صفحة جزء
[ ص: 494 ] كتاب الإحداد

أجمع المسلمون على أن الإحداد واجب على النساء الحرائر المسلمات في عدة الوفاة إلا الحسن وحده . واختلفوا فيما سوى ذلك من الزوجات وفيما سوى عدة الوفاة ، وفيما تمتنع الحادة منه مما لا تمتنع ، فقال مالك : الإحداد على المسلمة ، والكتابية والصغيرة ، والكبيرة . وأما الأمة يموت عنها سيدها سواء كانت أم ولد أم لم تكن فلا إحداد عليها عنده ، وبه قال فقهاء الأمصار ، وخالف قول مالك المشهور في الكتابية ابن نافع وأشهب ، وروياه عن مالك ، وبه قال الشافعي ( أعني : أنه لا إحداد على الكتابية ) ; وقال أبو حنيفة : ليس على الصغيرة ، ولا على الكتابية إحداد; وقال قوم : ليس على الأمة المزوجة إحداد ، وقد حكي ذلك عن أبي حنيفة ، فهذا هو اختلافهم المشهور فيمن عليه إحداد من أصناف الزوجات ممن ليس عليه إحداد .

وأما اختلافهم من قبل العدد فإن مالكا قال : لا إحداد إلا في عدة الوفاة . وقال أبو حنيفة ، والثوري : الإحداد في العدة من الطلاق البائن واجب; وأما الشافعي فاستحسنه للمطلقة ، ولم يوجبه .

وأما الفصل الثالث وهو ما تمتنع الحادة منه مما لا تمتنع عنه ، فإنها تمتنع عند الفقهاء بالجملة من الزينة الداعية للرجال إلى النساء ، وذلك كالحلي والكحل إلا ما لم تكن فيه زينة ولباس الثياب المصبوغة إلا السواد ، فإنه لم يكره مالك لها لبس السواد ، ورخص كلهم في الكحل عند الضرورة ، فبعضهم اشترط فيه ما لم يكن فيه زينة ، وبعضهم لم يشترطه ، وبعضهم اشترط جعله بالليل دون النهار . وبالجملة فأقاويل الفقهاء فيما تجتنب الحادة متقاربة ، وذلك ما يحرك الرجال بالجملة إليهن . وإنما صار الجمهور لإيجاب الإحداد في الجملة لثبوت السنة بذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنها حديث أم سلمة زوج النبي - عليه الصلاة والسلام : " أن امرأة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ، إن ابنتي توفي عنها زوجها ، وقد اشتكت عينيها أفتكتحلهما ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " لا " ، مرتين ، أو ثلاثا ، كل ذلك يقول لها : " لا " ، ثم قال : " إنما هي أربعة أشهر وعشر ، وقد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول " ، وقال أبو محمد : فعلى هذا الحديث يجب التعويل على القول بإيجاب الإحداد . وأما حديث أم حبيبة حين دعت بالطيب فمسحت به عارضيها ، ثم قالت : والله مالي به من حاجة غير أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول " لا يحل لامرأة مؤمنة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا " ، فليس فيه حجة ، لأنه استثناء من حظر فهو يقتضي الإباحة دون الإيجاب . وكذلك حديث زينب بنت جحش . قال القاضي : وفي الأمر إذا ورد بعد الحظر خلاف بين المتكلمين ( أعني : هل يقتضي الوجوب أو الإباحة ؟ ) . وسبب الخلاف بين من أوجبه على المسلمة دون الكافرة أن من رأى أن الإحداد عبادة لم يلزمه [ ص: 495 ] الكافرة; ومن رأى أنه معنى معقول ، وهو تشوف الرجال إليها وهي إلى الرجال ، سوى بين الكافرة والمسلمة; ومن راعى تشوف الرجال دون تشوف النساء فرق بين الصغيرة والكبيرة إذا كانت الصغيرة لا يتشوف الرجال إليها .

ومن حجة من أوجبه على المسلمات دون الكافرات : قوله عليه الصلاة والسلام : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد إلا على زوج " ، قال : وشرطه الإيمان في الإحداد يقتضي أنه عبادة .

وأما من فرق بين الأمة والحرة وكذلك الكتابية ، فلأنه زعم أن عدة الوفاة أوجبت شيئين باتفاق : أحدهما الإحداد ، والثاني ترك الخروج ، فلما سقط ترك الخروج عن الأمة بتبذلها والحاجة إلى استخدامها سقط عنها منع الزينة . وأما اختلافهم في المكاتبة فمن قبل ترددها بين الحرة والأمة . وأما الأمة بملك اليمين وأم الولد ، فإنما صار الجمهور إلى إسقاط الإحداد عنها لقوله عليه الصلاة والسلام : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد إلا على زوج " فعلم بدليل الخطاب أن من عدا ذات الزوج لا يجب عليها إحداد .

ومن أوجبه على المتوفى عنها زوجها دون المطلقة فتعلق بالظاهر المنطوق به ، ومن ألحق المطلقات بهن فمن طريق المعنى ، وذلك أنه يظهر من معنى الإحداد أن المقصود به أن لا تتشوف إليها الرجال في العدة ولا تتشوف هي إليهم ، وذلك سدا للذريعة لمكان حفظ الأنساب ، والله أعلم . كمل كتاب الطلاق ، والحمد لله على آلائه ، والشكر على نعمه ; ويتلوه كتاب البيوع إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية