صفحة جزء
بسم الله الرحمن الرحيم

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما

كتاب الهبات

والنظر في الهبة : في أركانها ، وفي شروطها ، وفي أنواعها ، وفي أحكامها . ونحن إنما نذكر من هذه الأجناس ما فيها من المسائل المشهورة ، فنقول :

[ ص: 662 ] [ أركان الهبة ]

أما الأركان فهي ثلاثة : الواهب والموهوب له ، والهبة .

1 - أما الواهب فإنهم اتفقوا على أنه تجوز هبته إذا كان مالكا للموهوب صحيح الملك ، وذلك إذا كان في حال الصحة وحال إطلاق اليد . واختلفوا في حال المرض وفي حال السفه والفلس .

أما المريض : فقال الجمهور : إنها في ثلثه تشبيها بالوصية ( أعني : الهبة التامة بشروطها ) ، وقالت طائفة من السلف وجماعة أهل الظاهر : إن هبته تخرج من رأس ماله إذا مات ، ولا خلاف بينهم أنه إذا صح من مرضه أن الهبة صحيحة .

وعمدة الجمهور حديث عمران بن حصين عن النبي - عليه الصلاة والسلام - " في الذي أعتق ستة أعبد عند موته ، فأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعتق ثلثهم وأرق الباقي " .

وعمدة أهل الظاهر : استصحاب الحال : ( أعني : حال الإجماع ) ، وذلك أنهم لما اتفقوا على جواز هبته في الصحة وجب استصحاب حكم الإجماع في المرض إلا أن يدل دليل من كتاب أو سنة بينة ، والحديث عندهم محمول على الوصية .

والأمراض التي يحجر فيها عند الجمهور هي الأمراض المخوفة ، وكذلك عند مالك الحالات المخوفة ، مثل الكون بين الصفين ، وقرب الحامل من الوضع ، وراكب البحر المرتج ، وفيه اختلاف . وأما الأرض المزمنة فليس عندهم فيها تحجير ، وقد تقدم هذا في كتاب الحجر . وأما السفهاء والمفلسون فلا خلاف عند من يقول بالحجر عليهم أن هبتهم غير ماضية .

2 - وأما الموهوب فكل شيء صح ملكه .

3 - الموهوب له : واتفقوا على أن للإنسان أن يهب جميع ماله للأجنبي .

واختلفوا في تفضيل الرجل بعض ولده على بعض في الهبة ، أو في هبة جميع ماله لبعضهم دون البعض ، فقال جمهور فقهاء الأمصار بكراهية ذلك له ، ولكن إذا وقع عندهم جاز ، وقال أهل الظاهر : لا يجوز التفضيل فضلا عن أن يهب بعضهم جميع ماله ، وقال مالك يجوز التفضيل ولا يجوز أن يهب بعضهم جميع المال دون بعض .

ودليل أهل الظاهر حديث النعمان بن بشير ، وهو حديث متفق على صحته ، وإن كان قد اختلف في ألفاظه ، والحديث أنه قال " إن أباه بشيرا أتى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إني نحلت ابني هذا غلاما كان لي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أكل ولدك نحلته مثل هذا ؟ قال : لا ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : فارتجعه " واتفاق مالك والبخاري ومسلم على هذا اللفظ ، قالوا : والارتجاع يقتضي بطلان الهبة . وفي بعض ألفاظ روايات هذا الحديث أنه قال - عليه الصلاة والسلام - : " هذا جور " .

وعمدة الجمهور : أن الإجماع منعقد على أن للرجل أن يهب في صحته جميع ماله للأجانب دون أولاده ، فإذا كان ذلك للأجنبي فهو للولد أحرى . واحتجوا بحديث أبي بكر المشهور أنه كان نحل عائشة جذاذ عشرين وسقا من مال الغابة ، فلما حضرته الوفاة ، قال : والله يا بنية ما من الناس أحد أحب إلي غنى بعدي منك ، ولا أعز علي فقرا بعدي منك ، وإني كنت نحلتك جذاذ عشرين وسقا فلو كنت جذذتيه [ ص: 663 ] واحتزتيه كان لك ، وإنما هو اليوم مال وارث . قالوا : وذلك الحديث المراد به الندب ، والدليل على ذلك أن في بعض رواياته : " ألست تريد أن يكونوا لك في البر واللطف سواء ؟ قال : نعم ، قال : فأشهد على هذا غيري " .

وأما مالك فإنه رأى أن النهي عن أن يهب الرجل جميع ماله لواحد من ولده هو أحرى أن يحمل على الوجوب ، فأوجب عنده مفهوم هذا الحديث النهي عن أن يخص الرجل بعض أولاده بجميع ماله .

فسبب الخلاف في هذه المسألة معارضة القياس للفظ النهي الوارد ، وذلك أن النهي يقتضي عند الأكثر بصيغته التحريم ، كما يقتضي الأمر الوجوب .

فمن ذهب إلى الجمع بين السماع والقياس حمل الحديث على الندب ، أو خصصه في بعض الصور كما فعل مالك ، ولا خلاف عند القائلين بالقياس أنه يجوز تخصيص عموم السنة بالقياس ، وكذلك العدول بها عن ظاهرها ( أعني : أن يعدل بلفظ النهي عن مفهوم الحظر إلى مفهوم الكراهية ) ، وأما أهل الظاهر فلما لم يجز عندهم القياس في الشرع اعتمدوا ظاهر الحديث ، وقالوا بتحريم التفضيل في الهبة .

واختلفوا من هذا الباب في جواز هبة المشاع غير المقسوم ، فقال مالك والشافعي وأحمد وأبو ثور : تصح ، وقال أبو حنيفة : لا تصح .

وعمدة الجماعة : أن القبض فيها يصح كالقبض في البيع . وعمدة أبي حنيفة : أن القبض فيها لا يصح إلا مفردة كالرهن .

ولا خلاف في المذهب في جواز هبة المجهول والمعدوم المتوقع الوجود ، وبالجملة كل ما لا يصح بيعه في الشرع من جهة الغرر ، وقال الشافعي : ما جاز بيعه جازت هبته كالدين ، وما لم يجز بيعه لم تجز هبته ، وكل ما لا يصح قبضه عند الشافعي لا تصح هبته كالدين والرهن .

وأما الهبة فلا بد من الإيجاب فيها والقبول عند الجميع .

ومن شرط الموهوب له أن يكون ممن يصح قبوله وقبضه .

التالي السابق


الخدمات العلمية