صفحة جزء
المسألة الرابعة

[ حكم الأسآر ]

اتفق العلماء على طهارة أسآر المسلمين ، وبهيمة الأنعام ، واختلفوا فيما عدا ذلك اختلافا كثيرا ، فمنهم من زعم أن كل حيوان طاهر السؤر ، ومنهم من استثنى من ذلك الخنزير فقط ، وهذان القولان مرويان عن مالك ، ومنهم من استثنى من ذلك الخنزير والكلب ، وهو مذهب الشافعي ومنهم من استثنى من ذلك السباع عامة ، وهو مذهب ابن القاسم ، ومنهم من ذهب إلى أن الأسآر تابعة للحوم ، فإن كانت اللحوم محرمة فالأسآر نجسة ، وإن كانت مكروهة فالأسآر مكروهة ، وإن كانت مباحة فالأسآر طاهرة .

وأما سؤر المشرك فقيل : إنه نجس ، وقيل : إنه مكروه إذا كان يشرب الخمر ، وهو مذهب ابن القاسم ، وكذلك عنده جميع أسآر الحيوانات التي لا تتوقى النجاسة غالبا مثل الدجاج المخلاة ، والإبل الجلالة ، والكلاب المخلاة .

وسبب اختلافهم في ذلك هو ثلاثة أشياء : أحدها معارضة القياس لظاهر الكتاب .

والثاني معارضته لظاهر الآثار .

والثالث معارضة الآثار بعضها بعضا في ذلك .

أما القياس : فهو أنه لما كان الموت من غير ذكاة هو سبب نجاسة عين الحيوان بالشرع ، وجب أن تكون الحياة هي سبب طهارة عين الحيوان ، وإذا كان ذلك كذلك فكل حي طاهر العين ، وكل طاهر العين فسؤره طاهر .

وأما ظاهر الكتاب فإنه عارض هذا القياس في الخنزير والمشرك ، وذلك أن الله تعالى يقول في الخنزير : ( فإنه رجس ) . وما هو رجس في عينه فهو نجس لعينه ، ولذلك استثنى قوم من الحيوان الحي الخنزير فقط ، ومن لم يستثنه حمل قوله " رجس " على جهة الذم له .

وأما المشرك ففي قوله تعالى ( إنما المشركون نجس ) فمن حمل هذا أيضا على ظاهره استثنى من مقتضى ذلك في القياس المشركين ، ومن أخرجه مخرج الذم لهم طرد قياسه .

وأما الآثار فإنها عارضت هذا القياس في الكلب والهر والسباع .

[ ص: 29 ] أما الكلب : فحديث أبي هريرة المتفق على صحته ، وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه وليغسله سبع مرات " وفي بعض طرقه " أولاهن بالتراب " وفي بعضها : " وعفروه الثامنة بالتراب " .

وأما الهر : فما رواه قرة عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " طهور الإناء إذا ولغ فيه الهر أن يغسل مرة أو مرتين " وقرة ثقة عند أهل الحديث .

وأما السباع فحديث ابن عمر المتقدم عن أبيه قال : " سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الماء وما ينوبه من السباع والدواب فقال : إن كان الماء قلتين لم يحمل خبثا " . وأما تعارض الآثار في هذا الباب ، فمنها أنه روي عنه " أنه سئل - صلى الله عليه وسلم - عن الحياض التي بين مكة والمدينة تردها الكلاب والسباع ، فقال : " لها ما حملت في بطونها ولكم ما غبر شرابا وطهورا " ونحو هذا حديث عمر الذي رواه مالك في موطئه ، وهو قوله : " يا صاحب الحوض لا تخبرنا فإنا نرد على السباع ، وترد علينا " وحديث أبي قتادة أيضا الذي خرجه مالك : " أن كبشة سكبت له وضوءا فجاءت هرة لتشرب منه فأصغى لها الإناء حتى شربت ، ثم قال : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إنها ليست بنجس إنما هي من الطوافين عليكم أو الطوافات " فاختلف العلماء في تأويل هذه الآثار ووجه جمعها مع القياس المذكور ، فذهب مالك في الأمر بإراقة سؤر الكلب وغسل الإناء منه ، إلى أن ذلك عبادة غير معللة ، وأن الماء الذي يلغ فيه ليس بنجس ، ولم ير إراقة ما عدا الماء من الأشياء التي يلغ فيها الكلب في المشهور عنه ، وذلك كما قلنا لمعارضة ذلك القياس له ، ولأنه ظن أيضا أنه إن فهم منه أن الكلب نجس العين عارضه ظاهر الكتاب ، وهو قوله تعالى : ( فكلوا مما أمسكن عليكم ) يريد أنه لو كان نجس العين لنجس الصيد بمماسته ، وأيد هذا التأويل بما جاء في غسله من العدد ، والنجاسات ليس يشترط في غسلها العدد فقال : إن هذا الغسل إنما هو عبادة ، ولم يعرج على سائر تلك الآثار لضعفها عنده .

وأما الشافعي فاستثنى الكلب من الحيوان الحي ورأى أن ظاهر هذا الحديث يوجب نجاسة سؤره ، وأن لعابه هو النجس لا عينه فيما أحسب ، وأنه يجب أن يغسل الصيد منه ، وكذلك استثنى الخنزير لمكان الآية المذكورة .

