صفحة جزء
[ ص: 402 ]

وفائدة الخلاف ، استصحاب كل حال أصله ، فيما جهل دليله سمعا .


قوله : " وفائدة الخلاف " ، إلى آخره أي : فائدة الخلاف في أن الأفعال قبل الشرع على الإباحة أو الحظر أو الوقف " استصحاب كل " ، أي : كل واحد من القائلين " حال أصله " قبل الشرع " فيما جهل دليله سمعا " بعد ورود الشرع .

مثاله : أن العلماء اختلفوا في إباحة أكل الخيل والضب والضبع والأرنب والثعلب وسنور البر والزرافة وسباع البهائم وجوارح الطير والحشرات والهوام ، فلو قدر أنه لم يوجد في شيء من ذلك دليل بنفي ولا إثبات ، أو وجد دليل متعارض متكافئ ، رجع كل واحد من العلماء إلى أصله قبل الشرع ، فاستصحب حاله إلى ما بعد الشرع ، فالمبيح يقول : الأصل في هذه الأشياء الإباحة ، والأصل بقاء ما كان على ما كان ، بناء على القول باستصحاب الحال ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

ثم هذا الموضع هو موضع الكلام في تحسين العقل وتقبيحه ، والكلام في تلخيص محل النزاع ، ثم في دليله باختصار ، إذ كنا قد بسطنا القول فيه في كتاب مفرد وهو كتاب " رد القول القبيح بالتحسين والتقبيح " فنقول وبالله التوفيق :

ذهبت المعتزلة في آخرين إلى أن الأفعال لذواتها منقسمة إلى حسنة وقبيحة ، ثم منها ما يدرك حسنه وقبحه بضرورة العقل ، كحسن الإيمان ، وقبح الكفر ، ومنها ما يدرك بنظر العقل كحسن الصدق الضار ، وقبح الكذب النافع ، إذ قد اشتمل كل منهما على جهتين : حسن وقبح ، ومصلحة ومفسدة ، فاحتيج في معرفة الحسن والقبح [ ص: 403 ] منهما إلى نظر يرجح إحدى الجهتين على الأخرى ، ومنها ما لا يدرك إلا بالسمع كحسن العبادات واختصاصها بالأمكنة والأوقات ، إذ تقدير نصب الزكوات وقدر الواجب فيها ، وأروش الجنايات ، والأسباب الموجبة لها ، وإيجاب صوم آخر يوم من رمضان وتحريم صوم اليوم الذي بعده ، واستحباب صوم تسعة من ذي الحجة وتحريم صوم أربعة بعدها ، وصحة الصلاة في جميع الأزمنة إلا خمسة أوقات ، وفي جميع الأمكنة إلا سبعة مواضع ، مما لا يدركه العقل ، فيحتاج فيه إلى موقف من الشرع ، فهذه حكاية المحققين لمذهب المعتزلة .

ثم استفاض ذكر مذهبهم على ألسنة الفقهاء وغيرهم ، حتى استعملوا فيه عبارات مجملة موهمة كقولهم : العقل يحسن ويقبح ، أو العقل يوجب ويحرم ، أو حاظر ومبيح ، حتى صار بعضهم يفهم أن العقل شارع فوق الشرع ، وأنه ملزم له بالحكم بمقتضاه إلزام الغريم غريمه ، وسبب ذلك تلقي بعضهم تلك العبارات عن بعض من غير نظر وتدبر .

وتحقيق الكلام في هذا المقام ما حققه بعض المتأخرين أن الحسن والقبح قد يراد بهما ما لاءم الطبع ونافره ، كإنقاذ الغريق واتهام البريء .

وقد يراد بهما صفة الكمال والنقص ، نحو : العلم حسن ، والجهل قبيح .

وقد يراد بهما ما يوجب المدح والذم الشرعيين عاجلا ، والثواب والعقاب آجلا . ولا نزاع في أنهما بالتفسيرين الأولين عقليان أي : يستقل العقل بإدراك [ ص: 404 ] الحسن والقبح فيهما .

أما الثالث ، فهو محل النزاع ، فالمعتزلة قالوا : هو عقلي أيضا يستقل العقل بإدراكه بدون الشرع وقبله .

وأهل السنة قالوا : هو شرعي ، أي : لا يعلم استحقاق المدح والذم ولا الثواب والعقاب شرعا على الفعل إلا من جهة الشرع على ألسنة الرسل .

وعلى هذا وقع النزاع في تعريف الحسن والقبيح ، فقيل : الحسن : ما لفاعله أن يفعله ، والقبيح : ما ليس لفاعله أن يفعله ، يعني عقلا ، وهو تعريف اعتزالي .

وقيل : الحسن : ما ورد الشرع بتعظيم فاعله والثناء عليه ، والقبيح يقابله ، وهذا تعريف سني جمهوري ، وإنما غلط المعتزلة في هذا الباب من جهة أن غالب ما استحسن أو استقبح في الشرع هو مستحسن أو مستقبح في العقل بالاعتبارين الأولين في الحسن والقبح ، وهما الملاءمة والمنافرة والنقص والذم .

