صفحة جزء
المسألة الرابعة

[ وضوء المستحاضة ]

اختلف العلماء في المستحاضة ، فقوم أوجبوا عليها طهرا واحدا فقط ، وذلك عندما ترى أنه قد انقضت حيضتها بإحدى تلك العلامات التي تقدمت على حسب مذهب هؤلاء في تلك العلامات ، وهؤلاء الذين أوجبوا عليها طهرا واحدا انقسموا قسمين : فقوم أوجبوا عليها أن تتوضأ لكل صلاة ، وقوم استحبوا ذلك لها ولم يوجبوه عليها ، والذين أوجبوا عليها طهرا واحدا فقط هم مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة ، وأصحابهم وأكثر فقهاء الأمصار ، وأكثر هؤلاء أوجبوا أن تتوضأ لكل صلاة ، وبعضهم لم يوجب عليها إلا استحبابا ، وهو مذهب مالك ، وقوم آخرون غير هؤلاء رأوا أن على المستحاضة أن تتطهر لكل صلاة ، وقوم رأوا أن الواجب أن تؤخر الظهر إلى أول العصر ، ثم تتطهر وتجمع بين الصلاتين ، وكذلك تؤخر المغرب إلى آخر وقتها وهو أول وقت العشاء ، وتتطهر طهرا ثانيا وتجمع بينهما ، ثم تتطهر طهرا ثالثا لصلاة الصبح ، فأوجبوا عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة ، وقوم رأوا أن عليها طهرا واحدا في اليوم والليلة ، ومن هؤلاء من لم يحد له وقتا ، وهو مروي عن علي .

ومنهم من رأى أن تتطهر من طهر إلى طهر ، فيتحصل في المسألة بالجملة أربعة أقوال : قول : إنه ليس عليها إلا طهر واحد فقط عند انقطاع دم الحيض .

وقول : إن عليها الطهر لكل صلاة .

وقول : إن عليها ثلاثة أطهار في اليوم والليلة .

وقول : إن عليها طهرا واحدا في اليوم والليلة .

[ ص: 55 ] والسبب في اختلافهم في هذه المسألة : هو اختلاف ظواهر الأحاديث الواردة في ذلك ، وذلك أن الوارد في ذلك من الأحاديث المشهورة أربعة أحاديث : واحد منها متفق على صحته ، وثلاثة مختلف فيها .

أما المتفق على صحته فحديث عائشة قالت " جاءت فاطمة ابنة أبي حبيش إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله إني امرأة أستحاض فلا أطهر ، أفأدع الصلاة ؟ فقال لها - عليه الصلاة والسلام - : لا ، إنما ذلك عرق وليست بالحيضة ، فإذا أقبلت الحيضة ، فدعي الصلاة ، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم وصلي " وفي بعض روايات هذا الحديث " وتوضئي لكل صلاة " وهذه الزيادة لم يخرجها البخاري ولا مسلم ، وخرجها أبو داود وصححها قوم من أهل الحديث .

والحديث الثاني : حديث عائشة عن أم حبيبة بنت جحش امرأة عبد الرحمن بن عوف " أنها استحاضت فأمرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل لكل صلاة " وهذا الحديث هكذا أسنده إسحاق عن الزهري ، وأما سائر أصحاب الزهري ، فإنما رووا عنه أنها استحيضت فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لها : " إنما هو عرق وليست بالحيضة " وأمرها أن تغتسل وتصلي ، فكانت تغتسل لكل صلاة على أن ذلك هو الذي فهمت منه ، لا أن ذلك منقول من لفظه - عليه الصلاة والسلام - ومن هذا الطريق خرجه البخاري ، وأما الثالث فحديث أسماء بنت عميس " أنها قالت : يا رسول الله إن فاطمة ابنة أبي حبيش استحيضت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لتغتسل للظهر والعصر غسلا واحدا ، وللمغرب والعشاء غسلا واحدا ، وتغتسل للفجر ، وتتوضأ فيما بين ذلك " خرجه أبو داود ، وصححه أبو محمد بن حزم .

وأما الرابع : فحديث حمنة ابنة جحش ، وفيه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرها بين أن تصلي الصلوات بطهر واحد عندما ترى أنه قد انقطع دم الحيض ، وبين أن تغتسل في اليوم والليلة ثلاث مرات على حديث أسماء بنت عميس ، إلا أن هنالك ظاهره على الوجوب ، وهنا على التخيير ، فلما اختلفت ظواهر هذه الأحاديث ذهب الفقهاء في تأويلها أربعة مذاهب : مذهب النسخ ، ومذهب الترجيح ، ومذهب الجمع ، ومذهب البناء ، والفرق بين الجمع والبناء أن الباني ليس يرى أن هنالك تعارضا فيجمع بين الحديثين ، وأما الجامع فهو يرى أن هنالك تعارضا في الظاهر ، فتأمل هذا ، فإنه فرق بين .

أما من ذهب مذهب الترجيح ، فمن أخذ بحديث فاطمة ابنة حبيش لمكان الاتفاق على صحته ، عمل على ظاهره ( أعني من أنه لم يأمرها - صلى الله عليه وسلم - أن تغتسل لكل صلاة ولا أن تجمع بين الصلوات بغسل واحد ، ولا بشيء من تلك المذاهب ) وإلى هذا ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي وأصحاب هؤلاء ، وهم الجمهور ، ومن صحت عنده من هؤلاء الزيادة الواردة فيه ، وهو الأمر بالوضوء لكل صلاة أوجب ذلك عليها ، ومن لم تصح عنده لم يوجب ذلك عليها ، وأما من ذهب مذهب البناء فقال : إنه ليس بين حديث فاطمة وحديث أم حبيبة الذي من رواته ابن إسحاق تعارض أصلا ، وأن الذي في حديث أم حبيبة من ذلك زيادة على ما في حديث فاطمة ، فإن حديث فاطمة إنما وقع الجواب فيه عن السؤال ، هل ذلك الدم حيض يمنع الصلاة أم لا ؟ فأخبرها - عليه الصلاة والسلام - أنها ليست بحيضة تمنع الصلاة ولم يخبرها فيه بوجوب الطهر أصلا لكل صلاة ولا عند انقطاع دم الحيض ; وفي حديث أم حبيبة أمرها بشيء واحد وهو التطهر لكل صلاة ، لكن للجمهور أن يقولوا إن [ ص: 56 ] تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز ، فلو كان واجبا عليها الطهر لكل صلاة لأخبرها بذلك ، ويبعد أن يدعي مدع أنها كانت تعرف ذلك مع أنها كانت تجهل الفرق بين الاستحاضة والحيض .

وأما تركه - عليه الصلاة والسلام - إعلامها بالطهر لواجب عليها عند انقطاع دم الحيض ، فمضمن في قوله : " إنها ليست بالحيضة " ; لأنه كان معلوما من سنته - عليه الصلاة والسلام - أن انقطاع الحيض يوجب الغسل ، فإذا إنما لم يخبرها بذلك لأنها كانت عالمة به ، وليس الأمر كذلك في وجوب الطهر لكل صلاة إلا أن يدعي مدع أن هذه الزيادة لم تكن قبل ثابتة وثبتت بعد ، فيتطرق إلى ذلك المسألة المشهورة : هل الزيادة نسخ أم لا ؟ وقد روي في بعض طرق حديث فاطمة أمره - عليه الصلاة والسلام - لها بالغسل ، فهذا هو حال من ذهب مذهب الترجيح ومذهب البناء ، وأما من ذهب مذهب النسخ فقال : إن حديث أسماء بنت عميس ناسخ لحديث أم حبيبة ، واستدل على ذلك بما روي عن عائشة " أن سهلة بنت سهيل استحيضت ، وأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرها بالغسل عند كل صلاة ، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر في غسل واحد ، والمغرب والعشاء في غسل واحد ، وتغتسل غسلا ثالثا للصبح " وأما الذين ذهبوا مذهب الجمع فقالوا : إن حديث فاطمة ابنة حبيش محمول على التي تعرف أيام الحيض من أيام الاستحاضة ، وحديث أم حبيبة محمول على التي لا تعرف ذلك ، فأمرت بالطهر في كل وقت احتياطا للصلاة ، وذلك أن هذه إذا قامت إلى الصلاة يحتمل أن تكون طهرت فيجب عليها أن تغتسل لكل صلاة .

وأما حديث أسماء ابنة عميس فمحمول على التي لا يتميز لها أيام الحيض من أيام الاستحاضة ، إلا أنه قد ينقطع عنها في أوقات فهذه إذا انقطع عنها الدم وجب عليها أن تغتسل وتصلي بذلك الغسل صلاتين .

وهنا قوم ذهبوا مذهب التخيير بين حديثي أم حبيبة وأسماء واحتجوا لذلك بحديث حمنة بنت جحش وفيه " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيرها " وهؤلاء منهم من قال : إن المخيرة هي التي لا تعرف أيام حيضتها .

ومنهم من قال : بل هي المستحاضة على الإطلاق عارفة كانت أو غير عارفة ، وهذا هو قول خامس في المسألة ، إلا أن الذي في حديث حمنة ابنة جحش إنما هو التخيير بين أن تصلي الصلوات كلها بطهر واحد ، وبين أن تتطهر في اليوم والليلة ثلاث مرات .

وأما من ذهب إلى أن الواجب أن تطهر في كل يوم مرة واحدة ، فلعله إنما أوجب ذلك عليها لمكان الشك ، ولست أعلم في ذلك أثرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية