صفحة جزء
الباب الخامس من الجملة الثالثة

وهو القول في صلاة الخوف .

اختلف العلماء في جواز صلاة الخوف بعد النبي - عليه الصلاة والسلام - وفي صفتها .

[ 1 - حكم صلاة الخوف ]

فأكثر العلماء على أن صلاة الخوف جائزة لعموم قوله تعالى : ( وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا ) الآية . ولما ثبت ذلك من فعله - عليه الصلاة والسلام - وعمل الأئمة والخلفاء بعده بذلك ، وشذ أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة فقال : لا تصلى صلاة الخوف بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - بإمام واحد ، وإنما تصلى بعده بإمامين يصلي واحد منهما بطائفة ركعتين ، ثم يصلي الآخر بطائفة أخرى وهي الحارسة ركعتين أيضا وتحرس التي قد صلت .

والسبب في اختلافهم : هل صلاة النبي بأصحابه صلاة الخوف هي عبادة أو هي لمكان فضل النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن رأى أنها عبادة لم ير أنها خاصة بالنبي عليه الصلاة والسلام ، ومن رآها لمكان فضل النبي - عليه الصلاة والسلام - رآها خاصة بالنبي - عليه الصلاة والسلام - وإلا فقد كان يمكننا أن ينقسم الناس على إمامين ، وإنما كان ضرورة اجتماعهم على إمام واحد خاصة من خواص النبي - عليه الصلاة والسلام - وتأيد عنده هذا التأويل بدليل الخطاب المفهوم من قوله تعالى : ( وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة ) الآية . ومفهوم الخطاب أنه إذا لم يكن فيهم فالحكم غير هذا الحكم ، وقد ذهبت طائفة من فقهاء الشام إلى أن صلاة الخوف تؤخر عن وقت الخوف إلى وقت الأمن كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق ، والجمهور على أن ذلك الفعل يوم الخندق كان قبل نزول صلاة الخوف ، وأنه منسوخ بها .

[ 2 - صفة صلاة الخوف ]

وأما صفة صلاة الخوف فإن العلماء اختلفوا فيها اختلافا كثيرا لاختلاف الآثار في هذا الباب : ( أعني : المنقولة من فعله ) - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الخوف ، والمشهور من ذلك سبع صفات .

[ الصفة الأولى ]

فمن ذلك ما أخرجه مالك ، ومسلم من حديث صالح بن خوات عمن صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم ذات الرقاع صلاة الخوف أن طائفة صفت معه ، وصفت طائفة وجاه العدو ، فصلى بالتي معه ركعة ، ثم ثبت قائما وأتموا لأنفسهم ، ثم انصرفوا وجاه العدو ، وجاءت الطائفة الأخرى فصلى بهم الركعة التي بقيت من صلاتهم ، ثم ثبت جالسا وأتموا لأنفسهم ، ثم سلم بهم ، وبهذا الحديث قال الشافعي .

[ الصفة الثانية ]

وروى مالك هذا الحديث بعينه عن القاسم بن محمد عن صالح بن خوات موقوفا [ ص: 149 ] كمثل حديث يزيد بن رومان : أنه لما قضى الركعة بالطائفة الثانية سلم ولم ينتظرهم حتى يفرغوا من الصلاة ، واختار مالك هذه الصفة ، فالشافعي آثر المسند على الموقوف ، ومالك آثر الموقوف ; لأنه أشبه بالأصول : ( أعني : أنه لا يجلس الإمام حتى تفرغ الطائفة الثانية من صلاتها ; لأن الإمام متبوع لا متبع ) وغير مختلف عليه .

والصفة الثالثة : ما ورد في حديث أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه ، رواه الثوري وجماعة وخرجه أبو داود قال : صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف بطائفة وطائفة مستقبلو العدو ، فصلى بالذين معه ركعة وسجدتين وانصرفوا ولم يسلموا ، فوقفوا بإزاء العدو ، ثم جاء الآخرون فقاموا معه ، فصلى بهم ركعة ، ثم سلم فقام هؤلاء ، فصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا وذهبوا ، فقاموا مقام أولئك مستقبلي العدو ، ورجع أولئك إلى مراتبهم فصلوا لأنفسهم ركعة ، ثم سلموا " وبهذه الصفة قال أبو حنيفة وأصحابه ما خلا أبا يوسف على ما تقدم " .

والصفة الرابعة الواردة في حديث أبي عياش الزرقي قال : " كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعسفان ، وعلى المشركين خالد بن الوليد ، فصلينا الظهر ، فقال المشركون : لقد أصبنا غفلة لو كنا حملنا عليهم ، وهم في الصلاة ، فأنزل الله آية القصر بين الظهر والعصر ، فلما حضرت العصر قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستقبل القبلة والمشركون أمامه ، فصلى خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صف واحد ، وصف بعد ذلك صف آخر ، فركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركعوا جميعا ، ثم سجد ، وسجد الصف الذي يليه ، وقام الآخر يحرسونهم فلما صلى هؤلاء سجدتين ، وقاموا سجد الآخرون الذين كانوا خلفه ، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين ، وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول ، ثم ركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركعوا جميعا ، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه ، وقام الآخرون يحرسونهم ، فلما جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصف الذي يليه سجد الآخرون ، ثم جلسوا جميعا ، فسلم بهم جميعا " وهذه الصلاة صلاها بعسفان وصلاها يوم بني سليم . قال أبو داود : وروي هذا عن جابر وعن ابن عباس وعن مجاهد ، وعن أبي موسى وعن هشام بن عروة عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : وهو قول الثوري وهو أحوطها يريد أنه ليس في هذه الصفة كبير عمل مخالف لأفعال الصلاة المعروفة ، وقال بهذه الصفة جملة من أصحابمالك وأصحاب الشافعي ، وخرجها مسلم عن جابر ، وقال جابر : كما يصنع حرسكم هؤلاء بأمرائكم .

والصفة الخامسة : الواردة في حديث حذيفة قال ثعلبة بن زهدم قال : كنا مع سعيد بن العاصي بطبرستان ، فقام فقال : أيكم صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف ؟ قال حذيفة : أنا ، فصلى بهؤلاء ركعة وبهؤلاء ركعة ولم يقضوا شيئا " وهذا مخالف للأصل مخالفة كثيرة . وخرج أيضا عن ابن عباس في معناه أنه قال : " الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربع وفي السفر ركعتان وفي الخوف ركعة واحدة " وأجاز هذه الصفة الثوري . )

والصفة السادسة : الواردة في حديث أبي بكرة وحديث جابر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى بكل طائفة من الطائفتين ركعتين ركعتين ، وبه كان يفتي الحسن ، وفيه دليل على اختلاف نية الإمام والمأموم لكونه متما ، وهم مقصرون ، خرجه مسلم عن جابر .

[ ص: 150 ] والصفة السابعة : الواردة في حديث ابن عمر عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال : يتقدم الإمام ، وطائفة من الناس ، فيصلي بهم ركعة . وتكون طائفة منهم بينه ، وبين العدو لم يصلوا ، فإذا صلى الذين معه ركعة استأخروا مكان الذين لم يصلوا معه ولا يسلمون ، ويتقدم الذين لم يصلوا ، فيصلون معه ركعة ، ثم ينصرف الإمام ، وقد صلى ركعتين تتقدم كل واحدة من الطائفتين فيصلون لأنفسهم ركعة ركعة بعد أن ينصرف الإمام فتكون كل واحدة من الطائفتين قد صلت ركعتين ، فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا قياما على أقدامهم ، أو ركبانا مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها ، وممن قال بهذه الصفة أشهب عن مالك وجماعة .

وقال أبو عمر : الحجة لمن قال بحديث ابن عمر هذا أنه ورد بنقل الأئمة أهل المدينة وهم الحجة في النقل على من خالفهم ، وهي أيضا مع هذا أشبه بالأصول لأن الطائفة الأولى والثانية لم يقضوا الركعة إلا بعد خروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة وهو المعروف من سنة القضاء المجتمع عليها في سائر الصلوات ، وأكثر العلماء على ما جاء في هذا الحديث من أنه إذا اشتد الخوف جاز أن يصلوا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، وإيماء من غير ركوع ولا سجود ، وخالف في ذلك أبو حنيفة فقال : لا يصلي الخائف إلا إلى القبلة ، ولا يصلي أحد في حال المسايفة .

وسبب الخلاف في ذلك مخالفة هذا الفعل للأصول ، وقد رأى قوم أن هذه الصفات كلها جائزة ، وأن للمكلف أن يصلي أيتها أحب ، وقد قيل : إن هذا الاختلاف إنما كان بحسب اختلاف المواطن .

التالي السابق


الخدمات العلمية