صفحة جزء
[ ص: 361 ]

ثم الواحد بالجنس أو النوع . . يجوز أن يكون موردا للأمر والنهي باعتبار أنواعه وأشخاصه ، كالأمر بالزكاة ، وصلاة الضحى مثلا ، والنهي عن الصلاة في وقت النهي .

أما الواحد بالشخص ، فيمتنع كونه موردا لهما ، من جهة . أما من جهتين ، كالصلاة في الدار المغصوبة ، فلا تصح في أشهر القولين لنا ، خلافا للأكثرين .

وقيل : يسقط الفرض عندها لا بها . ومأخذ الخلاف ، أن النظر إلى هذه الصلاة المعينة أو إلى جنس الصلاة .


قوله : " ثم الواحد بالجنس أو النوع ، يجوز أن يكون موردا للأمر والنهي باعتبار أنواعه وأشخاصه " إلى آخره .

اعلم : أن الأشياء بالنظر إلى كليتها وجزئيتها وعمومها وخصوصها مراتب ، أعلاها الجنس ، ثم النوع ، ثم الشخص . كقولنا : الحيوان ، الإنسان ، زيد ، فالحيوان جنس بالإضافة إلى الإنسان ، والإنسان نوع له ، وزيد شخص من النوع ، وكقولنا : العبادة ، الزكاة والصلاة ، هذه الصلاة ، فالعبادة جنس ، والزكاة والصلاة نوع ، وهذه الصلاة شخص .

ومعنى قولنا : الواحد بالجنس أو النوع أنه لفظ واحد ، ومسمى واحد ، دل على جنس كالحيوان ، أو دل على نوع كالإنسان . [ ص: 362 ]

إذا عرفت هذا ، فالواحد بالجنس يجوز أن يكون موردا للأمر والنهي ، أي : يرد عليه الأمر والنهي ويتوجهان إليه باعتبار أنواعه ، أي يتوجه الأمر إلى بعض أنواعه والنهي إلى بعض آخر منها .

وكذلك الواحد بالنوع يجوز توجه الأمر إليه باعتبار أشخاصه أي : الأمر إلى بعض الأشخاص ، والنهي إلى بعض آخر ، كالأمر بالزكاة التي هي نوع لجنس العبادة ، والأمر بصلاة الضحى التي هي باعتبار إطلاق نوع أو صنف للصلاة ، وباعتبار تقييدها بيوم بعينه شخص من أشخاص نوع الصلاة ، وكالنهي عن الصلاة في وقت النهي ، فقد توجه الأمر إلى الزكاة وصلاة الضحى من حيث هما نوعان للعبادة ، وتوجه النهي إلى صلاة الضحى والصلاة في وقت النهي من حيث هما شخصان لنوع العبادة وهو الصلاة .

وهذا المثال إن لاح في صحته أو مطابقته شيء ، فأنت قد عرفت القاعدة ، وهي صحة توجه الأمر والنهي إلى الجنس باعتبار تعدد أنواعه وإلى النوع باعتبار تعدد أشخاصه .

قوله : " أما الواحد بالشخص " إلى آخره أي : اللفظ والمسمى الواحد إذا كان مفهومه شخصا معينا " فيمتنع كونه موردا لهما " أي : للأمر والنهي ، أي : يمتنع توجههما إليه وورودهما عليه " من جهة واحدة " لأنه تناقض ، كما لو قال : صل هذه الظهر ، لا تصل هذه الظهر ، أعتق هذا العبد ، لا تعتق هذا العبد .

قوله : " أما من جهتين " أي : أما كون الواحد بالشخص موردا للأمر والنهي من جهتين " كالصلاة في الدار المغصوبة " من عمرو ، " فلا تصح في أشهر القولين " عن [ ص: 363 ] أحمد وجماعة معه ، على ما حكاه الآمدي " خلافا للأكثرين " في صحة ذلك .

" وقيل : يسقط الفرض عندها " أي : عند الصلاة في الدار المغصوبة " لا بها " ، وهذا قول القاضي أبي بكر ، لأنه لما قام الدليل عنده على عدم الصحة بما سنقرر إن شاء الله تعالى . ثم ألزمه الخصم إجماع السلف على أنهم لم يأمروا الظلمة بإعادة الصلوات ، مع كثرة وقوعها منهم في أماكن الغصب ، فأشكل الأمر عليه ، فحاول الخلاص بهذا التوسط ، فقال : يسقط الفرض عند هذه الصلاة للإجماع المذكور لا بها ، لقيام الدليل على عدم صحتها .

قلت : وكأنه جعلها سببا لسقوط الفرض ، أو أمارة عليه على نحو من خطاب الوضع لا علة لسقوطه ، لأن ذلك يستدعي صحتها .

قلت : وهذا مسلك ظاهر الضعف ، لأن سقوط الفرض بدون أدائه شرعا غير معهود ، بل لو منع الإجماع المذكور لكان أيسر عليه ، فإنه يبعد على الخصم أن يثبت أن ظالما في زمن السلف صلى في مكان مغصوب وعلم به أهل الإجماع ، فضلا عن أن يثبت ذلك في جميع الظلمة أو أكثرهم ، ولو سلم ذلك ، لكن لا نسلم أنهم أقروا الظلمة على ذلك ولم يأمروهم بالإعادة ، ولا يلزم من عدم نقل ذلك عدم وجوده ، لجواز أن الأمر بالإعادة وجد ولم ينقل ، لاستيلاء الظلمة وسطوتهم ، أو كون الحكم ليس من الأمور العظيمة التي تتوفر الدواعي على نقل الإنكار فيه ، وأحسب أن هؤلاء الذين ادعوا الإجماع المذكور بنوه على مقدمتين :

إحداهما : أن مع كثرة الظلمة في تلك الأعصار عادة لا يخلو من إيقاع صلاة في مكان غصب من بعضهم .

الثانية : أن السلف يمتنع عادة وشرعا تواطؤهم على ترك الإنكار والأمر [ ص: 364 ] بالإعادة ، بناء من هؤلاء على ما ظنوه من دليل البطلان ، وإلا فلا إجماع في ذلك منقول ، تواترا ولا آحادا ، والمقدمتان المذكورتان في غاية الضعف والوهاء .

قوله : " ومأخذ الخلاف " إلى آخره ، أي : مأخذ الخلاف في بطلان هذه الصلاة وصحتها هو " أن النظر إلى هذه الصلاة المعينة " الواقعة في هذا الموضع المغصوب ، " أو إلى جنس الصلاة " مع قطع النظر عن مكان إيقاعها ، إن نظرنا إلى عين هذه الصلاة اتجه القول بالبطلان ، لأن نفس هذه الصلاة حرام معصية وهو باطل ، وإن نظرنا إلى جنس الصلاة اتجه القول بالصحة من جهة كونها مطلوبة للشارع باعتبار الجهتين .

وسيأتي الدليل على ذلك إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية