صفحة جزء
الباب الثالث [ في البيوع المنهي عنها بسبب الغرر ]

وهي البيوع المنهي عنها من قبل الغبن الذي سببه الغرر ، والغرر يوجد في المبيعات من جهة الجهل على أوجه : إما من جهة الجهل بتعيين المعقود عليه ، أو تعيين العقد ، أو من جهة الجهل بوصف الثمن والمثمون المبيع ، أو بقدره ، أو بأجله إن كان هنالك أجل ، وإما من جهة الجهل بوجوده ، أو تعذر القدرة عليه ، وهذا راجع إلى تعذر التسليم ، وإما من جهة الجهل بسلامته ( أعني : بقاءه ) ، وهاهنا بيوع تجمع أكثر هذه أو بعضها .

ومن البيوع التي توجد فيها هذه الضروب من الغرر : بيوع منطوق بها ، وبيوع مسكوت عنها ، والمنطوق به أكثره متفق عليه ، وإنما يختلف في شرح أسمائها ، والمسكوت عنه مختلف فيه . ونحن نذكر أولا المنطوق به في الشرع ، وما يتعلق به من الفقه ، ثم نذكر بعد ذلك من المسكوت عنه ما شهر الخلاف فيه بين فقهاء الأمصار ليكون كالقانون في نفس الفقه ( أعني : في رد الفروع إلى الأصول ) .

[ 1 - البيوع المنطوق بها أو المسموعة ]

فأما المنطوق به في الشرع فمنه : نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة ، ومنها : نهيه عن بيع ما لم يخلق ، [ ص: 515 ] وعن بيع الثمار حتى تزهي ، وعن بيع الملامسة ، والمنابذة ، وعن بيع الحصاة ، ومنها : نهيه عن المعاومة ، وعن بيعتين في بيعة ، وعن بيع وشرط ، وعن بيع ، وسلف ، وعن بيع السنبل حتى يبيض ، والعنب حتى يسود ، ونهيه عن المضامين ، والملاقيح .

أما بيع الملامسة : فكانت صورته في الجاهلية أن يلمس الرجل الثوب ولا ينشره ، أو يبتاعه ليلا ، ولا يعلم ما فيه ، وهذا مجمع على تحريمه ، وسبب تحريمه الجهل بالصفة .

وأما بيع المنابذة : فكان أن ينبذ كل واحد من المتبايعين إلى صاحبه الثوب من غير أن يعين أن هذا بهذا ، بل كانوا يجعلون ذلك راجعا إلى الاتفاق .

وأما بيع الحصاة : فكانت صورته عندهم أن يقول المشتري : أي ثوب وقعت عليه الحصاة التي أرمي بها فهو لي ، وقيل أيضا إنهم كانوا يقولون : إذا وقعت الحصاة من يدي فقد وجب البيع وهذا قمار .

وأما بيع حبل الحبلة : ففيه تأويلان : أحدهما أنها كانت بيوعا يؤجلونها إلى أن تنتج الناقة ما في بطنها ، ثم ينتج ما في بطنها ، والغرر من جهة الأجل في هذا بين; وقيل إنما هو بيع جنين الناقة ، وهذا من باب النهي عن بيع المضامين ، والملاقيح . ( والمضامين : هي ما في بطون الحوامل ، والملاقيح : ما في ظهور الفحول ) ، فهذه كلها بيوع جاهلية متفق على تحريمها ، وهي محرمة من تلك الأوجه التي ذكرناها .

وأما بيع الثمار : فإنه ثبت عنه عليه الصلاة والسلام " أنه نهى عن بيعها حتى يبدو صلاحها وحتى تزهي " . ويتعلق بذلك مسائل مشهورة نذكر منها نحن عيونها . وذلك أن بيع الثمار لا يخلو أن تكون قبل أن تخلق أو بعد أن تخلق ، ثم إذا خلقت لا يخلو أن تكون بعد الصرام أو قبله ، ثم إذا كان قبل الصرام فلا يخلو أن تكون قبل أن تزهي أو بعد أن تزهي ، وكل واحد من هذين لا يخلو أن يكون بيعا مطلقا أو بشرط التبقية ، أو بشرط القطع .

أما القسم الأول ( وهو بيع الثمار قبل أن تخلق ) : فجميع العلماء مطبقون على منع ذلك ، لأنه من باب النهي عن بيع ما لم يخلق ، ومن باب بيع السنين والمعاومة . وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام " أنه نهى عن بيع السنين ، وعن بيع المعاومة " ، وهي بيع الشجر أعواما . إلا ما روي عن عمر بن الخطاب ، وابن الزبير أنهما كانا يجيزان بيع الثمار سنين . وأما بيعها بعد الصرام : فلا خلاف في جوازه . وأما بيعها بعد أن خلقت : فأكثر العلماء على جواز ذلك على التفصيل الذي نذكره ، إلا ما روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، وعن عكرمة أنه لا يجوز إلا بعد الصرام ، فإذا قلنا بقول الجمهور إنه يجوز قبل الصرام ، فلا يخلو أن تكون بعد أن تزهي أو قبل أن تزهي ، وقد قلنا إن ذلك لا يخلو أن يكون بيعا مطلقا ، أو بيعا بشرط القطع ، أو بشرط التبقية . فأما بيعها قبل الزهو بشرط القطع : فلا خلاف في جوازه إلا ما روي عن الثوري ، وابن أبي ليلى من منع ذلك ، وهي رواية ضعيفة . وأما بيعها قبل الزهو بشرط التبقية : فلا خلاف في أنه لا يجوز إلا ما ذكره اللخمي من جوازه تخريجا على المذهب . [ ص: 516 ] وأما بيعها قبل الزهو مطلقا : فاختلف في ذلك فقهاء الأمصار ، فجمهورهم على أنه لا يجوز : مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، والليث ، والثوري ، وغيرهم . وقال أبو حنيفة : يجوز ذلك إلا أنه يلزم المشتري عنده فيه القطع لا من جهة ما هو بيع ما لم يره بل من جهة أن ذلك شرط عنده في بيع الثمر على ما سيأتي بعد .

أما دليل الجمهور على منع بيعها مطلقا قبل الزهو ، فالحديث الثابت عن ابن عمر " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، نهى البائع والمشتري " فعلم أن ما بعد الغاية بخلاف ما قبل الغاية ، وأن هذا النهي يتناول البيع المطلق بشرط التبقية ، ولما ظهر للجمهور أن المعنى في هذا خوف ما يصيب الثمار الجائحة غالبا قبل أن تزهي لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أنس بن مالك بعد نهيه عن بيع الثمرة قبل الزهو " أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه ؟ " لم يحمل العلماء النهي في هذا على الإطلاق ( أعني : النهي عن البيع قبل الإزهاء ) بل رأى أن معنى النهي هو بيعه بشرط التبقية إلى الإزهاء ، فأجازوا بيعها قبل الإزهاء بشرط القطع .

واختلفوا إذا ورد البيع مطلقا في هذه الحال : هل يحمل على القطع وهو الجائز ، أو على التبقية الممنوعة ؟ فمن حمل الإطلاق على التبقية ، أو رأى أن النهي يتناوله بعمومه قال : لا يجوز; ومن حمله على القطع قال : يجوز ، والمشهور عن مالك أن الإطلاق محمول على التبقية ، وقد قيل عنه إنه محمول على القطع . وأما الكوفيون فحجتهم في بيع الثمار مطلقا قبل أن تزهي حديث ابن عمر الثابت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " من باع نخلا قد أبرت فثمرتها للبائع إلا أن يشترطها المبتاع " ، قالوا : فلما جاز أن يشترطه المبتاع جاز بيعه مفردا ، وحملوا الحديث الوارد بالنهي عن بيع الثمار قبل أن تزهي على الندب ، واحتجوا لذلك بما روي عن زيد بن ثابت قال : " كان الناس في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبايعون الثمار قبل أن يبدو صلاحها ، فإذا جد الناس وحضر تقاضيهم قال المبتاع : أصاب الثمر الزمان ، أصابه ما أضر به قشام ومراض ( لعاهات يذكرونها ) ، فلما كثرت خصومتهم عند النبي قال كالمشورة يشير بها عليهم : لا تبيعوا الثمر حتى يبدو صلاحها " ، وربما قالوا : إن المعنى الذي دل عليه الحديث في قوله : " حتى يبدو صلاحه " هو ظهور الثمرة بدليل قوله عليه الصلاة والسلام : " أرأيت إن منع الله الثمرة فبم يأخذ أحدكم مال أخيه ؟ " . وقد كان يجب على من قال من الكوفيين بهذا القول ، ولم يكن يرى رأي أبي حنيفة في أن من ضرورة بيع الثمار القطع أن يجيز بيع الثمر قبل بدو صلاحها على شرط التبقية ، فالجمهور يحملون جواز بيع الثمار بالشرط قبل الإزهاء على الخصوص ( أعني : إذا بيع الثمر مع الأصل ) . وأما شراء الثمر مطلقا بعد الزهو فلا خلاف فيه ، والإطلاق فيه عند جمهور فقهاء الأمصار يقتضي التبقية ، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام : " أرأيت إن منع الله الثمرة " الحديث . ووجه الدليل منه أن الجوائح إنما تطرأ في الأكثر على الثمار قبل بدو الصلاح ، وأما بعد بدو الصلاح فلا تظهر إلا قليلا ، ولو لم يجب في المبيع بشرط التبقية لم يكن هنالك جائحة تتوقع ، وكان هذا الشرط باطلا .

وأما الحنفية فلا يجوز عندهم بيع الثمر بشرط التبقية ، والإطلاق عندهم كما قلنا محمول على القطع ، [ ص: 517 ] وهو خلاف مفهوم الحديث ، وحجتهم أن نفس بيع الشيء يقتضي تسليمه وإلا لحقه الغرر ، ولذلك لم يجز أن تباع الأعيان إلى أجل . والجمهور على أن بيع الثمار مستثنى من بيع الأعيان إلى أجل ، لكون الثمر ليس يمكن أن ييبس كله دفعة ، فالكوفيون خالفوا الجمهور في بيع الثمار في موضعين : أحدهما : في جواز بيعها قبل أن تزهي . والثاني : في منع تبقيتها بالشرط بعد الإزهاء ، أو بمطلق العقد ، وخلافهم في الموضع الأول أقوى من خلافهم في الموضع الثاني ( أعني : في شرط القطع وإن أزهي ) ، وإنما كان خلافهم في الموضع الأول أقرب ، لأنه من باب الجمع بين حديثي ابن عمر المتقدمين ، لأن ذلك أيضا مروي عن عمر بن الخطاب ، وابن الزبير .

