صفحة جزء
[ ص: 63 ]

تنزهت في حكمتك عن لحوق الندم ، وتفردت في إلهيتك بخواص القدم ، وتعاليت في أزليتك عن سوابق العدم ، وتقدست عن لواحق الإمكان .


قوله : " تنزهت في حكمتك عن لحوق الندم ، وتفردت في إلهيتك بخواص القدم ، وتعاليت في أزليتك عن سوابق العدم ، وتقدست عن لواحق الإمكان " .

تنزهت ، أي : تباعدت عن لحوق الندم ، ومادة ن ز هـ ترجع إلى معنى البعد على ما أشار إليه في " الصحاح " وفهم من فروع المادة التي ذكرها هناك . والحكمة : معنى قام بالذات ، يتحقق به وقوع الأفعال وسطا بين طرفي الإفراط والتفريط ، خالية عن التفريط والتبسيط ، آمنة من لحوق الاختلال في الحال والمآل ، ولما كان الله سبحانه وتعالى كامل الحكمة ، لم يلحقه فيما يفعله ندم ، لأنه سبحانه وتعالى مع كمال حكمته تام العلم بما كان وسيكون ، فلا يتطرق عليه الندم ، مع كمال الحكمة والعلم ، خلافا لليهود - لعنهم الله - فإنهم يزعمون أن البارئ سبحانه وتعالى غضب على العالم في زمن نوح عليه السلام ، فأهلكهم بالطوفان ، ثم ندم على إهلاكهم وبكى حتى رمدت عيناه ، فعادته الملائكة في الرمد ، وفي التوراة : أن الشر لما كثر في زمن نوح عليه السلام أسف الرب وحزن قلبه على خلقه لآدم في الأرض ، وعزم على إهلاك من فيها من كل ذي روح إلا نوحا عليه السلام ، فإنه وجد رحمة بين يدي الرب ، وأن الله تعالى لما أهلك العالم بالطوفان قال في قلبه : لا أعود أبيد أهل الأرض لموضع أن ضمير قلب الإنسان إلى الشر مذ حداثته [ ص: 64 ] ولا أعود أهلك كل حي كالذي فعلت وهذا عين الندم ، وهو من تحريف اليهود عليهم اللعنة .

وتفردت ، أي : توحدت واختصصت ، والإلهية هي كونه إلها ، كما أن العالمية والقادرية عند مثبتي الأحوال كونه عالما قادرا .

والخواص : جمع خاصة ، وهو معنى كلي ، يلزم الشيء ولا يوجد في غيره ، كالضحك للإنسان ونحوه ، وللمنطقيين في تعريف الخاصة وغيرها من الكليات الخمس رسوم مشهورة ، وما ذكرناه في تعريف الخاصة أعم مما يذكرونه ، لأنه المراد هاهنا .

والقدم : يمكن أن يستعمل فيه التعريف العدمي ، وهو عدم الأولية أو عدم السبق بالعدم ، ويمكن أن يستعمل فيه التعريف الوجودي ، وهو استغراق الأزمنة التحقيقية والتقديرية بالوجود ، وإنما قلنا الأزمنة التحقيقية والتقديرية ، لأن الزمان عندنا على ضربين : تحقيقي : وهو الصادر عن حركات الأفلاك ، وتقديري : وهو ما قبل خلق الأفلاك ، يعني أن إيجادها قبل أن يخلقها البارئ سبحانه وتعالى كان ممكنا ، وكانت حينئذ الأزمنة التحقيقية تصدر عنها ، وهذا يحتاج إليه ، ولا بد في الجواب عما رواه مسلم وغيره من الأئمة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق الجبال فيها يوم [ ص: 65 ] الأحد الحديث ، على ما بينته في باب صلاة الجمعة من مختصر الترمذي ، وهذا على رأينا ، أما على رأي الفلاسفة في قدم الزمان التحقيقي ، فلا يحتاج إلى قولنا : والتقديرية ، وخواص القدم على ما ذكره المتكلمون وغيرهم : أن القديم لا يكون إلا واحدا ، ولا يكون جوهرا ولا عرضا ، ولا يكون له بداية ولا نهاية ، بل هو أزلي سرمدي . واشترط بعضهم : أن لا يكون وجوده زائدا على ذاته ، وكذلك صفاته ، وفي بعض ذلك تحقيق ونظر .