وأما أبو حنيفة : فإنه زعم أن المفهوم من هذه الآثار الواردة بنجاسة سؤر السباع والهر والكلب هو من قبل تحريم لحومها ، وأن هذا من باب الخاص أريد به العام فقال : الأسآر تابعة للحوم الحيوان ، وأما بعض الناس فاستثنى من ذلك الكلب والهر والسباع على ظاهر الأحاديث الواردة في ذلك .

وأما بعضهم فحكم بطهارة سؤر الكلب والهر ، فاستثنى من ذلك السباع فقط .

أما سؤر الكلب فللعدد المشترط في غسله ، ولمعارضة ظاهر الكتاب له ، ولمعارضة حديث أبي قتادة له ، إذ علل عدم نجاسة الهرة من قبل أنها من الطوافين ، والكلب طواف .

وأما الهرة فمصيرا إلى ترجيح حديث أبي قتادة على حديث [ ص: 30 ] قرة عن ابن سيرين ، وترجيح حديث ابن عمر على حديث عمر وما ورد في معناه ، لمعارضة حديث أبي قتادة له بدليل الخطاب ; وذلك أنه لما علل عدم النجاسة في الهرة بسبب الطواف فهم منه أن ما ليس بطواف وهي السباع فأسآرها محرمة ، وممن ذهب هذا المذهب ابن القاسم .

وأما أبو حنيفة فقال كما قلنا بنجاسة سؤر الكلب ، ولم ير العدد في غسله شرطا في طهارة الإناء الذي ولغ فيه ; لأنه عارض ذلك عنده القياس في غسل النجاسات ، ( أعني : أن المعتبر فيها إنما هو إزالة العين فقط ) وهذا على عادته في رد أخبار الآحاد لمكان معارضة الأصول لها .

قال القاضي : فاستعمل من هذا الحديث بعضا ، ولم يستعمل بعضا ( أعني أنه استعمل منه ما لم تعارضه عنده الأصول ، ولم يستعمل ما عارضته منه الأصول ) وعضد ذلك بأنه مذهب أبي هريرة الذي روى الحديث .

فهذه هي الأشياء التي حركت الفقهاء إلى هذا الاختلاف الكثير في هذه المسألة ، وقادتهم إلى الافتراق فيها ، والمسألة اجتهادية محضة يعسر أن يوجد فيها ترجيح ، ولعل الأرجح أن يستثنى من طهارة أسآر الحيوان الكلب والخنزير والمشرك لصحة الآثار الواردة في الكلب ولأن ظاهر الكتاب أولى أن يتبع في القول بنجاسة عين الخنزير والمشرك من القياس ، وكذلك ظاهر الحديث ، وعليه أكثر الفقهاء ( أعني : على القول بنجاسة سؤر الكلب ) فإن الأمر بإراقة ما ولغ فيه الكلب مخيل ومناسب في الشرع لنجاسة الماء الذي ولغ فيه ( أعني : أن المفهوم بالعادة في الشرع من الأمر بإراقة الشيء وغسل الإناء منه هو لنجاسة الشيء ) وما اعترضوا به من أنه لو كان ذلك لنجاسة الإناء لما اشترط فيه العدد ، فغير نكير أن يكون الشرع يخص نجاسة دون نجاسة بحكم دون حكم تغليظا لها .

قال القاضي : وقد ذهب جدي - رحمة الله عليه - في كتاب المقدمات إلى أن هذا الحديث معلل معقول المعنى ليس من سبب النجاسة . بل من سبب ما يتوقع أن يكون الكلب الذي ولغ في الإناء كلبا ، فيخاف من ذلك السم .

قال : ولذلك جاء هذا العدد الذي هو السبع في غسله ، فإن هذا العدد قد استعمل في الشرع في مواضع كثيرة في العلاج والمداواة من الأمراض ، وهذا الذي قال - رحمه الله - هو وجه حسن على طريقة المالكية ، فإنه إذا قلنا إن ذلك الماء غير نجس ، فالأولى أن يعطى علة في غسله من أن يقول إنه غير معلل ، وهذا طاهر بنفسه ، وقد اعترض عليه فيما بلغني بعض الناس بأن قال : إن الكلب الكلب لا يقرب الماء في حين كلبه ، وهذا الذي قالوه هو عند استحكام هذه العلة بالكلاب ، لا في مباديها وفي أول حدوثها ، فلا معنى لاعتراضهم . وأيضا فإنه ليس في الحديث ذكر الماء ، وإنما فيه ذكر الإناء ، ولعل في سؤره خاصية من هذا الوجه ضارة ( أعني : قبل أن يستحكم به الكلب ) ولا يستنكر ورود مثل هذا في الشرع ، فيكون هذا من باب ما ورد في الذباب إذا وقع في الطعام أن يغمس ، وتعليل ذلك بأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء . وأما ما قيل في المذهب من أن هذا الكلب هو الكلب المنهي عن اتخاذه أو الكلب الحضري فضعيف وبعيد من هذا التعليل ، إلا أن يقول قائل : إن ذلك ( أعني النهي ) من باب التحريج في اتخاذه .

التالي السابق


الخدمات العلمية