صفحة جزء
المسألة الثالثة

[ الإنصات للخطبة ]

اختلفوا في الإنصات يوم الجمعة ، والإمام يخطب على ثلاثة أقوال : فمنهم من رأى أن الإنصات واجب على كل حال وأنه حكم لازم من أحكام الخطبة ، وهم الجمهور ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وجميع فقهاء الأمصار ، وهؤلاء انقسموا ثلاثة أقسام ، فبعضهم أجاز التشميت ورد السلام في وقت الخطبة ، وبه قال الثوري والأوزاعي وغيرهم وبعضهم لم يجز رد السلام ولا التشميت ، وبعض فرق بين السلام ، والتشميت فقالوا يرد السلام ولا يشمت ، [ ص: 137 ] والقول الثاني مقابل القول الأول وهو أن الكلام في حال الخطبة جائز إلا في حين قراءة القرآن فيها ، وهو مروي عن الشعبي وسعيد بن جبير وإبراهيم النخعي .

والقول الثالث : الفرق بين أن يسمع الخطبة أو لا يسمعها ، فإن سمعها أنصت وإن لم يسمع جاز له أن يسبح أو يتكلم في مسألة من العلم ، وبه قال أحمد وعطاء وجماعة ، والجمهور على أنه إن تكلم لم تفسد صلاته .

وروي عن ابن وهب أنه قال : من لغا فصلاته ظهر أربع وإنما صار الجمهور لوجوب الإنصات لحديث أبي هريرة أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال : " إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة والإمام يخطب فقد لغوت " ، وأما من لم يوجبه فلا أعلم لهم شبهة إلا أن يكونوا يرون أن هذا الأمر قد عارضه دليل الخطاب في قوله تعالى : ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) أي أن ما عدا القرآن فليس يجب له الإنصات ، وهذا فيه ضعف - والله أعلم - والأشبه أن يكون هذا الحديث لم يصلهم .

وأما اختلافهم في رد السلام وتشميت العاطس ، فالسبب فيه تعارض عموم الأمر بذلك لعموم الأمر بالإنصات ، واحتمال أن يكون كل واحد منهما مستثنى من صاحبه ، فمن استثنى من عموم الأمر بالصمت يوم الجمعة الأمر بالسلام وتشميت العاطس أجازهما ، ومن استثنى من عموم الأمر برد السلام والتشميت الأمر بالصمت في حين الخطبة لم يجز ذلك ، ومن فرق فإنه استثنى رد السلام من النهي عن التكلم في الخطبة ، واستثنى من عموم الأمر التشميت وقت الخطبة ، وإنما ذهب واحد واحد من هؤلاء إلى واحد واحد من المستثنيات لما غلب على ظنه من قوة العموم في أحدها وضعفه في الآخر ، وذلك أن الأمر بالصمت هو عام في الكلام خاص في الوقت ، والأمر برد السلام والتشميت هو عام في الوقت خاص في الكلام ، فمن استثنى الزمان الخاص من الكلام العام لم يجز رد السلام ولا التشميت في وقت الخطبة ، ومن استثنى الكلام الخاص من النهي عن الكلام العام أجاز ذلك .

والصواب أن لا يصار لاستثناء أحد العمومين بأحد الخصوصين إلا بدليل ، فإن عسر ذلك فبالنظر في ترجيح العمومات ، والخصوصات ، وترجيح تأكيد الأوامر بها والقول في تفصيل ذلك يطول ، ولكن معرفة ذلك بإيجاز أنه إن كانت الأوامر قوتها واحدة والعمومات والخصوصات قوتها واحدة ولم يكن هنالك دليل على أي يستثنى من أي وقع التمانع ضرورة ، وهذا يقل وجوده ، وإن لم يكن فوجه الترجيح في العمومات ، والخصوصات الواقعة في أمثال هذه المواضع هو النظر إلى جميع أقسام النسب الواقعة بين الخصوصين والعمومين ، وهي أربع :

عمومان في مرتبة واحدة من القوة ، وخصوصان في مرتبة واحدة من القوة ، فهذا لا يصار لاستثناء أحدهما إلا بدليل ، والثاني مقابل هذا ، وهو خصوص في نهاية القوة وعموم في نهاية الضعف ، فهذا يجب أن يصار إليه ولا بد أعني : أن يستثنى من العموم الخصوص ، الثالث خصوصان في مرتبة واحدة ، وأحد العمومين أضعف من الثاني ، فهذا ينبغي أن يخصص فيه العموم الضعيف .

[ ص: 138 ] الرابع : عمومان في مرتبة واحدة وأحد الخصوصين أقوى من الثاني ، فهذا يجب أن يكون الحكم فيه للخصوص القوي ، وهذا كله إذا تساوت الأوامر فيها في مفهوم التأكيد ، فإن اختلفت حدثت من ذلك تراكيب مختلفة ، ووجبت المقايسة أيضا بين قوة الألفاظ وقوة الأوامر ، ولعسر انضباط هذه الأشياء قيل إن كل مجتهد مصيب أو أقل ذلك غير مأثوم .

التالي السابق


الخدمات العلمية