صفحة جزء
القول في الجرح

وأما الجرح فإنه يشترط فيه أن يكون على وجه العمد ( أعني : الجرح الذي يجب فيه القصاص ) ، والجرح لا يخلو أن يكون يتلف جارحة من جوارح المجروح أو لا يتلف :

فإن كان مما يتلف جارحة فالعمد فيه هو أن يقصد ضربه على وجه الغضب بما يجرح غالبا . وأما إن جرحه على وجه اللعب أو اللعب بما لا يجرح به غالبا أو على وجه الأدب ، فيشبه أن يكون فيه الخلاف الذي يقع في القتل الذي يتولد عن الضرب في اللعب والأدب بما لا يقتل غالبا ، فإن أبا حنيفة يعتبر الآلة حتى يقول : إن القاتل بالمثقل لا يقتل وهو شذوذ منه ( أعني : بالخلاف هل فيه القصاص أو الدية إن كان الجرح مما فيه الدية ) .

وأما إن كان الجرح قد أتلف جارحة من جوارح المجروح ، فمن شرط القصاص فيه العمد أيضا بلا خلاف ، وفي تمييز العمد منه من غير العمد خلاف .

أما إذا ضربه على العضو نفسه فقطعه وضربه بآلة تقطع العضو غالبا ، أو ضربه على وجه النائرة فلا خلاف أن فيه القصاص . وأما إن ضربه بلطمة أو سوط أو ما أشبه ذلك مما الظاهر منه أنه لم يقصد إتلاف العضو مثل أن يلطمه فيفقأ عينه ، فالذي عليه الجمهور أنه شبه العمد ولا قصاص فيه ، وفيه الدية مغلظة في ماله وهي رواية العراقيين عن مالك ، والمشهور في المذهب أن ذلك عمد وفيه القصاص إلا في الأب مع ابنه ، وذهب أبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد إلى أن شبه العمد إنما هو في النفس لا في الجرح .

وأما إن جرحه فأتلف عضوا على وجه اللعب ففيه قولان : أحدهما وجوب القصاص ، والثاني نفيه . وما يجب على هذين القولين ففيه القولان قيل الدية مغلظة ، وقيل دية الخطأ ( أعني : فيما فيه دية ) ، وكذلك إذا كان على وجه الأدب ففيه الخلاف .

وأما ما يجب في جراح العمد إذا وقعت على الشروط التي ذكرناها فهو القصاص لقوله تعالى : ( والجروح قصاص ) وذلك فيما أمكن القصاص فيه منها ، وفيما وجد منه محل القصاص ولم يخش منه تلف النفس .

وإنما صاروا لهذا لما روي : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع القود في المأمومة والمنقلة والجائفة " ، فرأى مالك ومن قال بقوله أن هذا حكم ما كان في معنى هذه من الجراح التي هي متالف ، مثل كسر عظم الرقبة والصلب والصدر والفخذ وما أشبه ذلك . وقد اختلف قول مالك في المنقلة ، فمرة قال : بالقصاص ، ومرة قال بالدية .

[ ص: 727 ] وكذلك الأمر عند مالك فيما لا يمكن فيه التساوي في القصاص مثل الاقتصاص من ذهاب بعض النظر أو بعض السمع ، ويمنع القصاص أيضا عند مالك عدم المثل مثل أن يفقأ أعمى عين بصير .

واختلفوا من هذا في الأعور يفقأ عين الصحيح عمدا ، فقال الجمهور : إن أحب الصحيح أن يستقيد منه فله القود ، واختلفوا إذا عفا عن القود ، فقال قوم : إن أحب فله الدية كاملة ألف دينار ، وهو مذهب مالك ، وقيل ليس له إلا نصف الدية ، وبه قال الشافعي ، وهو أيضا منقول عن مالك ، وبقول الشافعي قال ابن القاسم ، وبالقول الآخر قال المغيرة من أصحابه وابن دينار . وقال الكوفيون : ليس للصحيح الذي فقئت عينه إلا القود أو ما اصطلحا عليه ، وقد قيل لا يستقيد من الأعور وعليه الدية كاملة ، روي هذا عن ابن المسيب ، وعن عثمان .

وعمدة صاحب هذا القول أن عين الأعور بمنزلة عينين ، فمن فقأها في واحدة فكأنه اقتص من اثنين في واحدة ، وإلى نحو هذا ذهب من رأى أنه إذا ترك القود أن له دية كاملة ، ويلزم حامل هذا القول أن لا يستقيد ضرورة ، ومن قال بالقود وجعل الدية نصف الدية فهو أحرز لأصله ، فتأمله فإنه بين بنفسه والله أعلم .

وأما هل المجروح مخير بين القصاص وأخذ الدية ، أم ليس له إلا القصاص فقط إلا أن يصطلحا على أخذ الدية ؟ ففيه القولان عن مالك مثل القولين في القتل ، وكذلك أحد قولي مالك في الأعور يفقأ عين الصحيح : أن الصحيح يخير بين أن يفقأ عين الأعور أو يأخذ الدية ألف دينار أو خمسمائة على الاختلاف في ذلك .

وأما متى يستقاد من الجرح ؟ فعند مالك أنه لا يستقاد من جرح إلا بعد اندماله ، وعند الشافعي على الفور ، فالشافعي تمسك بالظاهر ، ومالك رأى أن يعتبر ما يئول إليه أمر الجرح مخافة أن يفضي إلى إتلاف النفس .

واختلف العلماء في المقتص من الجرح يموت المقتص من ذلك الجرح ، فقال مالك والشافعي وأبو يوسف ومحمد لا شيء على المقتص ، وروي عن علي وعمر مثل ذلك ، وبه قال : أحمد ، وأبو ثور ، وداود ، وقال أبو حنيفة ، والثوري ، وابن أبي ليلى وجماعة : إذا مات وجب على عاقلة المقتص الدية ، وقال بعضهم : هي في ماله . وقال عثمان البتي : يسقط عنه من الدية قدر الجراحة التي اقتص منها ، وهو قول ابن مسعود .

فعمدة الفريق الأول إجماعهم على أن السارق إذا مات من قطع يده أنه لا شيء على الذي قطع يده . وعمدةأبي حنيفة أنه قتل خطأ وجبت فيه الدية .

ولا يقاد عند مالك في الحر الشديد ولا البرد الشديد ، ويؤخر ذلك مخافة أن يموت المقاد منه ، وقد قيل : إن المكان شرط في جواز القصاص وهو غير الحرم ، فهذا هو حكم العمد في الجنايات على النفس وفي الجنايات على أعضاء البدن ، وينبغي أن نصير إلى حكم الخطأ في ذلك ، ونبتدئ بحكم الخطأ في النفس .

التالي السابق


الخدمات العلمية