مثاله : أن إنقاذ الغريق ونحوه اشتمل على أمرين ، أحدهما : المناسبة العقلية ، فالعقل يستقل بدركها ، والثاني : ترتب الثواب عليه ، فالعقل لا يستقل بدركه جزما ، بل جوازا ، وهو محل النزاع ، وكذا الكلام في جانب القبح ، وللنزاع بين الطائفتين مآخذ أشار إليها الأصوليون .

أحدها : أن الشرع هل هو مؤكد وكاشف ، أو منشئ ومبتدئ .

فالمعتزلة قالوا : الشرع مؤكد لحكم العقل فيما أدركه من حسن الأفعال وقبحها [ ص: 405 ] ضرورة أو نظرا ، كاشف عما لا يدركه من الأحكام شرعا كالعبادات ونحوها ، وليس قولهم : إن العقل لا يدرك الحسن في العبادات ونحوها منافيا لقولهم : إنها حسنة في العقل ، لأن مرادهم بحسنها فيه أنه لو كانت له قوة على إدراك حقائقها تامة ، لأدركها حسنة ، ومدركهم في ذلك أن الله سبحانه وتعالى حكيم ، فيستحيل عليه عقلا إهمال المصالح أن لا يأمر بها ، ويثيب عليها ، وإهمال المفاسد أن لا ينهى عنها ويعاقب عليها ، وما استحال على الله تعالى وجب أن يستحيل عليه دائما في كل وقت ، فلذلك قالوا : إن ما ثبت بعد الشرع ، فهو ثابت قبله ، وإلا لكان المستحيل عليه سبحانه وتعالى جائزا عليه في كل وقت من الأوقات ، وهو محال . غاية ما في الباب أن العقل أدرك الحسن والقبح في بعض الأوقات دون بعض ، فلما ورد الشرع ، كان مؤكدا لحكم العقل فيما أدركه ، كاشفا له عما لم يدركه .

أما الجمهور ، فقالوا : الشرع منشئ الأحكام ، ومخترع لها ولم يكن منها قبل الشرع شيء ، ولا يستقل العقل بإدراك شيء منها جزما بل جوازا ، وهذا هو محز الخلاف وغايته بين الطائفتين وهو أن إدراك العقل لإثابة الله سبحانه وتعالى للطائع وعقابه للعاصي ، هل هو إدراك جازم قاطع كما يدرك أنه حكيم عليم ؟ أو إدراك محتمل على جهة الجواز كما يدرك أنه سبحانه وتعالى يجوز أن يوقع المطر غدا وأن لا يوقعه ؟ وليس محل الخلاف ما يتوهمه كثير من الناس من أن العقل هو الموجب والمحرم ، بل الله سبحانه وتعالى هو الموجب والمحرم ، والعقل يدرك كونه موجبا [ ص: 406 ] إدراكا قاطعا أو جائزا على الخلاف .

ومدرك أهل السنة فيما قالوه عقلي وسمعي :

أما العقل : فهو ما دل على أن الله سبحانه وتعالى لا يجب عليه رعاية مصالح الخلق ، بل له أن يراعيها وأن يهملها ، ويفعل فيهم ما يشاء .

وتقرير الدليل أن العالم حادث مسبوق بالعدم في أزمنة تقديرية غير متناهية ، فإحداث البارئ جل جلاله للعالم حين أحدثه إما أن يتضمن مصلحة أو لا ، فإن تضمن مصلحة ، فقد أهمل مصلحة خلقه فيما سبق من الأزمنة غير المتناهية أزلا ، وإن لم يتضمن مصلحة ، فقد أهمل مصلحتهم أزلا وأبدا ، فإهمال مصلحتهم لازم على التقديرين ، وإذا جاز عليه سبحانه وتعالى إهمال مصالح خلقه ، لم يبق للعقل طريق إلى الجزم برعايتها ، وحينئذ يجوز أن يحرم عليهم ما يصلحهم ويبيح لهم ما يفسدهم ، ويجوز أن يعذب المطيع ويذمه وإن كان ذلك مفسدة في حقه ، ويثيب العاصي ويمدحه وإن كان ذلك مصلحة في حقه لا يستحقها ، فقد بان بهذا البرهان أن إدراك العقل الذم والمدح والثواب والعقاب على جهة الجواز لا اللزوم ، وهو المطلوب .

وأما السمعي فقوله سبحانه وتعالى : وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ الإسراء : 15 ] ، ونظائرها في القرآن متعددة . [ ص: 407 ]

ووجه دلالتها أنه نفى العقاب قبل الشرع ، ولو استقل العقل بإثباته لما صح نفيه ولتناقض دليل العقل والسمع ، وتناقضهما في نفس الأمر محال للإجماع على أن الشرع لم يرد بما ينافي العقل ، فإذا رأينا دليل العقل قد ناقض قاطع السمع وصريحه ، علمنا أن ذلك شبهة عقلية لا حجة .

المأخذ الثاني : أن الحسن والقبيح مشتقان من الحسن والقبح ، فعند المعتزلة أن المشتق منه وهو الحسن والقبح معنيان قائمان بالمشتق ، وهما الحسن والقبيح ، كما أن الأسود والأبيض لما كانا مشتقين من السواد والبياض كانا - أعني السواد والبياض - معنيين قائمين بالأسود والأبيض .

وإذا ثبت أن الحسن والقبح معنيان قائمان بالحسن والقبيح ، كان إدراك قيامهما بهما عقليا قياسا لإدراك بصيرة العقل لأحكام الأفعال على إدراك البصر لأحكام الأجسام ، وهذا معنى قولهم : إن قبحها لصفات قامت بها على ما سبق ذكره في مسألة الواجب المخير ، وعند الجمهور لا شيء من ذلك ، بل الحسن : ما أمر الله سبحانه وتعالى به أو أذن فيه ، والقبيح : ما نهى عنه أو منع منه . وما قرره المعتزلة فاسد من وجهين : [ ص: 408 ]

أحدهما : أنه قياس للأعراض على الأجسام ، وقد سبق أن قياس الشيء على غير جنسه لا يصح ، وأن شرط القياس اتحاد باب الأصل والفرع .

الوجه الثاني : سلمنا صحة القياس لكن يلزم منه قيام العرض بالعرض وهو محال ، أما لزوم قيام العرض بالعرض فلأن الأفعال أعراض ، والحسن والقبح والصفات أعراض ، فلو قام الحسن والقبح بالأفعال ، لزم قطعا قيام العرض بالعرض ، وأما أن ذلك محال فلأن العرض ما لا يقوم بنفسه ، فهو يحتاج إلى محل يقوم به كالجوهر والجسم ، فلو صح قيام الحسن والقبح بالأفعال لكانت الأفعال جواهر وأجساما لا أعراضا وهو محال .

فإن قيل : إن السرعة والبطء تقوم بالحركة فيقال : حركة سريعة أو بطيئة ، وهما عرضان ، فقد قام العرض بالعرض ، وكذلك الشدة والضعف عرضان يقومان بالألوان وهي أعراض ، فيقال : سواد وبياض شديد أو ضعيف .

قلنا : السرعة والبطء قائمان بالمتحرك بواسطة الحركة لا بنفس الحركة ، وكذلك الشدة والضعف في الألوان ، إنما قاما بالجسم المتلون لا باللون . [ ص: 409 ]

قلت : فهذا يظهر من قولهم : الأفعال حسنة أو قبيحة بصفة ، وعليه دل بحث المحققين من الأصوليين حيث ألزموهم قيام العرض بالعرض .

وقال القرافي : القبح عند المعتزلة : هو المشتمل على صفة لأجلها يستحق فاعله الذم ، والحسن ما ليس كذلك ، ومقصودهم بالصفة المفسدة .

قلت : وظاهر القولين الاختلاف ، وربما أمكن التلطف إلى الجمع بينهما .

هل يجب على الله رعاية المصلحة

المأخذ الثالث : النزاع في مراعاة المصالح ، فعندهم يجب على الله سبحانه وتعالى رعاية مصالح خلقه ، على معنى أن العقل يدرك وجوب ذلك منه جزما تحقيقا للجود والعدل ، ثم قالوا : لولا مراعاة المصالح والمفاسد ، لكان تخصيص الفعل المعين من بين سائر الأفعال بحكم معين من بين سائر الأحكام ترجيحا من غير مرجح ، فلما خص بعض الأفعال بالوجوب وبعضها بالتحريم وبعضها بالإباحة ، دل على أن الإيجاب لتحصيل المصلحة ، والتحريم لدفعها ، والإباحة لخلو الأفعال عن مصلحة ومفسدة .

وعند الجمهور لا يجب على الله سبحانه وتعالى رعاية المصالح ، وإنما يدرك العقل ذلك منه على سبيل الجواز .

فأما ثبوت الأحكام في الأفعال ، فيجوز أن يكون تعبدا محضا ، ويجوز أن يكون رعاية للمصالح تفضلا ، وليس النزاع فيه ، إنما النزاع في رعايتها وجوبا ، ولله [ ص: 410 ] له سبحانه وتعالى أن يتفضل برعاية المصالح ، وأن لإكماله أن يتفضل بأنواع النعم من العافية والغنى والعز والعلم وأن لا ، وقد وقع ذلك مشاهدا في العالم ، حيث الناس ما بين معافى ومبتلى ، وفقير وغني ، وعزيز وذليل ، وعالم وجاهل .

فهذا ما أردنا إثباته من مسألة التحسين والتقبيح ، لأن مدار مذهب المعتزلة عليه .

وسيأتي إن شاء الله تعالى بين أيدينا مباحث تتعلق به وتحال عليه .

ومن فروعه ، مسألة شكر المنعم ، وأحكام الأفعال قبل الشرع ، وتكليف ما لا يطاق ، وأحكام كثيرة من أحكام المعاش والمعاد . وقد ذكرة جملة من فروع هذا الأصل في كتاب : " رد القول القبيح بالتحسين والتقبيح " ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية