صفحة جزء
[ شروط الكتابة ]

وأما شروط الكتابة فمنها شرعية هي من شروط صحة العقد ، وقد تقدمت عند ذكر أركان الكتابة . ومنها شروط بحسب التراضي ، وهذه الشروط منها ما يفسد العقد ، ومنها ما إذا تمسك به أفسدت العقد وإذا تركت صح العقد ، ومنها شروط جائزة غير لازمة ، ومنها شروط لازمة ، وهذه كلها هي مبسوطة في كتب الفروع ، وليس كتابنا هذا كتاب فروع ، وإنما هو كتاب أصول .

والشروط التي تفسد العقد بالجملة هي الشروط التي هي ضد شروط الصحة المشروعة في العقد . والشروط الجائزة هي التي لا تؤدي إلى إخلال بالشروط المصححة للعقد ولا تلازمها ، فهذه الجملة ليس يختلف الفقهاء فيها ، وإنما يختلفون في الشروط لاختلافهم فيما هو منها شرط من شروط الصحة أو ليس منها ، وهذا يختلف بحسب القرب والبعد من إخلالها بشروط الصحة ، ولذلك جعل مالكا جنسا ثالثا من الشروط ، وهي الشروط التي إن تمسك بها المشترط فسد العقد ، وإن لم يتمسك بها جاز ، وهذا ينبغي أن تفهمه في سائر العقود الشرعية .

فمن مسائلهم المشهورة في هذا الباب إذا اشترط في الكتابة شرطا من خدمة أو سفر أو نحوه وقوي على أداء نجومه قبل محل أجل الكتابة هل يعتق أم لا ؟ فقال مالك وجماعة : ذلك الشرط باطل ، ويعتق إذا أدى جميع المال ، وقالت طائفة : لا يعتق حتى يؤدي جميع المال ، ويأتي بذلك الشرط وهو مروي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه أعتق رقيق الإمارة وشرط عليهم أن يخدموا الخليفة بعد ثلاث سنين .

ولم يختلفوا أن العبد إذا أعتقه سيده على أن يخدمه سنين أنه لا يتم عتقه إلا بخدمة تلك السنين ، ولذلك القياس قول من قال : إن الشرط لازم . فهذه المسائل الواقعة المشهورة في أصول هذا الكتاب .

وهاهنا مسائل تذكر في هذا الكتاب وهي من كتب أخرى ، وذلك أنها إذا ذكرت في هذا الكتاب ذكرت على أنها فروع تابعة للأصول فيه ، وإذا ذكرت في غيره ذكرت على أنها أصول ، ولذلك كان الأولى ذكرها في هذا الكتاب .

فمن ذلك اختلافهم إذا زوج السيد بنته من مكاتبه ، ثم مات السيد وورثته البنت ، فقال مالك والشافعي : ينفسخ النكاح ; لأنها ملكت جزءا منه ، وملك يمين المرأة محرم عليها بإجماع ، وقال أبو حنيفة : يصح النكاح ; لأن الذي ورثت إنما هو مال في ذمة المكاتب لا رقبة المكاتب ، وهذه المسألة هي أحق بكتاب النكاح .

ومن هذا الباب اختلافهم إذا مات المكاتب وعليه دين وبعض الكتابة هل يحاص سيده الغرماء أم لا ؟ فقال الجمهور : لا يحاص الغرماء ، وقال شريح وابن أبي ليلى وجماعة : يضرب السيد مع الغرماء .

وكذلك اختلفوا إذا أفلس وعليه دين يغترق ما بيده ، هل يتعدى ذلك إلى رقبته ؟ فقال : مالك والشافعي ، وأبو حنيفة : لا سبيل لهم إلى رقبته ، وقال الثوري وأحمد : يأخذونه إلا أن يفتكه السيد .

واتفقوا على أنه إذا عجز عن عقل الجنايات أنه يسلم فيها إلا أن يعقل عنه سيده ، والقول في هل [ ص: 710 ] يحاص سيده الغرماء أو لا يحاص هو من كتاب التفليس ، والقول في جنايته هو من باب الجنايات .

ومن مسائل الأقضية التي هي فروع في هذا الباب وأصل في باب الأقضية اختلافهم في الحكم عند اختلاف السيد والمكاتب في مال الكتابة ، فقال مالك ، وأبو حنيفة : القول قول المكاتب ، وقال الشافعي ، ومحمد ، وأبو يوسف يتحالفان ويتفاسخان قياسا على المتبايعين .

وفروع هذا الباب كثيرة ، لكن الذي حضر منها الآن في الذكر هو ما ذكرناه ، ومن وقعت له من هذا الباب مسائل مشهورة الخلاف بين فقهاء الأمصار وهي قريبة من المسموع ، فينبغي أن تثبت في هذا الموضع إذ كان القصد إنما هو إثبات المسائل المشهورة التي وقع الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار مع المسائل المنطوق بها في الشرع ، وذلك أن قصدنا في هذا الكتاب كما قلنا غير مرة : إنما هو أن نثبت المسائل المنطوق بها في الشرع المتفق عليها والمختلف فيها ، ونذكر من المسائل المسكوت عنها التي شهر الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار ; فإن معرفة هذين الصنفين من المسائل هي التي تجري للمجتهد مجرى الأصول في المسكوت عنها وفي النوازل التي لم يشتهر الخلاف فيها بين فقهاء الأمصار سواء نقل فيها مذهب عن واحد منهم أو لم ينقل ، ويشبه أن يكون من تدرب في هذه المسائل وفهم أصول الأسباب التي أوجبت خلاف الفقهاء فيها أن يقول ما يجب في نازلة نازلة من النوازل ( أعني : أن يكون الجواب فيها على مذهب فقيه فقيه من فقهاء الأمصار ، أعني : في المسألة الواحدة بعينها ) ، ويعلم حيث خالف ذلك الفقيه أصله وحيث لم يخالف ، وذلك إذا نقل عنه في ذلك فتوى . فأما إذا لم ينقل عنه في ذلك فتوى أو لم يبلغ ذلك الناظر في هذه الأصول فيمكنه أن يأتي بالجواب بحسب أصول الفقيه الذي يفتي على مذهبه ، وبحسب الحق الذي يؤديه إليه اجتهاده .

ونحن نروم إن شاء الله بعد فراغنا من هذا الكتاب أن نضع في مذهب مالك كتابا جامعا لأصول مذهبه ومسائله المشهورة التي تجري في مذهبه مجرى الأصول للتفريع عليها ، وهذا هو الذي عمله ابن القاسم في المدونة ، فإنه جاوب فيما لم يكن عنده فيها قول مالك على قياس ما كان عنده في ذلك الجنس من مسائل مالك التي هي فيها جارية مجرى الأصول لما جبل عليه الناس من الاتباع والتقليد في الأحكام والفتوى ، بيد أن في قوة هذا الكتاب أن يبلغ به الإنسان كما قلنا رتبة الاجتهاد إذا تقدم ، فعلم من اللغة العربية وعلم من أصول الفقه ما يكفيه في ذلك ، ولذلك رأينا أن أخص الأسماء بهذا الكتاب أن نسميه كتاب : ( بداية المجتهد وكفاية المقتصد ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية