صفحة جزء
[ حكم الخمر والأنبذة ]

وأما النبات الذي هو غذاء : فكله حلال ، إلا الخمر ، وسائر الأنبذة المتخذة من العصارات التي تتخمر ومن العسل نفسه .

أما الخمر : فإنهم اتفقوا على تحريم قليلها وكثيرها ( أعني : التي هي من عصير العنب ) .

وأما الأنبذة : فإنهم اختلفوا في القليل منها الذي لا يسكر ، وأجمعوا على أن المسكر منها حرام ، فقال جمهور فقهاء الحجاز وجمهور المحدثين : قليل الأنبذة وكثيرها المسكرة حرام . وقال العراقيون ( إبراهيم النخعي من التابعين وسفيان الثوري ، وابن أبي ليلى ، وشريك ، وابن شبرمة ، وأبو حنيفة وسائر فقهاء الكوفيين وأكثر علماء البصريين ) : إن المحرم من سائر الأنبذة المسكرة هو السكر نفسه لا العين .

وسبب اختلافهم : تعارض الآثار والأقيسة في هذا الباب ، فللحجازيين في تثبيت مذهبهم طريقتان :

الطريقة الأولى : الآثار الواردة في ذلك .

والطريقة الثانية : تسمية الأنبذة بأجمعها خمرا .

فمن أشهر الآثار التي تمسك بها أهل الحجاز ما رواه مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة أنها قالت : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع ، وعن نبيذ العسل ؟ فقال : كل شراب أسكر فهو حرام " خرجه البخاري . وقال يحيى بن معين : هذا أصح حديث روي عن النبي عليه الصلاة والسلام في تحريم المسكر .

[ ص: 389 ] ومنها أيضا : ما خرجه مسلم عن ابن عمر أن النبي عليه الصلاة والسلام قال : " كل مسكر خمر ، وكل خمر حرام " فهذان حديثان صحيحان . أما الأول : فاتفق الكل عليه . وأما الثاني : فانفرد بتصحيحه مسلم .

وخرج الترمذي ، وأبو داود ، والنسائي عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " . وهو نص في موضع الخلاف .

وأما الاستدلال الثاني من أن الأنبذة كلها تسمى خمرا : فلهم في ذلك طريقتان : إحداهما : من جهة إثبات الأسماء بطريق الاشتقاق ، والثاني من جهة السماع .

فأما التي من جهة الاشتقاق : فإنهم قالوا : إنه معلوم عند أهل اللغة أن الخمر إنما سميت خمرا لمخامرتها العقل ، فوجب لذلك أن ينطلق اسم الخمر لغة على كل ما خامر العقل . وهذه الطريقة من إثبات الأسماء فيها اختلاف بين الأصوليين ، وهي غير مرضية عند الخراسانيين .

وأما الطريقة الثانية التي من جهة السماع : فإنهم قالوا : إنه وإن لم يسلم لنا أن الأنبذة تسمى في اللغة خمرا فإنها تسمى خمرا شرعا ، واحتجوا في ذلك بحديث ابن عمر المتقدم ، وبما روي أيضا عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الخمر من هاتين الشجرتين : النخلة والعنبة " . وما روي أيضا عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن من العنب خمرا ، وإن من العسل خمرا ، ومن الزبيب خمرا ، ومن الحنطة خمرا وأنا أنهاكم عن كل مسكر " . فهذه هي عمدة الحجازيين في تحريم الأنبذة .

وأما الكوفيون : فإنهم تمسكوا لمذهبهم بظاهر قوله تعالى : ( ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا ) ، وبآثار رووها في هذا الباب ، وبالقياس المعنوي .

أما احتجاجهم بالآية : فإنهم قالوا : السكر هو المسكر ، ولو كان محرم العين لما سماه الله رزقا حسنا .

وأما الآثار التي اعتمدوها في هذا الباب : فمن أشهرها عندهم : حديث أبي عون الثقفي عن عبد الله بن شداد عن ابن عباس عن النبي عليه الصلاة والسلام قال : " حرمت عليكم الخمر لعينها والسكر من غيرها " وقالوا : هذا نص لا يحتمل التأويل ، وضعفه أهل الحجاز لأن بعض رواته روى " والمسكر من غيرها " .

ومنها : حديث شريك عن سماك بن حرب بإسناده عن أبي بردة بن نيار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إني كنت نهيتكم عن الشراب في الأوعية ، فاشربوا فيما بدا لكم ولا تسكروا " خرجها الطحاوي .

