صفحة جزء
المسألة الأولى

[ نذر المعصية ]

اختلفوا فيمن نذر معصية : فقال مالك ، والشافعي وجمهور العلماء : ليس يلزمه في ذلك شيء . وقال أبو حنيفة ، وسفيان ، والكوفيون : بل هو لازم ، واللازم عندهم فيه هو كفارة يمين ، لا فعل المعصية .

وسبب اختلافهم : تعارض ظواهر الآثار في هذا الباب ، وذلك أنه روي في هذا الباب حديثان أحدهما : حديث عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : " من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه " . فظاهر هذا أنه لا يلزم النذر بالعصيان .

والحديث الثاني : حديث عمران بن حصين ، وحديث أبي هريرة الثابت عن النبي عليه الصلاة والسلام [ ص: 348 ] أنه قال " لا نذر في معصية الله ، وكفارته كفارة يمين " . وهذا نص في معنى اللزوم .

فمن جمع بينهما في هذا ، قال : الحديث الأول تضمن الإعلام بأن المعصية لا تلزم ، وهذا الثاني تضمن لزوم الكفارة . فمن رجح ظاهر حديث عائشة إذ لم يصح عنده حديث عمران وأبي هريرة قال : ليس يلزم في المعصية شيء . ومن ذهب مذهب الجمع بين الحديثين أوجب في ذلك كفارة يمين .

قال أبو عمر بن عبد البر : ضعف أهل الحديث حديث عمران ، وأبي هريرة قالوا : لأن حديث أبي هريرة يدور على سليمان بن أرقم ، وهو متروك الحديث ، وحديث عمران بن الحصين يدور على زهير بن محمد عن أبيه ، وأبوه مجهول لم يرو عنه غير ابنه ، وزهير أيضا عنده مناكير ، ولكنه خرجه مسلم من طريق عقبة بن عامر .

وقد جرت عادة المالكية أن يحتجوا لمالك في هذه المسألة بما روي : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا قائما في الشمس ، فقال : ما بال هذا ؟ قالوا : نذر أن لا يتكلم ولا يستظل ولا يجلس ، ويصوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مروه فليتكلم وليجلس وليتم صيامه " . قالوا : فأمره أن يتم ما كان طاعة لله ، ويترك ما كان معصية ، وليس بالظاهر أن ترك الكلام معصية ، وقد أخبر الله أنه نذر مريم ، وكذلك يشبه أن يكون القيام في الشمس ليس بمعصية ، إلا ما يتعلق بذلك من جهة إتعاب النفس ، فإن قيل : فيه معصية ، فبالقياس لا بالنص ، فالأصل فيه أنه من المباحات .

التالي السابق


الخدمات العلمية