والخواص : جمع خاصة ، وهي ما يلازم الشيء ولا يفارقه ، ولا يوجد في غيره ، كانتصاب القامة للإنسان ونحو ذلك . وقد سبق ذكر معنى الخاصة عن قرب .

وتعاليت : تفاعلت من العلو والرفعة ، وهو تعالى معنوي لا حقيقي بمعنى الجهة ، كما يقال : ترفع زيد عن لحوق العار ونحوه .

والأزلية : لفظة منسوبة إلى الأزل ، وهي في عرف المتكلمين والفلاسفة عبارة [ ص: 66 ] عما يدل عليه القدم من نفي الأولية والمسبوقة بالعدم ، ويقابلونه بالأبد ، وهو عدم التناهي في استمرار الوجود . يقولون مثلا : ذات الله وصفاته الذاتية موجودة أزلا وأبدا ، وفي الأزل والأبد ، فما لا يزال عبارة عن الأبد أيضا . وهذا يدل على أن الأزل عندهم عبارة عن مفهوم لم يزل ، لأنهم يقولون فيما لم يزل ولا يزال . لا لنفي المستقبل ، وقد استعملوا النفي بها بمعنى الأبد ، و " لم " لنفي الماضي ، وهم يستعملون النفي بها بمعنى الأزل ، فدل على ما قلناه من أن الأزل هو عبارة عما لم يزل .

وذهب بعض أهل اللغة إلى أن لفظ الأزل ليس من لغة العرب ، ولا يعرفونه ، وإنما هو من توليد الفلاسفة والمتكلمين ، فكأنهم اختصروا ما لم يزل في لفظ الأزل . وقال الجوهري : الأزل بالتحريك : القدم ، يقال : أزلي ، ذكر بعض أهل العلم : أن أصل هذه الكلمة قولهم للقديم : لم يزل ، ثم نسبت إلى هذا فلم تستقم إلا باختصار فقالوا : يزلي ثم أبدلت الياء ألفا لأنها أخف ، كما قالوا في الرمح المنسوب إلى ذي يزن : أزني .

أما الأبد : فهو في لغة العرب : الدهر ، والجمع آباد ، والأبد أيضا : الدائم ، وكأنه الأصل ، والسرمد : الدائم أيضا ، وكأنه من السرد ، وهو المتابعة ، فكأن [ ص: 67 ] السرمد الدائم المتتابع وفي التنزيل : قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمدا إلى يوم القيامة [ القصص : 72 ] الآية ، أي دائما لا يتخلله ليل .

وسوابق العدم : جمع سابقة ، أي لم يتقدم وجودك عدمات سابقة ، أو أزمنة سابقة ، لأن أزليتك أبت ذلك ، وقد كان الإتيان بلفظ الواحد في سابق ولاحق ، أو سابقة ولاحقة أبلغ في التبرئة والتنزيه فكان يقال : تنزهت عن سابق العدم ، وتقدست عن لاحق الإمكان ، أو عن سابقة العدم ، ولاحقة الإمكان ، لأن نفي الفرد يستلزم نفي الجمع ، ونفي الجمع لا يستلزم نفي الفرد على ما عرف ، لكن كان لفظ الجمع أولى باعتدال الكلام واتزانه فآثرناه ، مع أن الخطب في هذا يسير .

وتقدست : أي تطهرت ، وجميع مادة " ق د س " أو غالبها ترجع إلى معنى الطهارة والتطهير .

ولواحق الإمكان : ما يلحق الممكن لكونه ممكنا ، كالحدوث ، والافتقار إلى المؤثر ، والتركيب إن كان جسما ، وشغل الحيز إن كان جوهرا ، والافتقار إلى ما يقوم به ، وعدم التقاء زمانين ، أو تعقب عدم وجوده إن كان عرضا ، وبالجملة أضداد خواص القديم السابقة هي من لواحق الممكن ، والإمكان استواء نسبة المعلوم إلى العدم والوجود أو قابليته للتأثير عن المؤثر .

التالي السابق


الخدمات العلمية