ورووا عن ابن مسعود أنه قال : شهدت تحريم النبيذ كما شهدتم ، ثم شهدت تحليله فحفظت ونسيتم .

ورووا عن أبي موسى قال " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا ومعاذا إلى اليمن ، فقلنا : يا رسول الله إن بها شرابين يصنعان من البر والشعير : أحدهما يقال له : المزر ، والآخر يقال له : البتع ، فما نشرب ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : اشربا ولا تسكرا " . خرجه الطحاوي أيضا . إلى غير ذلك من الآثار التي ذكروها في هذا الباب .

وأما احتجاجهم من جهة النظر : فإنهم قالوا : قد نص القرآن أن علة التحريم في الخمر إنما هي الصد عن ذكر الله ووقوع العداوة والبغضاء كما قال تعالى : إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة . وهذه العلة توجد في القدر المسكر لا فيما دون ذلك ، فوجب أن يكون ذلك القدر هو الحرام إلا ما انعقد عليه الإجماع من تحريم قليل الخمر وكثيرها ، قالوا : وهذا النوع من القياس يلحق بالنص ، وهو القياس الذي ينبه الشرع على العلة فيه .

[ ص: 390 ] وقال المتأخرون من أهل النظر : حجة الحجازيين من طريق السمع أقوى ، وحجة العراقيين من طريق القياس أظهر . وإذا كان هذا كما قالوا فيرجع الخلاف إلى اختلافهم في تغليب الأثر على القياس ، أو تغليب القياس على الأثر إذا تعارضا ، وهي مسألة مختلف فيها ، لكن الحق أن الأثر إذا كان نصا ثابتا ، فالواجب أن يغلب على القياس . وأما إذا كان ظاهر اللفظ محتملا للتأويل فهنا يتردد النظر ، هل يجمع بينهما بأن يتأول اللفظ ; أو يغلب ظاهر اللفظ على مقتضى القياس ؟ وذلك مختلف بحسب قوة لفظ من الألفاظ الظاهرة ، وقوة قياس من القياسات التي تقابلها ولا يدرك الفرق بينهما إلا بالذوق العقلي كما يدرك الموزون من الكلام من غير الموزون ، وربما كان الذوقان على التساوي ; ولذلك كثر الاختلاف في هذا النوع حتى قال كثير من الناس : كل مجتهد مصيب .

قال القاضي : والذي يظهر لي والله أعلم أن قوله عليه الصلاة والسلام : " كل مسكر حرام " ; وإن كان يحتمل أن يراد به القدر المسكر لا الجنس المسكر ، فإن ظهوره في تعليق التحريم بالجنس أغلب على الظن من تعليقه بالقدر ، لمكان معارضة ذلك القياس له على ما تأوله الكوفيون ، فإنه لا يبعد أن يحرم الشارع قليل المسكر وكثيره سدا للذريعة وتغليظا ، مع أن الضرر إنما يوجد في الكثير ، وقد ثبت من حال الشرع بالإجماع أنه اعتبر في الخمر الجنس دون القدر الواجب ، فوجب كل ما وجدت فيه علة الخمر أن يلحق بالخمر ، وأن يكون على من زعم وجود الفرق إقامة الدليل على ذلك ، هذا إن لم يسلموا لنا صحة قوله عليه الصلاة والسلام : " ما أسكر كثيره فقليله حرام " . فإنهم إن سلموه لم يجدوا انفكاكا فإنه نص في موضع الخلاف ، ولا يصح أن تعارض النصوص بالمقاييس .

وأيضا فإن الشرع قد أخبر أن في الخمر مضرة ومنفعة ، فقال تعالى : قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس ، وكان القياس إذا قصد الجمع بين انتقاء المضرة ووجود المنفعة أن يحرم كثيرها ويحلل قليلها ; فلما غلب الشرع حكم المضرة على المنفعة في الخمر ، ومنع القليل منها والكثير ; وجب أن يكون الأمر كذلك في كل ما يوجد فيه علة تحريم الخمر ، إلا أن يثبت في ذلك فارق شرعي .

واتفقوا على أن الانتباذ حلال ما لم تحدث فيه الشدة المطربة الخمرية لقوله عليه الصلاة والسلام : " فانتبذوا وكل مسكر حرام " . ولما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام : " أنه كان ينتبذ ، وأنه كان يريقه في اليوم الثاني أو الثالث " .

واختلفوا في ذلك في مسألتين :

إحداهما : في الأواني التي ينتبذ فيها .

والثانية : في انتباذ شيئين ، مثل البسر والرطب ، والتمر والزبيب .

التالي السابق


الخدمات العلمية