صفحة جزء
[ الموضع الثالث ]

[ في حكم من طلق في الحيض ]

- وأما الموضع الثالث ( في حكم من طلق في وقت الحيض ) : فإن الناس اختلفوا في ذلك في مواضع : منها : أن الجمهور قالوا : يمضي طلاقه . وقالت فرقة : لا ينفذ ولا يقع .

والذين قالوا : ينفذ قالوا : يؤمر بالرجعة . وهؤلاء افترقوا فرقتين : فقوم رأوا أن ذلك واجب وأنه يجبر [ ص: 446 ] على ذلك ، وبه قال مالك وأصحابه . وقالت فرقة بل يندب إلى ذلك ولا يجبر ، وبه قال الشافعي ، وأبو حنيفة ، والثوري ، وأحمد .

والذين أوجبوا الإجبار اختلفوا في الزمان الذي يقع فيه الإجبار : فقال مالك وأكثر أصحابه ابن القاسم وغيره : يجبر ما لم تنقض عدتها . وقال أشهب : لا يجبر إلا في الحيضة الأولى .

والذين قالوا بالأمر بالرجعة اختلفوا متى يوقع الطلاق بعد الرجعة إن شاء ، فقوم اشترطوا في الرجعة أن يمسكها حتى تطهر من تلك الحيضة ثم تحيض ثم تطهر ، ثم إن شاء طلقها وإن شاء أمسكها ، وبه قال مالك ، والشافعي ، وجماعة . وقوم قالوا : بل يراجعها ، فإذا طهرت من تلك الحيضة التي طلقها فيها : فإن شاء أمسك وإن شاء طلق ، وبه قال أبو حنيفة والكوفيون . وكل من اشترط في طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يمسها فيه لم ير الأمر بالرجعة إذا طلقها في طهر مسها فيه .

فهنا إذا أربع مسائل :

أحدها : هل يقع الطلاق أم لا ؟ .

والثانية : إن وقع فهل يجبر على الرجعة أم يؤمر فقط ؟ .

والثالثة : متى يوقع الطلاق بعد الإجبار أو الندب ؟ .

والرابعة : متى يقع الإجبار .

[ المسألة الأولى ]

[ هل يقع الطلاق في الحيض ؟ ]

أما المسألة الأولى : فإن الجمهور إنما صاروا إلى أن الطلاق إن وقع في الحيض اعتد به ، وكان طلاقا ، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر : " مره فليراجعها " . قالوا : والرجعة لا تكون إلا بعد طلاق ، وروى الشافعي عن مسلم بن خالد عن ابن جريج : " أنهم أرسلوا إلى نافع يسألونه هل حسبت تطليقة ابن عمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم " . وروي أنه الذي كان يفتي به ابن عمر .

وأما من لم ير هذا الطلاق واقعا فإنه اعتمد عموم قوله صلى الله عليه وسلم : " كل فعل أو عمل ليس عليه أمرنا فهو رد " . وقالوا : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برده يشعر بعدم نفوذه ووقوعه .

وبالجملة فسبب الاختلاف : هل الشروط التي اشترطها الشرع في الطلاق السني هي شروط صحة وإجزاء ، أم شروط كمال وتمام ؟ .

فمن قال : شروط إجزاء قال : لا يقع الطلاق الذي عدم هذه الصفة . ومن قال : شروط كمال وتمام قال : يقع ، ويندب إلى أن يقع كاملا ، ولذلك من قال بوقوع الطلاق وجبره على الرجعة فقد تناقض ، فتدبر ذلك .

[ المسألة الثانية ]

[ إن وقع الطلاق في الحيض هل يجبر على الرجعة ؟ ]

وأما المسألة الثانية ( وهي هل يجبر على الرجعة أو لا يجبر ؟ ) : فمن اعتمد ظاهر الأمر - وهو الوجوب [ ص: 447 ] على ما هو عليه عند الجمهور - قال : يجبر . ومن لحظ هذا المعنى الذي قلناه من كون الطلاق واقعا قال : هذا الأمر هو على الندب .

[ المسألة الثالثة ]

[ متى يوقع الطلاق بعد الإجبار ؟ ]

وأما المسألة الثالثة ( وهي : متى يوقع الطلاق بعد الإجبار ) : فإن من اشترط في ذلك أن يمسكها حتى تطهر ، ثم تحيض ، ثم تطهر ، فإنما صار لذلك لأنه المنصوص عليه في حديث ابن عمر المتقدم ، قالوا : والمعنى في ذلك لتصح الرجعة بالوطء في الطهر الذي بعد الحيض ، لأنه لو طلقها في الطهر الذي بعد الحيضة لم يكن عليها من الطلاق الآخر عدة لأنه كان يكون كالمطلق قبل الدخول .

وبالجملة فقالوا : إن من شرط الرجعة وجود زمان يصح فيه الوطء ، وعلى هذا التعليل يكون من شروط طلاق السنة أن يطلقها في طهر لم يطلق في الحيضة التي قبله ، وهو أحد الشروط المشترطة عند مالك في طلاق السنة فيما ذكره عبد الوهاب .

وأما الذين لم يشترطوا ذلك ، فإنهم صاروا إلى ما روى يونس بن جبير وسعيد بن جبير ، وابن سيرين ومن تابعهم عن ابن عمر في هذا الحديث أنه قال : " يراجعها ، فإذا طهرت طلقها إن شاء " . وقالوا : المعنى في ذلك : أنه إنما أمر بالرجوع عقوبة له ، لأنه طلق في زمان كره له فيه الطلاق ، فإذا ذهب ذلك الزمان وقع منه الطلاق على وجه غير مكروه .

فسبب اختلافهم : تعارض الآثار في هذه المسألة ، وتعارض مفهوم العلة .

[ المسألة الرابعة ]

[ متى يجبر على الرجعة ؟ ]

وأما المسألة الرابعة ( وهي : متى يجبر ) : فإنما ذهب مالك إلى أنه يجبر على رجعتها لطول زمان العدة لأنه الزمان الذي له فيه ارتجاعها . وأما أشهب فإنه إنما صار في هذا إلى ظاهر الحديث ، لأن فيه : " مره فليراجعها حتى تطهر " . فدل ذلك على أن المراجعة كانت في الحيضة ، وأيضا فإنه قال : إنما أمر بمراجعتها لئلا تطول عليها العدة ، فإنه إذا وقع عليها الطلاق في الحيضة لم تعتد بها بإجماع ، فإن قلنا : إنه يراجعها في غير الحيضة كان ذلك عليها أطول ، وعلى هذا التعليل فينبغي أن يجوز إيقاع الطلاق في الطهر الذي بعد الحيضة .

فسبب الاختلاف : هو سبب اختلافهم في علة الأمر بالرد .

التالي السابق


الخدمات العلمية