صفحة جزء
[ ص: 425 ]

الثاني : السبب ، وهو لغة ما توصل به إلى الغرض ، واشتهر استعماله في الحبل أو بالعكس . واستعير شرعا لمعان : أحدها : ما يقابل المباشرة ، كحفر البئر مع التردية ، فالأول سبب ، والثاني : علة . الثاني : علة العلة ، كالرمي ، هو سبب للقتل ، وهو علة الإصابة التي هي علة الزهوق . الثالث : العلة بدون شرطها ، كالنصاب بدون الحول . الرابع : العلة الشرعية كاملة ، وسميت سببا ، لأن عليتها ليست لذاتها ، بل بنصب الشارع لها ، فأشبهت السبب ، وهو ما يحصل الحكم عنده لا به .


قوله : " الثاني " : أي : من أصناف العلم المنصوب ، والذي سبق الكلام فيه هي المعاني الثلاثة التي استعملت فيها العلة ، فالثاني من أصناف العلم المعرف لحكم الشرع بطريق الوضع هو " السبب " .

" وهو لغة " ، أي : في اللغة : " ما توصل به إلى الغرض " المقصود .

قال الشيخ أبو محمد وأبو حامد : السبب في اللغة عبارة عما يحصل الحكم عنده لا به ، والصحيح ما ذكرته .

قال الجوهري : السبب : الحبل ، والسبب أيضا : كل شيء يتوصل به إلى غيره . نعم حكم السبب ما ذكره من أن الحكم يوجد عنده لا به ، لأنه ليس بمؤثر في الوجود ، بل وصلة ووسيلة إليه ، فالحبل مثلا يتوصل به إلى إخراج الماء من البئر ، وليس هو المؤثر في الإخراج ، إنما المؤثر حركة المستقي للماء . فأما قوله تعالى : فليمدد بسبب إلى السماء [ الحج : 15 ] فهو الحبل أيضا ، والمعنى : من كان يظن أن لن يرزقه الله ، فليمدد حبلا إلى سماء بيته ، وليجعله في حلقه ، ثم يصلب نفسه حتى يختنق ، وقيل : من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلى الله عليه وسلم فليخنق نفسه ، [ ص: 426 ] وكان قوم من المسلمين يستبطئون نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية فيهم ، وقيل فيه غير ذلك .

قوله : " واشتهر استعماله في الحبل أو بالعكس " ، أي : السبب في وضع اللغة ما ذكر ، واشتهر استعماله في عرف اللغة في الحبل ، أو أنه في وضع اللغة الحبل ، واشتهر في العرف استعماله فيما توصل به إلى الغرض . هذا معنى العكس المراد هنا .

واعلم أن هذا تردد في وقت الاختصار ، فإني لم أطالع عليه شيئا من كتب اللغة الموثوق بها . ثم إني رأيت السبب يطلق في العرف واللغة على الحبل ، وهو مشهور فيه ، ومع ذلك رأيت أن كل ما توصل به إلى مقصود ما ، فهو سبب له ، ورأيت أن الأصل عدم الاشتراك ، فبقيت مترددا بين أن السبب موضوع لما توصل به إلى الغرض متعارف في الحبل ، أو موضوع للحبل متعارف فيما توصل به إلى الغرض فأطلقت القول بالتردد حذرا من الخطأ في الجزم بأحد التقديرين ، فالآن عند الشرح طالعته في " الصحاح " ، فوجدته مشتركا بين الأمرين ، كما حكيته لك آنفا .

قوله : " واستعير شرعا " ، أي : واستعير السبب من الوضع اللغوي إلى التصرف الشرعي " لمعان " أربعة :

" أحدها : ما يقابل المباشرة ، كحفر البئر مع التردية " فيها ، فإذا حفر شخص بئرا ، ودفع آخر إنسانا فتردى فيها فهلك ، " فالأول " ، وهو الحافر ، " سبب " إلى هلاكه ، [ ص: 427 ] " والثاني " ، وهو الدافع ، مباشر له ، فأطلق الفقهاء السبب على ما يقابل المباشرة ، فقالوا : إذا اجتمع المتسبب والمباشر ، غلبت المباشرة ، ووجب الضمان على المباشر ، وانقطع حكم المتسبب .

