صفحة جزء
[ ص: 387 ]

وهنا مسألتان :

الأولى : المباح غير مأمور به ، خلافا للكعبي . لنا : الأمر يستلزم الترجيح ، ولا ترجيح في المباح . قال : المباح ترك الحرام ، وهو واجب ، فالمباح واجب . قلنا : يستلزمه ، ويحصل به ، لا أنه هو بعينه . ثم يترك الحرام ببقية الأحكام ، فلتكن كلها واجبة . وهو باطل .


قوله : " وهنا " أي : في المباح ، " مسألتان : الأولى : المباح غير مأمور به " عند الجمهور " خلافا للكعبي " من المعتزلة وأتباعه .

وقوله : " لنا " إلى آخره ، هذا دليل على أن المباح غير مأمور به ، وتقريره أن " الأمر يستلزم الترجيح " أي : ترجيح إيجاد الفعل ، " ولا ترجيح في المباح " أما أن الأمر يستلزم الترجيح ، فلأن الأمر طلب ، والطلب يستلزم الترجيح ، وإلا كانت دلالته على اقتضاء إيجاد الفعل ترجيحا من غير مرجح ، وذلك لأن قول السيد لعبده : افعل كذا ، يفهم منه اقتضاء إيجاد ذلك الفعل لغة وعرفا ، فلو كانت دلالة قوله : " افعل " على إيجاد الفعل وعدمه سواء ، لكان فهم اقتضاء الإيجاد دون عدمه ترجيحا من غير مرجح .

وأما كونه لا ترجيح في المباح ، فلما مر في حده من أنه خطاب تخيير وتسوية بين الفعل وتركه ، وذلك لا رجحان فيه . [ ص: 388 ]

وإذا ثبت أن الأمر يستلزم الترجيح - ولا ترجيح في المباح - لزم أن المباح غير مأمور به ، فالمباح غير مأمور به .

وينتظم شكل الدليل هكذا : المباح لا ترجيح فيه ، وكل ما لا ترجيح فيه فهو غير مأمور به ، فالمباح غير مأمور به . أو هكذا : المأمور يستلزم الترجيح ، وكل ما استلزم الترجيح ، فليس بمباح اصطلاحي ، فالمأمور ليس بمباح اصطلاحي ، ثم تنعكس كلتا المقدمتين المباح ليس مأمورا به .

قوله : " قال " يعني : الكعبي محتجا على أن المباح مأمور به .

وتقرير حجته : أن المباح ترك حرام وهو " أي : ترك الحرام " واجب " فالمباح واجب . أما أن المباح ترك حرام ، فلأنه ما من مباح إلا والتلبس به يستلزم ترك محرم ، بل محرمات ، كشرب الماء ، وأكل الطعام ، والتنزه في الأماكن بالمشي والحركة ، ونحو ذلك يستلزم ترك الزنى وشرب الخمر وقطع الطريق وغير ذلك من المحرمات . وأما أن ترك الحرام واجب ، فباتفاق .

قوله : " قلنا يستلزمه " إلى آخره ، هذا جواب حجة الكعبي .

وتقريره أن المباح يستلزم ترك الحرام ، ويحصل به ترك الحرام ، لا أن المباح هو ترك الحرام بعينه ، لأن ترك الشيء هو الإعراض عنه ، والإعراض عنه يستلزم تصوره ، ليصح قصد الإعراض عنه ، كما أن فعله يستلزم تصوره ، ليصح قصده ، ومعلوم أن فاعل المباح قد يكون غافلا عن تصور حقيقة ترك الحرام والإعراض عنه فضلا عن تصور حقيقة الحرام فكيف يصح أن يكون فعل المباح هو عين ترك الحرام ؟

ونحن ذكرنا هذا تقريرا لدعوانا ، وإلا فالكعبي قد كفانا مؤنة ذلك بموافقته [ ص: 389 ] عليه حيث قال في تقرير حجته : ما من مباح إلا والتلبس به يستلزم ترك حرام ، وحينئذ نقول : ترك الحرام لازم لفعل المباح ، ولا يلزم من كون اللازم واجبا لذاته أن يكون الملزوم كذلك .

فإن قال : أنا لا أدعي وجوب المباح لذاته بل لغيره ، وهو استلزامه الواجب ، وكونه لا ينفك عنه ولا يتم إلا به ، فيصير من باب ما لا يتم الواجب إلا به وهو واجب .

قلنا : رجع الخلاف لفظيا لأنا لا ننازعك في وجوبه بهذا التفسير ، فأنت تقول : المباح واجب لغيره ، ونحن نقول : ليس واجبا لذاته ، ولا تنافي بينهما .

قوله : " ثم قد يترك الحرام " ، إلى آخره . هذا إلزام للكعبي على مذهبه .

وتقريره : أنه إن لزم أن يكون المباح مأمورا به واجبا ، لأنه يترك به الحرام ، لزم ذلك في بقية الأحكام ، لأن كل واحد منها يترك به الحرام ، فيكون الواجب كالمكتوبة مثلا إذ يترك بها الزنى واجبا ، والمندوب كالسواك ، إذ يترك به شرب الخمر واجبا ، والحرام كشرب الخمر مثلا ، إذ يترك به اللواط وسائر المحرمات واجبا وهو باطل . إذ يلزم أن يكون المندوب والحرام واجبا ، ويكون الواجب واجبا مرتين : من جهة وجوبه في نفسه ، ومن جهة ترك الحرام به . واعلم أن هذا قد التزمه الكعبي .

وإذا تحقق أن النزاع في المسألة لفظي بما ذكرنا ، فليس التزام ذلك محالا ولا [ ص: 390 ] بعيدا بناء على أنه من ذوات الجهتين ، فيكون الواجب واجبا مرتين من جهتين ، والسواك مندوبا واجبا من جهتين ، وكذلك الحرام أو المكروه واجبا من جهتين ، وكذلك ما ألزموه من أن الإجماع على أن أحكام الشرع خمسة ، وعلى قولك : إن المباح واجب تكون أربعة ، فإن ذلك لا يلزمه ، لأنه حمل الإجماع على ذوات الأحكام من جهة تحققها في أنفسها ، أما من جهة أن التلبس بها يستلزم ترك الحرام الذي هو واجب ، فهي أربعة . بل هي حكم واحد وهو الواجب . وبالجملة فهو يلاحظ الجهتين ، فيصح قوله ، ويصير النزاع لفظيا كما قررناه .

التالي السابق


الخدمات العلمية