صفحة جزء
الفصل الثاني في حكم الأربعة الأخماس .

- وأجمع جمهور العلماء على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين إذا خرجوا بإذن الإمام . واختلفوا في الخارجين بغير إذن الإمام ، وفيمن يجب له سهمه من الغنيمة ، ومتى يجب ، وكم يجب ، وفيما يجوز له من الغنيمة قبل القسم ؟ .

فالجمهور على أن أربعة أخماس الغنيمة للذين غنموها ، خرجوا بإذن الإمام أو بغير ذلك ، لعموم قوله تعالى : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء ) الآية . وقال قوم : إذا خرجت السرية ، أو الرجل الواحد بغير إذن الإمام فكل ما ساق نفل يأخذه الإمام . وقال قوم : بل يأخذه كله الغانم .

فالجمهور تمسكوا بظاهر الآية ، وهؤلاء كأنهم اعتمدوا صورة الفعل الواقع في ذلك في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن جميع السرايا إنما كانت تخرج عن إذنه عليه الصلاة والسلام ، فكأنهم رأوا أن إذن الإمام شرط في ذلك ، وهو ضعيف .

وأما من له السهم من الغنيمة ؟ فإنهم اتفقوا على الذكران الأحرار البالغين ، واختلفوا في أضدادهم ( أعني : في النساء ، والعبيد ، ومن لم يبلغ من الرجال ممن قارب البلوغ ) : فقال قوم : ليس للعبيد ولا للنساء حظ من الغنيمة ، ولكن يرضخ لهم ، وبه قال مالك ، وقال قوم : لا يرضخ ، ولا لهم حظ الغانمين . وقال قوم : بل لهم حظ واحد من الغانمين ، وهو قول الأوزاعي .

وكذلك اختلفوا في الصبي المراهق : فمنهم من قال : يقسم له ، وهو مذهب الشافعي . ومنهم من اشترط في ذلك أن يطيق القتال ، وهو مذهب مالك . ومنه من قال : يرضخ له .

وسبب اختلافهم في العبيد : هو هل عموم الخطاب يتناول الأحرار والعبيد معا ، أم الأحرار فقط دون العبيد ؟ وأيضا فعمل الصحابة معارض لعموم الآية ، وذلك أنه انتشر فيهم رضي الله عنهم أن الغلمان لا سهم لهم ، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، ذكره ابن أبي شيبة من طرق عنهما . قال أبو عمر بن عبد البر : أصح ما روي من ذلك عن عمر ما رواه سفيان بن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن ابن شهاب ، عن مالك بن أوس بن الحدثان قال : قال عمر : ليس أحد إلا وله في هذا المال حق إلا ما ملكت أيمانكم .

وإنما صار الجمهور إلى أن المرأة لا يقسم لها ويرضخ بحديث أم عطية الثابت ، قالت : " كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنداوي الجرحى ، ونمرض المرضى ، وكان يرضخ لنا من الغنيمة " .

وسبب اختلافهم : هو اختلافهم في تشبيه المرأة بالرجل في كونها إذا غزت لها تأثير في الحرب أم لا ؟ [ ص: 322 ] فإنهم اتفقوا على أن النساء مباح لهن الغزو ، فمن شبههن بالرجال أوجب لهن نصيبا في الغنيمة ، ومن رآهن ناقصات عن الرجال في هذا المعنى : إما لم يوجب لهن شيئا ، وإما أوجب لهن دون حظ الغانمين ، وهو الإرضاخ ، والأولى اتباع الأثر ، وزعم الأوزاعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسهم للنساء بخيبر .

وكذلك اختلفوا في التجار والأجراء هل يسهم لهم أم لا ؟ فقال مالك : لا يسهم لهم إلا أن يقاتلوا . وقال قوم : بل يسهم إذا شهدوا القتال .

وسبب اختلافهم : هو تخصيص عموم قوله تعالى : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) بالقياس الذي يوجب الفرق بين هؤلاء وسائر الغانمين ، وذلك أن من رأى أن التجار ، والأجراء حكمهم حكم خلاف سائر المجاهدين ؛ لأنهم لم يقصدوا القتال ، وإنما قصدوا إما التجارة ، وإما الإجارة استثناهم من ذلك العموم . ومن رأى أن العموم أقوى من هذا القياس أجرى العموم على ظاهره .

ومن حجة من استثناهم ما خرجه عبد الرزاق أن عبد الرحمن بن عوف قال لرجل من فقراء المهاجرين أن يخرج معهم ، فقال : نعم ، فوعده ، فلما حضر الخروج دعاه فأبى أن يخرج معه ، واعتذر له بأمر عياله وأهله ، فأعطاه عبد الرحمن ثلاثة دنانير على أن يخرج معه ، فلما هزموا العدو سأل الرجل عبد الرحمن نصيبه من المغنم ، فقال عبد الرحمن : سأذكر أمرك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكره له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تلك الثلاثة دنانير حظه ونصيبه من غزوه في أمر دنياه وآخرته " . وخرج مثله أبو داود عن يعلى بن منبه .

ومن أجاز له القسم شبهه بالجعائل أيضا ، وهو أن يعين أهل الديوان بعضهم بعضا ، ( أعني : يعين القاعد منهم الغازي ) .

وقد اختلف العلماء في الجعائل ، فأجازها مالك ، ومنعها غيره ، ومنهم من أجاز ذلك من السلطان فقط ، أو إذا كانت ضرورة ، وبه قال أبو حنيفة ، والشافعي .

وأما الشرط الذي يجب به للمجاهد السهم من الغنيمة ، فإن الأكثر على أنه إذا شهد القتال وجب له السهم وإن لم يقاتل ، وأنه إذا جاء بعد القتال فليس له سهم في الغنيمة ، وبهذا قال الجمهور . وقال قوم : إذا لحقهم قبل أن يخرجوا إلى دار الإسلام وجب له حظه من الغنيمة إن اشتغل في شيء من أسبابها ، وهو قول أبي حنيفة .

والسبب في اختلافهم سببان : القياس والأثر .

أما القياس : فهو هل يلحق تأثير الغازي في الحفظ بتأثيره في الأخذ ؟ وذلك أن الذي شهد القتال له تأثير في الأخذ ( أعني : في أخذ الغنيمة ) وبذلك استحق السهم ، والذي جاء قبل أن يصلوا إلى بلاد المسلمين له تأثير في الحفظ ، فمن شبه التأثير في الحفظ بالتأثير في الأخذ قال : يجب له السهم وإن لم يحضر القتال ، ومن رأى أن الحفظ أضعف لم يوجب له .

وأما الأثر : فإن في ذلك أثرين متعارضين :

أحدهما : ما روي عن أبي هريرة : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبان بن سعيد على سرية من المدينة قبل نجد ، فقدم أبان وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر بعدما فتحوها ، فقال أبان : اقسم لنا يا رسول الله ، فلم يقسم له رسول الله صلى الله عليه وسلم منها " .

[ ص: 323 ] والأثر الثاني : ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : " إن عثمان انطلق في حاجة الله وحاجة رسوله ، فضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بسهم ولم يضرب لأحد غاب عنها " . قالوا : فوجب له السهم لأن اشتغاله كان بسبب الإمام . قال أبو بكر بن المنذر : وثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ( الغنيمة لمن شهد الوقيعة ) .

وأما السرايا التي تخرج من العساكر فتغنم : فالجمهور على أن أهل العسكر يشاركونهم فيما غنموا ، وإن لم يشهدوا الغنيمة ولا القتال ، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام : " وترد سراياهم على قعدتهم " خرجه أبو داود ، ولأن لهم تأثيرا أيضا في أخذ الغنيمة . وقال الحسن البصري : إذا خرجت السرية بإذن الإمام من عسكره خمسها وما بقي فلأهل السرية ، وإن خرجوا بغير إذنه خمسها ، وكان ما بقي بين أهل الجيش كله . وقال النخعي : الإمام بالخيار إن شاء خمس ما ترد السرية ، وإن شاء نفله كله .

والسبب أيضا في هذا الاختلاف : هو تشبيه تأثير العسكر في غنيمة السرية بتأثير من حضر القتال بها ، وهم أهل السرية ، فإذن الغنيمة إنما تجب عند الجمهور للمجاهد بأحد شرطين : إما أن يكون ممن حضر القتال ، وإما أن يكون ردءا لمن حضر القتال .

وأما كم يجب للمقاتل ؟ فإنهم اختلفوا في الفارس : فقال الجمهور : للفارس ثلاثة أسهم : سهم له ، وسهمان لفرسه . وقال أبو حنيفة : للفارس سهمان : سهم لفرسه ، وسهم له .

والسبب في اختلافهم : اختلاف الآثار ومعارضة القياس للأثر ، وذلك أن أبا داود خرج عن ابن عمر : " أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لرجل وفرسه ثلاثة أسهم : سهمان للفرس ، وسهم لراكبه " . وخرج أيضا عن مجمع بن جارية الأنصاري مثل قول أبي حنيفة .

وأما القياس المعارض لظاهر حديث ابن عمر : فهو أن يكون سهم الفرس أكبر من سهم الإنسان ، هذا الذي اعتمده أبو حنيفة في ترجيح الحديث الموافق لهذا القياس على الحديث المخالف له ، وهذا القياس ليس بشيء ، لأن سهم الفرس إنما استحقه الإنسان الذي هو الفارس بالفرس ، وغير بعيد أن يكون تأثير الفارس بالفرس في الحرب ثلاثة أضعاف تأثير الراجل ، بل لعله واجب ، مع أن حديث ابن عمر أثبت .

وأما ما يجوز للمجاهد أن يأخذ من الغنيمة قبل القسم : فإن المسلمين اتفقوا على تحريم الغلول لما ثبت في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثل قوله عليه الصلاة والسلام : " أد الخيط والمخيط ، فإن الغلول عار وشنار على أهله يوم القيامة " . إلى غير ذلك من الآثار الواردة في هذا الباب .

واختلفوا في إباحة الطعام للغزاة ما داموا في أرض الغزو : فأباح ذلك الجمهور ، ومنع من ذلك قوم ، وهو مذهب ابن شهاب .

والسبب في اختلافهم : معارضة الآثار التي جاءت في تحريم الغلول للآثار الواردة في إباحة أكل الطعام من حديث ابن عمر ، وابن المغفل وحديث ابن أبي أوفى . فمن خصص أحاديث تحريم الغلول بهذه أجاز أكل الطعام للغزاة ، ومن رجح أحاديث تحريم الغلول على هذا لم يجز ذلك .

وحديث ابن مغفل هو : قال : " أصبت جراب شحم يوم خيبر ، فقلت : لا أعطي منه شيئا ، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم " خرجه البخاري ومسلم .

[ ص: 324 ] وحديث ابن أبي أوفى قال : " كنا نصيب في مغازينا العسل والعنب فنأكله ولا ندفعه " خرجه أيضا البخاري .

واختلفوا في عقوبة الغال : فقال قوم : يحرق رحله ، وقال بعضهم : ليس له عقاب إلا التعزير .

وسبب اختلافهم : اختلافهم في تصحيح حديث صالح بن محمد بن زائدة ، عن سالم عن ابن عمر أنه قال : قال عليه الصلاة والسلام : " من غل فأحرقوا متاعه " .

التالي السابق


الخدمات العلمية