صفحة جزء
الجنس الخامس

وهو النظر فيما يحجر فيه على المكاتب مما لا يحجر

وما بقي من أحكام العبد فيه

فنقول : إنه قد أجمع العلماء من هذا الباب على أنه ليس للمكاتب أن يهب من ماله شيئا له قدر ، ولا يعتق ولا يتصدق بغير إذن سيده ، فإنه محجور عليه في هذه الأمور وأشباهها ( أعني : أنه ليس له أن يخرج من يده شيئا من غير عوض ) ، واختلفوا من هذا الباب في فروع :

منها : أنه إذا لم يعلم السيد بهبته أو بعتقه إلا بعد أداء كتابته ، فقال مالك وجماعة من العلماء : إن ذلك نافذ ومنعه بعضهم .

وعمدة من منعه أن ذلك وقع في حالة لا يجوز وقوعه فيها فكان فاسدا . وعمدة من أجازه أن السبب المانع من ذلك قد ارتفع وهو مخافة أن يعجز العبد .

وسبب اختلافهم هل إذن السيد من شرط لزوم العقد أو من شرط صحته ؟ فمن قال من شرط الصحة لم يجزه وإن عتق ، ومن قال من شرط لزومه قال : يجوز إذا عتق ; لأنه وقع عقدا صحيحا ، فلما ارتفع الإذن المرتقب فيه صح العقد كما لو أذن .

هذا كله عند من أجاز عتقه إذا أذن السيد ، فإن الناس اختلفوا أيضا في ذلك بعد اتفاقهم على أنه لا يجوز عتقه إذا لم يأذن السيد ، فقال قوم : ذلك جائز ، وقال قوم : لا يجوز ، وبه قال أبو حنيفة ، وبالجواز قال مالك ، وعن الشافعي في ذلك القولان جميعا .

والذين أجازوا ذلك اختلفوا في ولاء المعتق لمن يكون ، فقال مالك : إن مات المكاتب قبل أن يعتق كان ولاء عبده لسيده ، وإن مات وقد عتق المكاتب كان ولاؤه له . وقال قوم من هؤلاء : بل ولاؤه على كل حال لسيده .

وعمدة من لم يجز عتق المكاتب أن الولاء يكون للمعتق ، لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " إنما الولاء لمن أعتق " ولا ولاء للمكاتب في حين كتابته فلم يصح عتقه .

وعمدة من رأى أن الولاء للسيد أن عبد عبده بمنزلة عبده ، ومن فرق بين ذلك فهو استحسان .

ومن هذا الباب اختلافهم في هل للمكاتب أن ينكح أو يسافر بغير إذن سيده ؟ فقال جمهورهم : ليس له أن ينكح إلا بإذن سيده ، وأباح بعضهم النكاح له . وأما السفر فأباحه له جمهورهم ومنعه بعضهم ، وبه قال مالك ، وأباحه سحنون من أصحاب مالك ، ولم يجز للسيد أن يشترطه على المكاتب ، وأجازه ابن القاسم في السفر القريب .

والعلة في منع النكاح أنه يخاف أن يكون ذلك ذريعة إلى عجزه .

والعلة في جواز السفر أن به يقوى على التكسب في أداء كتابته .

وبالجملة فللعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال :

أحدها : أن للمكاتب أن يسافر بإذن سيده وبغير إذنه ، ولا يجوز أن يشترط عليه أن لا يسافر ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي .

[ ص: 708 ] والقول الثاني : إنه ليس له أن يسافر إلا بإذن سيده ، وبه قال مالك .

والثالث : أن بمطلق عقد الكتابة له أن يسافر إلا أن يشترط عليه سيده أن لا يسافر ، وبه قال أحمد والثوري وغيرهما .

ومن هذا الباب اختلافهم في هل للمكاتب أن يكاتب عبدا له ؟ فأجاز ذلك مالك ما لم يرد به المحاباة ، وبه قال أبو حنيفة والثوري ، وللشافعي قولان : أحدهما إثبات الكتابة ، والآخر إبطالها .

وعمدة الجماعة أنها عقد معاوضة المقصود منه طلب الربح فأشبه سائر العقود المباحة من البيع والشراء . وعمدة الشافعية أن الولاء لمن أعتق ولا ولاء للمكاتب ، لأنه ليس بحر .

واتفقوا على أنه لا يجوز للسيد انتزاع شيء من ماله ولا الانتفاع منه بشيء .

واختلفوا في وطء السيد أمته المكاتبة ، فصار الجمهور إلى منع ذلك ، وقال أحمد وداود وسعيد بن المسيب من التابعين : ذلك جائز إذا اشترطه عليها .

وعمدة الجمهور أنه وطء تقع الفرقة فيه إلى أجل آت فأشبه النكاح إلى أجل . وعمدة الفريق الثاني تشبيهها بالمدبرة ، وأجمعوا على أنها إن عجزت حل وطؤها .

واختلف الذين منعوا ذلك إذا وطئها هل عليه حد أم لا ؟ فقال جمهورهم : لا حد عليه ; لأنه وطء بشبهة ، وقال بعضهم : عليه الحد .

واختلفوا في إيجاب الصداق لها ، والعلماء فيما أعلم على أنه في أحكامه الشرعية على حكم العبد مثل الطلاق والشهادة والحد وغير ذلك مما يختص به العبيد .

ومن هذا الباب اختلافهم في بيعه ، فقال الجمهور : لا يباع المكاتب إلا بشرط أن يبقى على كتابته عند مشتريه ، وقال بعضهم : بيعه جائز ما لم يؤد شيئا من كتابته ; لأن بريرة بيعت ولم تكن أدت من كتابتها شيئا ، وقال بعضهم : إذا رضي المكاتب بالبيع جاز ، وهو قول الشافعي ; لأن الكتابة عنده ليست بعقد لازم في حق العبد ، واحتج بحديث بريرة إذ بيعت وهي مكاتبة .

وعمدة من لم يجز بيع المكاتب ما في ذلك من نقض العهد ، وقد أمر الله تعالى بالوفاء به ، وهذه المسألة مبنية على هل الكتابة عقد لازم أم لا ؟

وكذلك اختلفوا في بيع الكتابة ، فقال الشافعي ، وأبو حنيفة : لا يجوز ذلك ، وأجازها مالك ورأى الشفعة فيها للمكاتب .

ومن أجاز ذلك شبه بيعها ببيع الدين ، ومن لم يجز ذلك رآه من باب الغرر .

وكذلك شبه مالك الشفعة فيها بالشفعة في الدين ، وفي ذلك أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( أعني : في الشفعة في الدين ) ، ومذهب مالك في بيع الكتابة أنها إن كانت بذهب أنها تجوز بعرض معجل لا مؤجل لما يدخل في ذلك من الدين بالدين . وإن كانت الكتابة بعرض كان شراؤها بذهب أو فضة معجلين أو بعرض مخالف ، وإذا أعتق فولاؤه للمكاتب لا للمشتري .

[ ص: 709 ] ومن هذا الباب اختلافهم هل للسيد أن يجبر العبد على الكتابة أم لا ؟

التالي السابق


الخدمات العلمية