ومن أمثلته : لو ألقاه من شاهق ، فتلقاه آخر بسيف ، فقده ، فالضمان على المتلقي بالسيف ، ولو ألقاه في ماء مغرق ، فتلقاه حوت ؛ فابتلعه ؛ فالضمان على الملقي ؛ لعدم قبول الحوت للضمان ، لولا ذلك لكان الضمان عليه ؛ لأنه المباشر ، وكذا لو فتح قفصا عن طائر ، بحيث لو ترك طار ؛ فأخذه إنسان من القفص في يده ، ثم أطلقه ، كان الضمان على هذا ، لأنه المباشر لتفويته ، ولو حل وعاء مائع ، بحيث لو ترك سال ؛ فجاء آخر فدفقه ؛ فالضمان عليه ؛ لأنه المباشر . وكذلك ما أشبه هذه الصور .

وقولي : " فالأول سبب ، والثاني علة " : إشارة إلى الحفر والتردية ؛ لأنهما مصدران ، والمتسبب والمباشر فاعلان .

" الثاني " من المعاني التي استعير لها لفظ السبب شرعا " علة العلة ، كالرمي " ، سمي سببا للقتل ، وهو - أعني الرمي - علة الإصابة ، والإصابة علة لزهوق النفس الذي هو القتل ؛ فالرمي هو علة علة القتل ، وقد سموه سببا له . [ ص: 428 ]

" الثالث " من المعاني التي استعير لها لفظ السبب " العلة بدون شرطها " ، كالنصاب بدون حولان الحول يسمى سببا لوجوب الزكاة كما تقدم في تسميته علة . " الرابع " من المعاني المذكورة : " العلة الشرعية كاملة " وهي المجموع المركب من المقتضي والشرط وانتفاء المانع ووجود الأهل والمحل يسمى سببا .

قوله : " وسميت سببا " إلى آخره ، إشارة إلى بحث عقلي ، وهو أن العلل العقلية موجبة لوجود معلولها ، كما عرف من الكسر للانكسار ، وسائر الأفعال مع الانفعالات ، فإنه متى وجد الفعل القابل ، وانتفى المانع ، وجد الانفعال بخلاف الأسباب ، فإنه لا يلزم من وجودها وجود مسبباتها . ومثله بعضهم بتسميد الزرع ، وهو إطعامه التراب لينمو ، فإنه لا يلزم منه النمو ، بل قد ينمو ، وقد لا . وإذا ثبت هذا ، فنحن قد سمينا العلة الشرعية الكاملة التي يلزم من وجودها وجود معلولها سببا ، مع أن السبب لا يلزم من وجوده وجود مسببه ، وهذا تسمية للعلة بدون اسمها ، ووضع لها دون موضعها ، فهذا سؤال مقدر ، وجوابه ما ذكر ، وهو أن العلة العقلية عليتها لذاتها ، أي هي مؤثرة في معلولها لذاتها لا بواسطة ، والعلة [ ص: 429 ] الشرعية وإن كانت كاملة ، ويلزم من وجودها وجود معلولها ، وهو الحكم الشرعي ، لكن عليتها ليست لذاتها ، بل بواسطة نصب الشارع لها ؛ فضعفت لذلك عن العلة العقلية ، فأشبهت السبب الذي حكمه أن يحصل عنده لا به ، كما بينا قبل ، وحيث أشبهت السبب من هذا الوجه سميت سببا .

والدليل على أن العلة الشرعية ليست مؤثرة بذاتها ، أنها قد كانت موجودة قبل الشرع ، ولم توجد أحكامها ، كالإسكار في الخمر ، والكيل في البر ، ونحوه ، ولم يوجد التحريم ، والربا ، ولو كانت موجبة لحكمها بذاتها لما تخلفت عنها أحكامها في وقت ما مع زوال مانعها من التأثير ، كما لا يتخلف الانفعال عن الفعل ، فبان بهذا أن تأثيرها وضعي لا ذاتي . والله سبحانه وتعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية