا أعقابهم دون غسل ، ولا شك أن من شرع في الغسل ففرضه الغسل في جميع القدم ، كما أن من شرع في المسح ففرضه المسح عند من يخير بين الأمرين ، وقد يدل على هذا ما جاء في أثر آخر خرجه أيضا مسلم أنه قال : فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى : " ويل للأعقاب من النار " وهذا الأثر وإن كانت العادة قد جرت بالاحتجاج به في منع المسح ، فهو أدل على جوازه منه على منعه ; لأن الوعيد إنما تعلق فيه بترك التعميم لا بنوع الطهارة ، بل سكت عن نوعها ، وذلك دليل على جوازها .

وجواز المسح هو أيضا مروي عن بعض الصحابة والتابعين ، ولكن من طريق المعنى ، فالغسل أشد مناسبة للقدمين من المسح كما أن المسح أشد مناسبة للرأس من الغسل ، إذ كانت القدمان لا ينقى دنسهما غالبا إلا بالغسل ، وينقى دنس الرأس بالمسح وذلك أيضا غالب ، والمصالح المعقولة لا يمتنع أن تكون أسبابا للعبادات المفروضة حتى يكون الشرع لاحظ فيهما معنيين : معنى مصلحيا ، ومعنى عباديا ( وأعني بالمصلحي : ما رجع إلى الأمور المحسوسة ، وبالعبادي : ما رجع إلى زكاة النفس ) . وكذلك اختلفوا في الكعبين هل يدخلان في المسح أو في الغسل عند من أجاز المسح ؟ وأصل اختلافهم الاشتراك الذي في حرف ( إلى ) أعني : في قوله تعالى : ( وأرجلكم إلى الكعبين ) وقد تقدم القول في اشتراك هذا الحرف في قوله تعالى : ( إلى المرافق ) لكن الاشتراك وقع هنالك من جهتين من اشتراك اسم اليد ، ومن اشتراك حرف ( إلى ) وهنا من قبل اشتراك حرف ( إلى ) فقط .

وقد اختلفوا في الكعب ما هو ، وذلك لاشتراك اسم الكعب واختلاف أهل اللغة في دلالته ، فقيل : [ ص: 19 ] هما العظمان اللذان عند معقد الشراك ، وقيل : هما العظمان الناتئان في طرف الساق ، ولا خلاف فيما أحسب في دخولهما في الغسل عند من يرى أنهما عند معقد الشراك إذا كانا جزءا من القدم ، لذلك قال قوم : إنه إذا كان الحد من جنس المحدود دخلت الغاية فيه : ( أعني الشيء الذي يدل عليه حرف " إلى " ) ، إذا لم يكن من جنس المحدود لم يدخل فيه مثل قوله تعالى : ( ثم أتموا الصيام إلى الليل ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية