صفحة جزء
[ ص: 524 ] الباب الرابع في بيوع الشروط والثنيا

[ 1 - بيوع الشروط ]

وهذه البيوع الفساد الذي يكون فيها هو راجع إلى الفساد الذي يكون من قبل الغرر ، ولكن لما تضمنها النص وجب أن تجعل قسما من أقسام البيوع الفاسدة على حدة .

والأصل في اختلاف الناس في هذا الباب ثلاثة أحاديث : أحدها : حديث جابر قال : " ابتاع مني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعيرا وشرط ظهره إلى المدينة " وهذا الحديث في الصحيح . والحديث الثاني : حديث بريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط " ، والحديث متفق على صحته . والثالث : حديث جابر قال : " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلة ، والمزابنة ، والمخابرة ، والمعاومة ، والثنيا ، ورخص في العرايا " ، وهو أيضا في الصحيح خرجه مسلم .

ومن هذا الباب ما روي عن أبي حنيفة أنه روى " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع وشرط " ، فاختلف العلماء لتعارض هذه الأحاديث في بيع ، وشرط ، فقال قوم : البيع فاسد ، والشرط جائز ، وممن قال بهذا القول الشافعي ، وأبو حنيفة ; وقال قوم : البيع جائز ، والشرط جائز ، وممن قال بهذا القول ابن أبي شبرمة ; وقال قوم : البيع جائز والشرط باطل ، وممن قال بهذا القول ابن أبي ليلى ; وقال أحمد : البيع جائز مع شرط واحد ، وأما مع شرطين فلا .

فمن أبطل البيع ، والشرط أخذ بعموم نهيه عن بيع وشرط ، ولعموم نهيه عن الثنيا; ومن أجازهما جميعا أخذ بحديث عمر الذي ذكر فيه البيع والشرط; ومن أجاز البيع وأبطل الشرط أخذ بعموم حديث بريرة ; ومن لم يجز الشرطين وأجاز الواحد احتج بحديث عمرو بن العاص خرجه أبو داود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " لا يحل سلف وبيع ، ولا يجوز شرطان في بيع ، ولا ربح ما لم تضمن ، ولا بيع ما ليس هو عندك " .

وأما مالك فالشروط عنده تنقسم ثلاثة أقسام : شروط تبطل هي والبيع معا; وشروط تجوز هي والبيع معا; وشروط تبطل ويثبت البيع; وقد يظن أن عنده قسما رابعا ، وهو أن من الشروط ما إن تمسك المشترط بشرطه بطل البيع ، وإن تركه جاز البيع ، وإعطاء فروق بينة في مذهبه بين هذه الأصناف الأربعة عسير ، وقد رام ذلك كثير من الفقهاء ، وإنما هي راجعة إلى كثرة ما يتضمن الشروط من صنفي الفساد الذي يخل بصحة البيوع وهما الربا ، والغرر ، وإلى قلته ، وإلى التوسط بين ذلك ، أو إلى ما يفيد نقصا في الملك ، فما كان دخول هذه الأشياء فيه كثيرا من قبل الشرط أبطله وأبطل الشرط ، وما كان قليلا أجازه وأجاز الشرط فيها ، وما كان متوسطا أبطل الشرط ، وأجاز البيع ، ويرى أصحابه أن مذهبه هو أولى المذاهب ، إذ بمذهبه تجتمع الأحاديث كلها ، والجمع عندهم أحسن من الترجيح ، [ ص: 525 ] وللمتأخرين من أصحاب مالك في ذلك تفصيلات متقاربة ، وأحد من له ذلك جدي ، والمازري ، والباجي ، وتفصيله في ذلك أنه قال : إن الشرط في المبيع يقع على ضربين أولين : أحدهما : أن يشترطه بعد انقضاء الملك ، مثل من يبيع الأمة أو العبد ، ويشترط أنه متى عتق كان له ولاؤه دون المشتري ، فمثل هذا قالوا : يصح فيه العقد ، ويبطل الشرط لحديث بريرة .

والقسم الثاني : أن يشترط عليه شرطا يقع في مدة الملك ، وهذا قالوا : ينقسم إلى ثلاثة أقسام : إما أن يشترط في المبيع منفعة لنفسه; وإما أن يشترط على المشتري منعا من تصرف عام أو خاص; وإما أن يشترط إيقاع معنى في المبيع ، وهذا أيضا ينقسم إلى قسمين : أحدهما أن يكون معنى من معاني البر . والثاني أن يكون معنى ليس فيه من البر شيء . فأما إذا اشترط لنفسه منفعة يسيرة لا تعود بمنع التصرف في أصل المبيع ، مثل أن يبيع الدار ويشترط سكناها مدة يسيرة مثل الشهر ، وقيل : السنة ، فذلك جائز على حديث جابر . وإما أن يشترط منعا من تصرف خاص ، أو عام ، فذلك لا يجوز لأنه من الثنيا ، ومثل أن يبيع الأمة على أن لا يطأها أو لا يبيعها ، وإما أن يشترط معنى من معاني البر مثل العتق ، فإن كان اشترط تعجيله جاز عنده ، وإن تأخر لم يجز لعظم الغرر فيه . وبقول مالك في إجازة البيع بشرط العتق المعجل قال الشافعي على أن من قوله منع بيع وشرط ، وحديث جابر عنده مضطرب اللفظ ، لأن في بعض رواياته " أنه باعه واشترط ظهره إلى المدينة " ، وفي بعضها أنه أعاره ظهره إلى المدينة . ومالك رأى هذا من باب الغرر اليسير فأجازه في المدة القليلة ولم يجزه في الكثيرة . وأما أبو حنيفة فعلى أصله في منع ذلك . وأما إن اشترط معنى في المبيع ليس ببر مثل أن لا يبيعها ، فذلك لا يجوز عند مالك ، وقيل عنه البيع مفسوخ ، وقيل بل يبطل الشرط فقط . وأما من قال له البائع : متى جئتك بالثمن رددت علي المبيع فإنه لا يجوز عند مالك ، لأنه يكون مترددا بين البيع والسلف; إن جاء بالثمن كان سلفا ، وإن لم يجئ كان بيعا .

واختلف في المذهب هل يجوز له ذلك في الإقالة أم لا ؟ فمن رأى أن الإقالة بيع فسخها عنده ما يفسخ سائر البيوع; ومن رأى أنها فسخ فرق بينها وبين البيوع .

واختلف أيضا فيمن باع شيئا بشرط أن لا يبيعه حتى ينتصف من الثمن ، فقيل عن مالك يجوز ذلك لأن حكمه حكم الرهن ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الرهن هو المبيع ، أو غيره; وقيل عن ابن القاسم : لا يجوز ذلك ، لأنه شرط يمنع المبتاع التصرف في المبيع بالمدة البعيدة التي لا يجوز للبائع اشتراط المنفعة فيها ، فوجب أن يمنع صحة البيع ، ولذلك قال ابن المواز إنه جائز في الأمد القصير .

ومن المسموع في هذا الباب نهيه صلى الله عليه وسلم - عن بيع وسلف اتفق الفقهاء على أنه من البيوع الفاسدة . واختلفوا إذا ترك الشرط قبل القبض ، فمنعه أبو حنيفة ، والشافعي ، وسائر العلماء ، وأجازه مالك ، وأصحابه إلا [ ص: 526 ] محمد بن عبد الحكم ، وقد روي عن مالك مثل قول الجمهور; وحجة الجمهور أن النهي يتضمن فساد المنهي عنه مع أن الثمن يكون في المبيع مجهولا لاقتران السلف به . وقد روي أن محمد بن أحمد بن سهل البرمكي سأل عن هذه المسألة إسماعيل بن إسحاق المالكي ، فقال له : ما الفرق بين السلف والبيع ، وبين رجل باع غلاما بمائة دينار وزق خمر فلما عقد البيع قال : أنا أدع الزق ، قال : وهذا البيع مفسوخ عند العلماء بإجماع ، فأجاب إسماعيل عن هذا بجواب لا تقوم به حجة ، وهو أن قال له : الفرق بينهما أن مشترط السلف هو مخير في تركه ، أو عدم تركه ، وليس كذلك مسألة زق الخمر ، وهذا الجواب هو نفس الشيء الذي طولب فيه بالفرق ، وذلك أنه يقال له : لم يكن هنا مخيرا ، ولم يكن هنالك مخيرا في أن يترك الزق ، ويصح البيع ، والأشبه أن يقال : إن التحريم هاهنا لم يكن لشيء محرم بعينه وهو السلف ، لأن السلف مباح ، وإنما وقع التحريم من أجل الاقتران ( أعني : اقتران البيع به ) ، وكذلك البيع في نفسه جائز ، وإنما امتنع من قبل اقتران الشرط به ، وهنالك إنما امتنع البيع من أجل اقتران شيء محرم لعينه به ، لا أنه شيء محرم من قبل الشرط .

ونكتة المسألة هل إذا لحق الفساد بالبيع من قبل الشرط يرتفع الفساد إذا ارتفع الشرط أم لا يرتفع ، كما لا يرتفع الفساد اللاحق للبيع الحلال من أجل اقتران المحرم العين به ؟ وهذا أيضا ينبني على أصل آخر هو هل هذا الفساد حكمي ، أو معقول ؟ فإن قلنا : حكمي لم يرتفع بارتفاع الشرط ، وإن قلنا : معقول ارتفع بارتفاع الشرط; فمالك رآه معقولا ، والجمهور رأوه غير معقول ، والفساد الذي يوجد في بيوع الربا والغرر هو أكثر ذلك حكمي ، لذلك ليس ينعقد عندهم أصلا ، وإن ترك الربا بعد البيع ، أو ارتفع الغرر . واختلفوا في حكمه إذا وقع على ما سيأتي في أحكام البيوع الفاسدة .

ومن هذا الباب بيع العربان : فجمهور علماء الأمصار على أنه غير جائز; وحكي عن قوم من التابعين أنهم أجازوه ، منهم مجاهد ، وابن سيرين ، ونافع بن الحارث ، وزيد بن أسلم ، وصورته : أن يشتري الرجل شيئا فيدفع إلى المبتاع من ثمن ذلك المبيع شيئا على أنه إن نفذ البيع بينهما كان ذلك المدفوع من ثمن السلعة ، وإن لم ينفذ ترك المشتري بذلك الجزء من الثمن عند البائع ولم يطالبه به; وإنما صار الجمهور إلى منعه لأنه من باب الغرر والمخاطرة ، وأكل المال بغير عوض ، وكان زيد يقول : أجازه رسول الله - صلى الله عليه وسلم . وقال أهل الحديث : ذلك غير معروف عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية