صفحة جزء
[ ص: 775 ] الفصل الثالث

[ في النكول ]

وأما ثبوت الحق على المدعى عليه بنكوله ، فإن الفقهاء أيضا اختلفوا في ذلك ، فقال مالك ، والشافعي وفقهاء أهل الحجاز وطائفة من العراقيين : إذا نكل المدعى عليه لم يجب للمدعي شيء بنفس النكول ، إلا أن يحلف المدعي أو يكون له شاهد واحد . وقال أبو حنيفة وأصحابه وجمهور الكوفيين : يقضي للمدعي على المدعى عليه بنفس النكول وذلك في المال بعد أن يكرر عليه اليمين ثلاثا .

وقلب اليمين عند مالك يكون في الموضع الذي يقبل فيه شاهد وامرأتان ، وشاهد ويمين ، وقلب اليمين عند الشافعي يكون في كل موضع يجب فيه اليمين ، وقال ابن أبي ليلى : أردها في غير التهمة ، ولا أردها في التهمة . وعند مالك في يمين التهمة هل تنقلب أم لا ؟ قولان .

فعمدة من رأى أن تنقلب اليمين ما رواه مالك من : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رد في القسامة اليمين على اليهود بعد أن بدأ بالأنصار " ومن حجة مالك أن الحقوق عنده إنما تثبت بشيئين : إما بيمين وشاهد ، وإما بنكول وشاهد ، وإما بنكول ويمين ، أصل ذلك عنده اشتراط الاثنينية في الشهادة ، وليس يقتضي عند الشافعي بشاهد ونكول .

وعمدة من قضى بالنكول أن الشهادة لما كانت لإثبات الدعوى ، واليمين لإبطالها وجب إن نكل عن اليمين أن تحقق عليه الدعوى . قالوا : وأما نقلها من المدعى عليه إلى المدعي فهو خلاف للنص ; لأن اليمين قد نص على أنها دلالة المدعى عليه ، فهذه أصول الحجج التي يقضي بها القاضي .

ومما اتفقوا عليه في هذا الباب أنه يقضي القاضي بوصول كتاب قاض آخر إليه ، لكن هذا عند الجمهور مع اقتران الشهادة به ( أعني : إذا أشهد القاضي الذي يثبت عنده الحكم شاهدين عدلين أن الحكم ثابت عنده ، أعني : المكتوب في الكتاب الذي أرسله إلى القاضي الثاني ، فشهدا عند القاضي الثاني أنه كتابه ، وأنه أشهدهم بثبوته ) ، وقد قيل إنه يكتفى فيه بخط القاضي ، وأنه كان به العمل الأول . واختلف مالك ، والشافعي وأبو حنيفة إن أشهدهم على الكتابة ولم يقرأه عليهم ، فقال مالك : يجوز ، وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يجوز ولا تصح الشهادة .

واختلفوا في العفاص والوكاء هل يقضى به في اللقطة دون شهادة ، أم لا بد في ذلك من شهادة ؟ فقال مالك : يقضى بذلك ، وقال الشافعي : لا بد من الشاهدين ، وكذلك قال : أبو حنيفة ، وقول مالك هو أجرى على نص الأحاديث ، وقول الغير أجرى على الأصول .

ومما اختلفوا فيه من هذا الباب قضاء القاضي بعلمه ، وذلك أن العلماء أجمعوا على أن القاضي يقضي بعلمه في التعديل والتجريح ، وأنه إذا شهد الشهود بضد علمه لم يقض به ، وأنه يقضي بعلمه في إقرار الخصم وإنكاره ، إلا مالكا فإنه رأى أن يحضر القاضي شاهدين لإقرار الخصم وإنكاره .

وكذلك أجمعوا على أنه يقضي بعلمه في تغليب حجة أحد الخصمين على حجة الآخر إذا لم يكن في ذلك خلاف . واختلفوا إذا كان في المسألة خلاف ، فقال قوم : لا يرد حكمه إذا لم يخرق الإجماع ، وقال [ ص: 776 ] قوم إذا كان شاذا ، وقال قوم : يرد إذا كان حكما بقياس ، وهنالك سماع من كتاب أو سنة تخالف القياس وهو الأعدل ، إلا أن يكون القياس تشهد له الأصول والكتاب محتمل والسنة غير متواترة ، وهذا هو الوجه الذي ينبغي أن يحمل عليه من غلب القياس من الفقهاء في موضع من المواضع على الأثر مثل ما ينسب إلى أبي حنيفة باتفاق ، وإلى مالك باختلاف .

واختلفوا هل يقضي بعلمه على أحد دون بينة أو إقرار ، أو لا يقضي إلا بالدليل والإقرار ؟ فقال مالك وأكثر أصحابه : لا يقضي إلا بالبينات أو الإقرار ، وبه قال أحمد وشريح ، وقال الشافعي ، والكوفي ، وأبو ثور وجماعة : للقاضي أن يقضي بعلمه ، ولكلا الطائفتين سلف من الصحابة والتابعين ، وكل واحد منهما اعتمد في قوله السماع والنظر .

أما عمدة الطائفة التي منعت من ذلك ، فمنها حديث معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة : " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث أبا جهم على صدقة فلاحاه رجل في فريضة ، فوقع بينهما شجاج ، فأتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبروه ، فأعطاهم الأرش ، ثم قال - عليه الصلاة والسلام - : " إني خاطب الناس ومخبرهم أنكم قد رضيتم ، أرضيتم ؟ قالوا : نعم ، فصعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر ، فخطب الناس وذكر القصة ، وقال : أرضيتم ؟ قالوا : لا ، فهم بهم المهاجرون ، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاهم ، ثم صعد المنبر فخطب ، ثم قال : أرضيتم ؟ قالوا : نعم " ، قال : فهذا بين في أنه لم يحكم عليهم بعلمه صلى الله عليه وسلم .

وأما من جهة المعنى فللتهمة اللاحقة في ذلك للقاضي .

وقد أجمعوا أن للتهمة تأثيرا في الشرع : منها أن لا يرث القاتل عمدا عند الجمهور من قتله . ومنها ردهم شهادة الأب لابنه ، وغير ذلك مما هو معلوم من جمهور الفقهاء .

وأما عمدة من أجاز ذلك ، أما من طريق السماع فحديث عائشة في قصة هند بنت عتبة بن ربيعة مع زوجها أبي سفيان بن حرب حين قال لها - عليه الصلاة والسلام - وقد شكت أبا سفيان : " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف " دون أن يسمع قول خصمها .

وأما من طريق المعنى فإنه إذا كان له أن يحكم بقول الشاهد الذي هو مظنون في حقه فأحرى أن يحكم بما هو عنده يقين .

وخصص أبو حنيفة وأصحابه ما يحكم فيه الحاكم بعلمه فقالوا : لا يقضي بعلمه في الحدود ويقضي في غير ذلك ، وخصص أيضا أبو حنيفة العلم الذي يقضي به فقال : يقضي بعلمه الذي علمه في القضاء ، ولا يقضي بما علمه قبل القضاء .

وروي عن عمر أنه قضى بعلمه على أبي سفيان لرجل من بني مخزوم .

وقال بعض أصحاب مالك : يقضي بعلمه في المجلس ( أعني : بما يسمع ) وإن لم يشهد عنده بذلك ، وهو قول الجمهور كما قلنا ، وقول المغيرة هو أجرى على الأصول ; لأن الأصل في هذه الشريعة لا يقضي إلا بدليل وإن كانت غلبة الظن الواقعة به أقوى من الظن الواقع بصدق الشاهدين .

التالي السابق


الخدمات العلمية