وأما بدو الصلاح الذي جوز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيع بعده ، فهو أن يصفر فيه البسر ، ويسود فيه العنب إن كان مما يسود ، وبالجملة أن تظهر في الثمر صفة الطيب ، هذا هو قول جماعة فقهاء الأمصار لما رواه مالك ، عن حميد ، عن أنس " أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن قوله حتى يزهي ، فقال : حتى يحمر " ، وروي عنه عليه الصلاة والسلام : " أنه نهى عن بيع العنب حتى يسود ، والحب حتى يشتد " ، وكان زيد بن ثابت في رواية مالك عنه لا يبيع ثماره حتى تطلع الثريا ، وذلك لاثنتي عشرة ليلة خلت من أيار وهو مايو ، وهو قول ابن عمر أيضا " سئل عن قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنه نهى عن بيع الثمار حتى تنجو من العاهات ، فقال عبد الله بن عمر : ذلك وقت طلوع الثريا " وروي عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا طلع النجم صباحا رفعت العاهات عن أهل البلد " ، وروى ابن القاسم ، عن مالك أنه لا بأس أن يباع الحائط ، وإن لم يزه إذا أزهى ما حوله من الحيطان إذا كان الزمان قد أمنت فيه العاهة ، يريد - والله أعلم - طلوع الثريا ، إلا أن المشهور عنه أنه لا يباع حائط حتى يبدو فيه الزهو ، وقد قيل إنه لا يعتبر مع الإزهاء طلوع الثريا . فالمحصل في بدو الصلاح للعلماء ثلاثة أقوال : قول : إنه الإزهاء ، وهو المشهور ، وقول : إنه طلوع الثريا ، وإن لم يكن في الحائط في حين البيع إزهاء; وقول : الأمران جميعا . وعلى المشهور من اعتبار الإزهاء ، يقول مالك إنه إذا كان في الحائط الواحد بعينه أجناس من الثمر مختلفة الطيب لم يبع كل صنف منها إلا بظهور الطيب فيه ، وخالفه في ذلك الليث . وأما الأنواع المتقاربة الطيب فيجوز عنده بيع بعضها بطيب البعض ، وبدو الصلاح المعتبر عن مالك في الصنف الواحد من الثمر هو وجود الإزهاء في بعضه لا في كله إذا لم يكن ذلك الإزهاء مبكرا في بعضه تبكيرا يتراخى عنه البعض بل إذا كان متتابعا ، لأن الوقت الذي تنجو الثمرة فيه في الغالب من العاهات هو إذا بدأ الطيب في الثمرة ابتداء متناسقا غير منقطع . وعند مالك أنه إذا بدأ الطيب في نخلة بستان جاز بيعه وبيع البساتين المجاورة له إذا كان نخل البساتين من جنس واحد . وقال الشافعي : لا يجوز إلا بيع نخل البستان الذي يظهر فيه الطيب فقط . ومالك اعتبر الوقت الذي تؤمن فيه العاهة إذا كان الوقت واحدا للنوع الواحد . والشافعي اعتبر نقصان خلقة الثمر ، وذلك أنه إذا لم يطب كان من بيع ما لم يخلق ، وذلك أن صفة الطيب [ ص: 518 ] فيه وهي مشتراة لم تخلق بعد ، لكن هذا كما قال لا يشترط في كل الثمرة بل في بعض ثمرة جنة واحدة ، وهذا لم يقل به أحد ، فهذا هو مشهور ما اختلفوا فيه من بيع الثمار .

ومن المسموع الذي اختلفوا فيه من هذا الباب ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام من النهي عن بيع السنبل حتى يبيض ، والعنب حتى يسود ، وذلك أن العلماء اتفقوا على أنه لا يجوز بيع الحنطة في سنبلها دون السنبل ، لأنه بيع ما لم تعلم صفته ولا كثرته . واختلفوا في بيع السنبل نفسه مع الحب ، فجوز ذلك جمهور العلماء : مالك ، وأبو حنيفة ، وأهل المدينة ، وأهل الكوفة ; وقال الشافعي : لا يجوز بيع السنبل نفسه وإن اشتد ، لأنه من باب الغرر ، وقياسا على بيعه مخلوطا بتبنه بعد الدرس . وحجة الجمهور شيئان : الأثر والقياس : فأما الأثر فما روي ، عن نافع ، عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع النخيل حتى تزهي ، وعن السنبل حتى تبيض ، وتأمن العاهة ، نهى البائع والمشتري " وهي زيادة على ما رواه مالك من هذا الحديث ، والزيادة إذا كانت من الثقة مقبولة وروي عن الشافعي أنه لما وصلته هذه الزيادة رجع عن قوله ، وذلك أنه لا يصح عنده قياس مع وجود الحديث . وأما بيع السنبل إذا أفرك ولم يشتد فلا يجوز عند مالك إلا على القطع . وأما بيع السنبل غير محصود ، فقيل عن مالك يجوز ، وقيل لا يجوز ، إلا إذا كان في حزمه . وأما بيعه في تبنه بعد الدرس فلا يجوز بلا خلاف فيما أحسب ، هذا إذا كان جزافا ، فأما إذا كان مكيلا فجائز عند مالك ، ولا أعرف فيه قولا لغيره .

واختلف الذين أجازوا بيع السنبل إذا طاب على من يكون حصاده ودرسه; فقال الكوفيون : على البائع حتى يعمله حبا للمشتري; وقال غيرهم : هو على المشتري . ومن هذا الباب ما ثبت " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيعتين في بيعة " ، وذلك من حديث ابن عمر ، وحديث ابن مسعود ، وأبي هريرة ، قال أبو عمر : وكلها من نقل العدول ، فاتفق الفقهاء على القول بموجب هذا الحديث عموما; واختلفوا في التفصيل ، ( أعني : في الصورة التي ينطلق عليها الاسم من التي لا ينطلق عليها ) ، واتفقوا أيضا على بعضها ، وذلك يتصور على ثلاثة وجوه : أحدها إما في مثمونين بثمنين ، أو مثمون واحد بثمنين ، أو مثمونين بثمن واحد على أن أحد البيعين قد لزم .

أما في مثمونين بثمنين ، فإن ذلك يتصور على وجهين : أحدهما أن يقول له : أبيعك هذه السلعة بثمن كذا على أن تبيعني هذه الدار بثمن كذا; والثاني أن يقول له : أبيعك هذه السلعة بدينار أو هذه الأخرى بدينارين .

وأما بيع مثمون واحد بثمنين ، فإن ذلك يتصور أيضا على وجهين : أحدهما أن يكون أحد الثمنين نقدا والآخر نسيئة ، مثل أن يقول له : أبيعك هذا الثوب نقدا بثمن كذا على أن أشتريه منك إلى أجل كذا بثمن كذا .

وأما مثمونان بثمن واحد ، فمثل أن يقول له : أبيعك أحد هذين بثمن كذا .

[ ص: 519 ] فأما الوجه الأول ، وهو أن يقول له : أبيعك هذه الدار بكذا على أن تبيعني هذا الغلام بكذا ، فنص الشافعي على أنه لا يجوز ، لأن الثمن في كليهما يكون مجهولا ، لأنه لو أفرد المبيعين لم يتفقا في كل واحد منهما على الثمن الذي اتفقا عليه في المبيعين في عقد واحد . وأصل الشافعي في رد بيعتين في بيعة إنما هو جهل الثمن ، أو المثمون .

وأما الوجه الثاني ، وهو أن يقول : أبيعك هذه السلعة بدينار أو هذه الأخرى بدينارين على أن البيع قد لزم في أحدهما فلا يجوز عند الجميع ، وسواء كان النقد واحدا أو مختلفا; وخالف عبد العزيز بن أبي سلمة في ذلك ، فأجازه إذا كان النقد واحدا أو مختلفا ، وعلة منعه عند الجميع الجهل; وعند مالك من باب سد الذرائع لأنه ممكن أن يختار في نفسه أحد الثوبين ، فيكون قد باع ثوبا ودينارا بثوب ودينار ، وذلك لا يجوز على أصل مالك .

وأما الوجه الثالث ، وهو أن يقول له : أبيعك هذا الثوب نقدا بكذا أو نسيئة بكذا ، فهذا إذا كان البيع فيه واجبا فلا خلاف في أنه لا يجوز ، وأما إذا لم يكن البيع لازما في أحدهما فأجازه مالك ، ومنعه أبو حنيفة ، والشافعي ، لأنهما افترقا على ثمن غير معلوم; وجعله مالك من باب الخيار ، لأنه إذا كان عنده على الخيار لم يتصور فيه ندم يوجب تحويل أحد الثمنين في الآخر ، وهذا عند مالك هو المانع ، فعلة امتناع هذا الوجه الثالث عند الشافعي ، وأبي حنيفة من جهة جهل الثمن ، فهو عندهما من بيوع الغرر التي نهي عنها; وعلة امتناعه عند مالك سد الذريعة الموجبة للربا لإمكان أن يكون الذي له الخيار قد اختار أولا إنفاذ العقد بأحد الثمنين المؤجل أو المعجل ثم بدا له ولم يظهر ذلك ، فيكون قد ترك أحد الثمنين للثمن الثاني ، فكأنه باع أحد الثمنين بالثاني ، فيدخله ثمن بثمن نسيئة ، أو نسيئة ومتفاضلا ، وهذا كله إذا كان الثمن نقدا ، وإن كان الثمن غير نقد بل طعاما دخله وجه آخر ، وهو بيع الطعام بالطعام متفاضلا .

وأما إذا قال : أشتري منك هذا الثوب نقدا بكذا على أن تبيعه مني إلى أجل ، فهو عندهم لا يجوز بإجماع ، لأنه من باب العينة ( وهو بيع الرجل ما ليس عنده ) ، ويدخله أيضا علة جهل الثمن .

وأما إذا قال له : أبيعك أحد هذين الثوبين بدينار ، وقد لزمه أحدهما أيهما اختار ، وافترقا قبل الخيار ، فإن كان الثوبان من صنفين وهما مما يجوز أن يسلم أحدهما في الثاني فإنه لا خلاف بين مالك ، والشافعي في أنه لا يجوز; وقال عبد العزيز بن أبي سلمة : إنه يجوز ، وعلة المنع الجهل ، والغرر . وأما إن كانا من صنف واحد فيجوز عند مالك ، ولا يجوز عند أبي حنيفة ، والشافعي ; وأما مالك فإنه أجازه لأنه يجيز الخيار بعد عقد البيع في الأصناف المستوية لقلة الغرر عنده في ذلك; وأما من لا يجيزه فيعتبره بالغرر الذي لا يجوز ، لأنهما افترقا على بيع غير معلوم .

وبالجملة فالفقهاء متفقون على أن الغرر الكثير في المبيعات لا يجوز ، وأن القليل يجوز . ويختلفون في أشياء من أنواع الغرر ، فبعضهم يلحقها بالغرر الكثير ، وبعضهم يلحقها بالغرر القليل المباح لترددها بين القليل والكثير .

فإذا قلنا بالجواز على مذهب مالك ، فقبض الثوبين من المشتري على أن يختار فهلك أحدهما أو أصابه عيب فمن يصيبه ذلك ؟ فقيل تكون المصيبة بينهما ، وقيل بل يضمنه كله المشتري ، إلا أن تقوم البينة [ ص: 520 ] على هلاكه; وقيل : فرق في ذلك بين الثياب وما يغاب عليه وبين ما لا يغاب عليه كالعبد ، فيضمن فيما يغاب عليه ، ولا يضمن فيما لا يغاب عليه . وأما هل يلزمه أخذ الباقي ؟ قيل : يلزم ، وقيل : لا يلزم ، وهذا يذكر في أحكام البيوع . وينبغي أن نعلم أن المسائل الداخلة في هذا المعنى هي : أما عند فقهاء الأمصار فمن باب الغرر; وأما عند مالك فمنها ما يكون عنده من باب ذرائع الربا ، ومنها ما يكون من باب الغرر ، فهذه هي المسائل التي تتعلق بالمنطوق به في هذا الباب .

وأما نهيه عن بيع الثنيا ، وعن بيع وشرط فهو وإن كان سببه الغرر فالأشبه أن نذكرها في المبيعات الفاسدة من قبل الشروط .

التالي السابق


الخدمات العلمية