صفحة جزء
القول في ديات الأعضاء

والأصل فيما فيه من الأعضاء إذا قطع خطأ مال محدود ، ( وهو الذي يسمى دية ، وكذلك من الجراحات والنفوس ) حديث عمرو بن حزم عن أبيه أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم في العقول : " إن في النفس مائة من الإبل ، وفي الأنف إذا استوعب جدعا مائة من الإبل ، وفي المأمومة ثلث الدية ، وفي الجائفة مثلها وفي العين خمسون ، وفي اليد خمسون ، وفي الرجل خمسون ، وفي كل أصبع مما هناك عشر من الإبل ، وفي السن والموضحة خمس " وكل هذا مجمع عليه إلا السن والإبهام ، فإنهم اختلفوا فيها على ما سنذكره ، ومنها ما اتفقوا عليه مما لم يذكر هاهنا قياسا على ما نذكر ، فنقول :

إن العلماء أجمعوا على أن في الشفتين الدية كاملة ، والجمهور على أن في كل واحدة منهما نصف الدية ، وروي عن قوم من التابعين أن في السفلى ثلثي الدية ; لأنها تحبس الطعام والشراب ، وبالجملة فإن حركتها والمنفعة بها أعظم من حركة الشفة العليا ، وهو مذهب زيد بن ثابت .

وبالجملة فجماعة العلماء وأئمة الفتوى متفقون على أن في كل زوج من الإنسان الدية ما خلا الحاجبين وثديي الرجل .

واختلفوا في الأذنين متى تكون فيهما الدية ؟ فقال الشافعي وأبو حنيفة ، والثوري ، والليث : إذا اصطلمتا كان فيهما الدية ، ولم يشترطوا إذهاب السمع ، بل جعلوا في ذهاب السمع الدية مفردة . وأما مالك فالمشهور عنده أنه لا تجب في الأذنين الدية إلا إذا ذهب سمعهما ، فإن لم يذهب ففيه حكومة . وروي عن أبي بكر أنه قضى في الأذنين بخمس عشرة من الإبل وقال : إنهما لا يضران السمع ويسترهما الشعر أو العمامة . وروي عن عمر ، وعلي ، وزيد أنهم قضوا في الأذن إذا اصطلمت نصف الدية . وأما الجمهور من العلماء فلا خلاف عندهم أن في ذهاب السمع الدية .

وأما الحاجبان ففيهما عند مالك والشافعي حكومة ، وقال أبو حنيفة : فيهما الدية ، وكذلك في أشفار العين ، وليس عند مالك في ذلك إلا حكومة . وعمدة الحنفية ما روي عن ابن مسعود أنه قال : في كل اثنين من الإنسان الدية وتشبيههما بما أجمعوا عليه من الأعضاء المثناة . وعمدة مالك أنه لا مجال فيه للقياس وإنما طريقه التوقيف ، فما لم يثبت من قبل السماع فيه دية فالأصل أن فيه حكومة ، وأيضا فإن [ ص: 738 ] الحواجب ليست أعضاء لها منفعة ولا فعل بين ( أعني : ضروريا في الخلقة ) . وأما الأجفان فقيل في كل جفن منها ربع الدية ، وبه قال الشافعي والكوفي ; لأنه لا بقاء للعين دون الأجفان ، وفي الجفنين الأسفلين عند غيرهما الثلث وفي الأعليين الثلثان . وأجمعوا على أن من أصيب من أطرافه أكثر من ديته أن له ذلك ، مثل أن تصاب عيناه وأنفه فله ديتان .

وأما الأنثيان فأجمعوا أيضا على أن فيهما الدية ، وقال جميعهم : إن في كل واحدة منهما نصف الدية ، إلا ما روي عن سعيد بن المسيب أنه قال : في البيضة اليسرى ثلثا الدية لأن الولد يكون منها وفي اليمنى ثلث الدية ، فهذه مسائل الأعضاء المزدوجة .

وأما المفردة فإن جمهورهم على أن في اللسان خطأ الدية ، وذلك مروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك إذا قطع كله أو قطع منه ما يمنع الكلام ، فإن لم يقطع منه ما منع الكلام ففيه حكومة . واختلفوا في القصاص فيه عمدا ; فمنهم من لم ير فيه قصاصا وأوجب الدية ، وهم مالك ، والشافعي ، والكوفي ، لكن الشافعي يرى الدية في مال الجاني ، والكوفي ومالك على العاقلة ، وقال الليث وغيره : في اللسان عمدا القصاص .

وأما الأنف فأجمعوا على أنه إذا أوعب جدعا على أن فيه الدية على ما في الحديث وسواء عند مالك ذهب الشم أو لم يذهب ، وعنده أنه إذا ذهب أحدهما ففيه الدية ، وفي ذهاب أحدهما بعد الآخر الدية الكاملة .

وأجمعوا على أن في الذكر الصحيح الذي يكون به الوطء الدية كاملة . واختلفوا في ذكر العنين والخصي ، كما اختلفوا في لسان الأخرس وفي اليد الشلاء ، فمنهم من جعل فيها الدية ، ومنهم من جعل فيها حكومة ، ومنهم من قال : في ذكر الخصي والعنين ثلث الدية ، والذي عليه الجمهور أن فيه حكومة . وأقل ما تجب فيه الدية عند مالك قطع الحشفة ، ثم في باقي الذكر حكومة .

وأما عين الأعور فللعلماء فيه قولان أحدهما أن فيه الدية كاملة ، وإليه ذهب مالك وجماعة من أهل المدينة ، وبه قال الليث ، وقضى به عمر بن عبد العزيز وهو قول ابن عمر ، وقال الشافعي ، وأبو حنيفة ، والثوري : فيها نصف الدية كما في عين الصحيح ، وهو مروي عن جماعة من التابعين .

وعمدة الفريق الأول أن العين الواحدة للأعور بمنزلة العينين جميعا لغير الأعور . وعمدة الفريق الثاني حديث عمرو بن حزم ( أعني : عموم قوله : " وفي العين نصف الدية " ) ، وقياسا أيضا على إجماعهم أنه ليس على من قطع يد من له يد واحدة إلا نصف الدية .

فسبب اختلافهم في هذا معارضة العموم للقياس ، ومعارضة القياس للقياس ومن أحسن ما قيل فيمن ضرب عين رجل فأذهب بعض بصرها ما روي من ذلك عن علي - رضي الله عنه - أنه أمر بالذي أصيب بصره بأن عصبت عينه الصحيحة ، وأعطى رجلا بيضة فانطلق بها وهو ينظر إليها حتى لم يبصرها ، فخط عند أول ذلك خطا في الأرض ، ثم أمر بعينه المصابة فعصبت وفتحت الصحيحة ، وأعطى رجلا البيضة بعينها فانطلق بها وهو ينظر إليها حتى خفيت عنه ، فخط أيضا عند أول ما خفيت عنه في الأرض خطا ، ثم علم ما بين الخطين من المسافة ، وعلم مقدار ذلك من منتهى رؤية العين الصحيحة ، فأعطاه قدر ذلك من الدية . ويختبر صدقه في مسافة إدراك العين العليلة والصحيحة بأن يختبر ذلك منه مرارا شتى في مواضع [ ص: 739 ] مختلفة ، فإن خرجت مسافة تلك المواضع التي ذكر واحدة علمنا أنه صادق .

واختلف العلماء في الجناية على العين القائمة الشكل التي ذهب بصرها ، فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة : فيها حكومة ، وقال زيد بن ثابت : فيها عشر الدية ( مائة دينار ) . وحمل ذلك الشافعي على أنه كان ذلك من زيد تقويما لا توقيتا . وروي عن عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عباس أنهما قضيا في العين القائمة الشكل واليد الشلاء والسن السوداء في كل واحدة منهما ثلث الدية . وقال مالك : تتم دية السن باسودادها ثم في قلعها بعد اسودادها دية .

واختلف العلماء في الأعور يفقأ عين الصحيح عمدا ، فقال الجمهور : فله القود ، وإن عفا فله الدية ، وقال قوم : كاملة ، وقال قوم : نصفها ، وبه قال الشافعي ، وابن القاسم ، وبكلا القولين قال مالك ، وبالدية كاملة قال المغيرة من أصحابه ، وابن دينار . وقال الكوفيون : ليس للصحيح الذي فقئت عينه إلا القود أو ما اصطلحوا عليه .

وعمدة من رأى جميع الدية عليه إذا عفا عن القود أنه يجب عليه دية ما ترك له وهي العين العوراء ، وهي دية كاملة عند كثير من أهل العلم . ومذهب عمر ، وعثمان ، وابن عمر ، أن عين الأعور إذا فقئت وجب فيها ألف دينار ; لأنها في حقه في معنى العينين كلتيهما إلا العين الواحدة ، فإذا تركها له وجبت عليه ديتها . وعمدة أولئك البقاء على الأصل ( أعني : أن في العين الواحدة نصف الدية ) .

وعمدة أبي حنيفة أن العمد ليس فيه دية محدودة ، وهذه المسألة قد ذكرت في باب القود في الجراح .

وقال جمهور العلماء وأئمة الفتوى ( مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، والثوري وغيرهم ) : إن في كل أصبع عشرا من الإبل وإن الأصابع في ذلك سواء وإن في كل أنملة ثلث العشر إلا ماله من الأصابع أنملتان كالإبهام ، ففي أنملته خمس من الإبل .

وعمدتهم في ذلك ما جاء في حديث عمرو بن حزم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " وفي كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل " ، وخرج عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في الأصابع بعشر العشر " ، وهو قول علي ، وابن مسعود ، وابن عباس وهي عندهم على أهل الورق بحسب ما يرى واحد واحد منهم في الدية من الورق ، فهي عند من يرى أنها اثنا عشر ألف درهم عشرها ، وعند من يرى أنها عشرة آلاف عشرها . وروي عن السلف المتقدم اختلاف في عقل الأصابع ، فروي عن عمر بن الخطاب أنه قضى في الإبهام والتي تليها بعقل نصف الدية ، وفي الوسطى بعشر فرائض ، وفي التي تليها بتسع ، وفي الخنصر بست . وروي عن مجاهد أنه قال : في الإبهام خمسة عشر من الإبل ، وفي التي تليها عشر ، وفي الوسطى عشر ، وفي التي تليها ثمان ، وفي الخنصر سبع .

وأما الترقوة والضلع ، ففيهما عند جمهور فقهاء الأمصار حكومة ، وروي عن بعض السلف فيها توقيت . وروي عن مالك أن عمر بن الخطاب قضى في الضرس بجمل ، والضلع بجمل ، وفي الترقوة بجمل . وقال سعيد بن جبير في الترقوة بعيران ، وقال قتادة : أربعة أبعرة .

وعمدة فقهاء الأمصار أن ما لم يثبت فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - توقيت فليس فيه إلا حكومة .

وجمهور فقهاء الأمصار على أن في كل سن من أسنان الفم خمسا من الإبل ، وبه قال : ابن عباس . وروى [ ص: 740 ] مالك عن عمر أنه قضى في الضرس بجمل وذلك فيما لم يكن منها في مقدم الفم . وأما التي في مقدم الفم فلا خلاف أن فيها خمسا من الإبل . وقال سعيد بن المسيب : في الأضراس بعيران . وروي عن عبد الملك بن مروان أن مروان بن الحكم اعترض في ذلك على ابن عباس فقال : أتجعل مقدم الأسنان مثل الأضراس ؟ فقال ابن عباس : لو لم يعتبر ذلك إلا بالأصابع عقلها سواء .

عمدة الجمهور في مثل ذلك ما ثبت عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : " في السن خمس " وذلك من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، واسم السن ينطلق على التي في مقدم الفم ومؤخره ، وتشبيهها أيضا بالأصابع التي استوت ديتها وإن اختلفت منافعها . وعمدة من خالف بينهما أن الشرع يوجد فيه تفاضل الديات لتفاضل الأعضاء مع أنه يشبه أن يكون من صار إلى ذلك من الصدر الأول إنما صار إليه عن توقيف .

وجميع هذه الأعضاء التي تثبت الدية فيها خطأ فيها القود في قطع ما قطع وقلع ما قلع . واختلفوا في كسر ما كسر منها مثل الساق والذراع هل فيه قود أم لا ؟ فذهب مالك وأصحابه إلى أن القود في كسر جميع العظام إلا الفخذ والصلب ، وقال الشافعي والليث : لا قصاص في عظم من العظام يكسر ، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه استثنى السن . وروي عن ابن عباس أنه لا قصاص في عظم ، وكذلك عن عمر .

قال أبو عمر بن عبد البر : ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقاد في السن المكسورة من حديث أنس ، قال : وقد روي من حديث آخر أن النبي - عليه الصلاة والسلام - لم يقد من العظم المقطوع في غير المفصل إلا أنه ليس بالقوي . وروي عن مالك أن أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أقاد من كسر الفخذ .

التالي السابق


الخدمات العلمية