صفحة جزء
القول في الإحرام

واتفق جمهور العلماء على أن الغسل للإهلال سنة ، وأنه من أفعال المحرم حتى قال ابن نوار : إن هذا الغسل للإهلال عند مالك أوكد من غسل الجمعة . وقال أهل الظاهر : هو واجب . وقال أبو حنيفة والثوري : يجزئ منه الوضوء

وحجة أهل الظاهر : مرسل مالك من حديث أسماء بنت عميس أنها ولدت محمد بن أبي بكر بالبيداء ، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : مرها فلتغتسل ثم لتهل " . والأمر عندهم على الوجوب .

وعمدة الجمهور : أن الأصل هو براءة الذمة حتى يثبت الوجوب بأمر لا مدفع فيه ، وكان عبد الله بن عمر يغتسل لإحرامه قبل أن يحرم ، ولدخوله مكة ، ولوقوفه عشية يوم عرفة ، ومالك يرى هذه الاغتسالات الثلاث من أفعال المحرم .

واتفقوا على أن الإحرام لا يكون إلا بنية ، واختلفوا هل تجزئ النية فيه من غير التلبية ؟ فقال مالك والشافعي : تجزئ النية من غير التلبية . وقال أبو حنيفة : التلبية في الحج كالتكبيرة في الإحرام بالصلاة ، إلا أنه يجزئ عنده كل لفظ يقوم مقام التلبية ، كما يجزئ عنده في افتتاح الصلاة كل لفظ يقوم مقام التكبير ، وهو كل ما يدل على التعظيم .

واتفق العلماء على أن لفظ تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك ، إن الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك " . وهي من رواية مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو أصح سندا .

واختلفوا في هل هي واجبة بهذا اللفظ أم لا ؟ فقال أهل الظاهر : هي واجبة بهذا اللفظ ، ولا خلاف عند [ ص: 280 ] الجمهور في استحباب هذا اللفظ ، وإنما اختلفوا في الزيادة عليه أو في تبديله .

وأوجب أهل الظاهر رفع الصوت بالتلبية ، وهو مستحب عند الجمهور لما رواه مالك : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية وبالإهلال " .

وأجمع أهل العلم على أن تلبية المرأة فيما حكاه أبو عمر هو أن تسمع نفسها بالقول . وقال مالك : لا يرفع المحرم صوته في مساجد الجماعة بل يكفيه أن يسمع من يليه ، إلا في المسجد الحرام ومسجد منى فإنه يرفع صوته فيهما . واستحب الجمهور رفع الصوت عند التقاء الرفاق ، وعند الإطلال على شرف من الأرض . وقال أبو حازم : كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم . وكان مالك لا يرى التلبية من أركان الحج ، ويرى على تاركها دما ، وكان غيره يراها من أركانه .

وحجة من رآها واجبة : أن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتت بيانا لواجب أنها محمولة على الوجوب حتى يدل الدليل على غير ذلك لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " خذوا عني مناسككم " . وبهذا يحتج من أوجب لفظه فيها فقط .

ومن لم ير وجوب لفظه فاعتمد في ذلك على ما روي من حديث جابر قال : " أهل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فذكر التلبية التي في حديث ابن عمر . وقال في حديثه : " والناس يزيدون على ذلك : لبيك ذا المعارج ، ونحوه من الكلام ، والنبي يسمع ولا يقول شيئا " . وما روي عن ابن عمر أنه كان يزيد في التلبية ، وعن عمر بن الخطاب وعن أنس وغيره .

واستحب العلماء أن يكون ابتداء المحرم بالتلبية بأثر صلاة يصليها ، فكان مالك يستحب ذلك بأثر نافلة لما روي من مرسله عن هشام بن عروة ، عن أبيه : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في مسجد ذي الحليفة ركعتين فإذا استوت به راحلته أهل " .

واختلفت الآثار في الموضع الذي أحرم منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحجته من أقطار ذي الحليفة ، فقال قوم : من مسجد ذي الحليفة بعد أن صلى فيه ، وقال آخرون : إنما أحرم حين أطل على البيداء ، وقال قوم : إنما أهل حين استوت به راحلته . وسئل ابن عباس عن اختلافهم في ذلك فقال : كل حدث لا عن أول إهلاله - عليه الصلاة والسلام - بل عن أول إهلال سمعه ، وذلك أن الناس يأتون متسابقين فعلى هذا لا يكون في هذا اختلاف ، ويكون الإهلال إثر الصلاة .

وأجمع الفقهاء على أن المكي لا يلزمه الإهلال حتى إذا خرج إلى منى ليتصل له عمل الحج ، وعمدتهم ما رواه مالك عن ابن جريج أنه قال لعبد الله بن عمر : رأيتك تفعل هنا أربعا لم أر أحد يفعلها ، فذكر منها ورأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس إذا رأوا الهلال ولم تهل أنت إلى يوم التروية ، فأجابه ابن عمر : أما الإهلال " فإني لم أر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يهل حتى تنبعث به راحلته " يريد حتى يتصل له عمل الحج . وروى مالك أن عمر بن الخطاب كان يأمر أهل مكة أن يهلوا إذا رأوا الهلال .

ولا خلاف عندهم أن المكي لا يهل إلا من جوف مكة إذا كان حاجا ، وإما إذا كان معتمرا فإنهم أجمعوا على أنه يلزمه أن يخرج إلى الحل ثم يحرم منه ليجمع بين الحل والحرم كما يجمع الحاج - أعني : لأنه يخرج إلى عرفة وهو حل ) .

[ ص: 281 ] وبالجملة فاتفقوا على أنها سنة المعتمر ، واختلفوا إن لم يفعل فقال قوم : يجزيه وعليه دم ، وبه قال أبو حنيفة وابن القاسم . وقال آخرون : لا يجزيه وهو قول الثوري وأشهب .

وأما متى يقطع المحرم التلبية ؟ فإنهم اختلفوا في ذلك : فروى مالك أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان يقطع التلبية إذا زاغت الشمس من يوم عرفة . وقال مالك : وذلك الأمر الذي لم يزل عليه أهل العلم ببلدنا . وقال ابن شهاب : كانت الأئمة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي يقطعون التلبية عند زوال الشمس من يوم عرفة . قال أبو عمر بن عبد البر : واختلف في ذلك عن عثمان وعائشة . وقال جمهور فقهاء الأمصار وأهل الحديث - أبو حنيفة والشافعي والثوري وأحمد وأبو ثور وداود وابن أبي ليلى وأبو عبيد والطبري والحسن بن حي - : إن المحرم لا يقطع التلبية حتى يرمي جمرة العقبة لما ثبت : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة " . إلا أنهم اختلفوا متى يقطعها :

فقال قوم : إذا رماها بأسرها ، لما روي عن ابن عباس " أن الفضل بن عباس كان رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه لبى حين رمى جمرة العقبة ، وقطع التلبية في آخر حصاة " .

وقال قوم : بل يقطعها في أول جمرة يلقيها ، روي ذلك عن ابن مسعود .

وروي في وقت قطع التلبية أقاويل غير هذه، إلا أن هذين القولين هما المشهوران .

واختلفوا في وقت قطع التلبية بالعمرة ، وقال مالك : يقطع التلبية إذا انتهى إلى الحرم ، وبه قال أبو حنيفة . وقال الشافعي : إذا افتتح الطواف .

وسلف مالك في ذلك : ابن عمر وعروة .

وعمدة الشافعي : أن التلبية معناها إجابة إلى الطواف بالبيت فلا تنقطع حتى يشرع في العمل .

وسبب الخلاف : معارضة القياس لفعل بعض الصحابة .

وجمهور العلماء كما قلنا متفقون على إدخال المحرم الحج على العمرة ويختلفون في إدخال العمرة ، على الحج . وقال أبو ثور : لا يدخل حج على عمرة ، ولا عمرة على حج ، كما لا تدخل صلاة على صلاة .

فهذه هي أفعال المحرم بما هو محرم وهو أول أفعال الحج . وأما الفعل الذي بعد هذا فهو الطواف عند دخول مكة فلنقل في الطواف :

التالي السابق


الخدمات العلمية