صفحة جزء
[ الجزء الخامس ] .

[ الأحكام العامة للبيوع الفاسدة ] .

القسم الرابع من النظر المشترك في البيوع ( وهو النظر في حكم البيع الفاسد إذا وقع ) : فنقول : اتفق العلماء على أن البيوع الفاسدة إذا وقعت ولم تفت بإحداث عقد فيها أو نماء ، أو نقصان ، أو حوالة سوق أن حكمها الرد ( أعني : أن يرد البائع الثمن ، والمشتري المثمون ) .

واختلفوا إذا قبضت وتصرف فيها بعتق ، أو هبة ، أو بيع ، أو رهن ، أو غير ذلك من سائر التصرفات : هل ذلك فوت يوجب القيمة ، وكذلك إذا نمت أو نقصت ؟ فقال الشافعي : ليس ذلك كله فوتا ، ولا شبهة ملك في البيع الفاسد ، وأن الواجب الرد ، وقال مالك : كل ذلك فوت يوجب القيمة إلا ما روى عنه ابن وهب في الربا أنه ليس بفوت ، ومثل ذلك قال أبو حنيفة .

والبيوع الفاسدة عند مالك تنقسم إلى محرمة ، وإلى مكروهة : فأما المحرمة : فإنها إذا فاتت مضت بالقيمة . وأما المكروهة : فإنها إذا فاتت صحت عنده ، وربما صح عنده بعض البيوع الفاسدة بالقبض لخفة الكراهة عنده في ذلك .

فالشافعية تشبه المبيع الفاسد لمكان الربا ، والغرر بالفاسد لمكان تحريم عينه; كبيع الخمر ، والخنزير ، فليس عندهم فيه فوت .

ومالك يرى أن النهي في هذه الأمور إنما هو لمكان عدم العدل فيها ( أعني : بيوع الربا والغرر ) ، فإذا فاتت السلعة فالعدل فيها هو الرجوع بالقيمة; لأنه قد تقبض السلعة وهي تساوي ألفا ، وترد وهي تساوي خمسمائة ، أو بالعكس; ولذلك يرى مالك حوالة الأسواق فوتا في المبيع الفاسد .

ومالك يرى في البيع والسلف أنه إذا فات وكان البائع هو المسلف رد المشتري القيمة ما لم تكن أزيد من الثمن; لأن المشتري قد رفع له في الثمن لمكان السلف ، فليس من العدل أن يرد أكثر من ذلك ، وإن كان المشتري هو الذي أسلف البائع فقد حط البائع عنه من الثمن لمكان السلف ، فإذا وجبت على المشتري القيمة ردها ما لم تكن أقل من الثمن; لأن هذه البيوع إنما وقع المنع فيها لمكان ما جعل فيها من العوض مقابل السلف الذي هو موضوع لعون الناس بعضهم لبعض ، ومالك في هذه المسألة أفقه من الجميع .

[ ص: 553 ] واختلفوا إذا ترك الشرط قبل القبض ( أعني : شرط السلف ) : هل يصح البيع أم لا ؟ فقال أبو حنيفة ، والشافعي ، وسائر العلماء : البيع مفسوخ . وقال مالك ، وأصحابه : البيع غير مفسوخ إلا ابن عبد الحكم قال : البيع مفسوخ . وقد روي عن مالك مثل قول الجمهور .

وحجة الجمهور : أن النهي يتضمن فساد المنهي ، فإذا انعقد البيع فاسدا لم يصححه بعد رفع الشرط الذي من قبله وقع الفساد ، كما أن رفع السبب المفسد في المحسوسات بعد فساد الشيء ليس يقتضي عودة الشيء إلى ما كان عليه قبل الفساد من الوجود فاعلمه .

وروي أن محمد بن أحمد بن سهل البرمكي سأل عن هذه المسألة إسماعيل بن إسحاق المالكي ، فقال له : ما الفرق بين السلف ، والبيع ، وبين رجل باع غلاما بمائة دينار وزق خمر ، فلما انعقد البيع بينهما قال : أنا أدع الزق ، وهذا البيع مفسوخ عند العلماء بإجماع ، فوجب أن يكون بيع السلف كذلك ، فجاوب عن ذلك بجواب لا تقوم به حجة ، وقد تقدم القول في ذلك .

وإذ قد انقضى القول في أصول البيوع الفاسدة وأصول البيوع الصحيحة ، وفي أصول أحكام البيوع الصحيحة ، وأصول الأحكام الفاسدة المشتركة العامة لجميع البيوع ، أو لكثير منها فلنصر إلى ما يخص واحدا واحدا من هذه الأربعة الأجناس ، وذلك بأن نذكر منها ما يجري مجرى الأصول .

التالي السابق


الخدمات العلمية