صفحة جزء
[ ص: 484 ]

( الثالث ) الأسماء : وضعية ، وعرفية ، وشرعية ، ومجاز مطلق .

فالوضعي : الحقيقة ، وهو اللفظ المستعمل في موضوع أول .

والعرفي : ما خص عرفا ببعض مسمياته الوضعية ، كالدابة لذات الأربع ، وإن كانت بالوضع لكل ما دب ، أو يشيع استعماله في غير موضوعه ، كالغائط ، والعذرة ، والراوية ، وحقيقتها : المطمئن من الأرض ، وفناء الدار ، والجمل الذي يستقى عليه الماء . وهو مجاز بالنسبة إلى الموضوع الأول ، وحقيقة فيما خص به عرفا لاشتهاره .


قوله : " الثالث " أي : البحث الثالث من أبحاث اللغة : " الأسماء وضعية " ، إلى آخره .

أي الأسماء على أربعة أضرب :

" وضعية " : أي : ثابتة بالوضع وهو تخصيص الواضع لفظا باسم ، بحيث إذا أطلق ذلك اللفظ ، فهم منه ذلك المسمى ، كما إذا أطلق لفظ الأسد ، فهمنا منه حد الحيوان الخاص المفترس .

" وعرفية " : وهي ما ثبتت بالعرف ، وهو اصطلاح المتخاطبين .

" وشرعية " : وهو ما ثبت بوضع الشرع للمعاني الشرعية أو استعماله فيها .

" ومجاز مطلق " : ويأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى .

قوله : " فالوضعي " ، أي : الاسم الوضعي هو " الحقيقة " . واعلم أن الحقيقة والمجاز لا يختصان بالأسماء ، بل هما يجريان في الكلم الثلاث : الاسم والفعل والحرف ، فينبغي أن يقال : اللفظ هو الحقيقة ، ليعم ، ولكن لما كان غالب تنازع الأصوليين في هذا المكان متعلقا بالأسماء ، فرض الشيخ أبو محمد الكلام في [ ص: 485 ] الأسماء ، وتابعته أنا في " المختصر " .

تنبيه : الحقيقة : فعيلة من الحق ، وهو الثابت ، لأن نقيضه الباطل ، وهو غير ثابت ، وسمي اللفظ المستعمل فيما وضع له وضعا ما : حقيقة لثبوته على ما وضع له لم ينقل عنه .

والمجاز : مفعل ، من الجواز . وهو - أعني المجاز - مصدر واسم مكان ، وهو أشبه ، لأنه محل الجواز ، وسمي اللفظ المستعمل في غير ما وضع له مجازا ، لأن المستعمل له جاز محل الحقيقة إليه .

قوله : " وهو اللفظ المستعمل في موضوع أول " ، أي : الوضعي الذي هو الحقيقة ، أو نفس الحقيقة هو اللفظ ، وذكر ضميرها نظرا إلى أنها لفظ .

وقوله : " اللفظ المستعمل " : جنس يشمل الحقيقة والمجاز ، إذ كلاهما لفظ مستعمل .

وقوله : " في موضع أول " هو معنى قول الشيخ أبي محمد وغيره : في موضوعه الأصلي ، وهذا فصل للحقيقة عن المجاز ، لأن المجاز يستعمل في غير موضوعه الأول .

فلفظ الأسد المستعمل في الرجل الشجاع مجاز ، لأنه مستعمل في غير موضوعه الأول .

وقولنا : اللفظ المستعمل في حد الحقيقة والمجاز أولى من قول من يقول : استعمال اللفظ ، لأن مدلول الحقيقة والمجاز هي الألفاظ ، لا استعمال الألفاظ ، وإنما استعمال اللفظ في موضوعه أو غيره ينبغي أن يقال له : تحقيق وتجوز ، لا [ ص: 486 ] حقيقة ومجاز ، تعريفا للمصادر بالمصادر ، وللأسماء بالأسماء .

قوله : " والعرفي : ما خص عرفا ببعض مسمياته " إلى آخره ، أي : واللفظ العرفي ما خص في العرف ببعض مسمياته التي وضع لها في الأصل ، أي : في أصل اللغة عند ابتداء وضعها ، كلفظ الدابة الذي هو في أصل الوضع لكل ما دب لاشتقاقه من الدبيب ، وهو المشي ، وربما كان ضعيفا ، ثم خص في عرف الاستعمال بذوات الأربع ، وإن كان باعتبار الأصل يتناول الطائر ، لوجود الدبيب منه .

قوله : " أو يشيع استعماله " ، إلى آخره ، أي العرفي : ما خص عرفا ببعض مسمياته ، أو شاع ، أي اشتهر استعماله في غير ما وضع له في الأصل ، كالغائط : هو في أصل الوضع اسم للمطمئن ، أي : المنخفض من الأرض ، ثم اشتهر استعماله عرفا في الخارج المستقذر من الإنسان ، وكالعذرة : التي هي في الأصل فناء الدار ، وهو ما امتد من جوانبها ، ثم اشتهر استعمالها في الخارج المرادف للغائط ، وكالراوية : التي هي في الأصل اسم للبعير أو البغل أو الحمار الذي يستقى عليه ، ثم اشتهر استعمالها في المزادة التي هي وعاء الماء .

وهذا هو معنى قولنا : أو يشيع استعماله في غير موضوعه ، كالغائط ، [ ص: 487 ]

والعذرة ، والراوية ، وحقيقتها : المطمئن من الأرض ، وفناء الدار ، والجمل الذي يستقى عليه . وهو من باب اللف والنشر .

وقولنا : " والجمل الذي يستقى عليه الماء " ، ليس المراد به مختصا بتسميته راوية ، بل هو ضرب مثال بفرد من أفراد مسمى الراوية ، وإلا فاللغة على ما ذكرناه بأن الجمل والبغل والحمار إذا استقي عليه سمي راوية .

قوله : " وهو مجاز بالنسبة إلى الموضوع الأول " ، إلى آخره ، أي : وهذا اللفظ العرفي هو مجاز بالنسبة إلى الوضعي الذي هو الموضوع الأول ، وحقيقة فيما خص به في العرف لاشتهاره فيه .

أما أن هذا العرفي مجاز بالنسبة إلى الوضعي ، فلوجود حد المجاز فيه بالنسبة إليه ، فإنا قد عرفنا المجاز فيما بعد بأنه اللفظ المستعمل في غير موضوعه الأول ، ولا شك أن الألفاظ العرفية بالنسبة إلى الوضعية كذلك ، فإن الغائط في الوضع هو المطمئن من الأرض ، فاستعماله في عذرة الإنسان استعمال له في غير موضوعه الأول ، وكذلك الراوية هي في الوضع : اسم للدابة التي يستقى عليها الماء ، فاستعمالها في وعاء الماء استعمال لها في غير موضوعها الأول ، وكذا الكلام في العذرة بالنسبة إلى فناء الدار ، كما يذكره الأصوليون في كتبهم .

أعني : من أن العذرة في وضع اللغة فناء الدار ، ثم استعمل عرفا في الغائط المستقذر ، والذي ذكره أهل اللغة عكس ذلك . [ ص: 488 ]

قال الجوهري : والعذرة : فناء الدار ، سميت بذلك ، لأن العذرة كانت تلقى في الأفنية ، وهذا قاطع في أن أصل وضع العذرة للخارج المستقذر ، ثم سمي به فناء الدار للمجاورة .

وأما أن هذا العرفي حقيقة فيما خص به عرفا ، فلأن حد الحقيقة موجود فيه بالنسبة إليه . إذ حد الحقيقة هو اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا وضعا ما .

ولا شك أن استعمال لفظ الغائط في العذرة المشهورة ، ولفظ الراوية في المزادة ، ولفظ العذرة في الغائط المشهور هو استعمال له فيما وضع له أولا في عرف اللغة ، فاشتهر فيه ، فصار حقيقة فيه لاشتهاره .

تنبيه : التحقيق في هذا المكان ما ذكره بعض الأصوليين ، وهو أن الحقيقة لغوية وشرعية ، واللغوية وضعية وعرفية .

فاللغوية الوضعية : هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا في اللغة ، كالإنسان للحيوان الناطق .

واللغوية العرفية : هي اللفظ المستعمل فيما وضع له بعرف الاستعمال اللغوي ، كالدابة لذوات الأربع ، والغائط والعذرة في الخارج المستقذر .

والحقيقة الشرعية : هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا في الشرع ، كاسم الصلاة والزكاة للأفعال المخصوصة .

وقولنا : اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا في الاصطلاح الذي به التخاطب يعم الحقيقة بهذه الاعتبارات .

وبعضهم قسم الحقيقة إلى لغوية ، وشرعية ، وعرفية عامة ، كاستعمال لفظ الدابة في ذوات الأربع ، وعرفية خاصة ، كاستعمال لفظ الجوهر في المتحيز الذي لا يقبل القسمة عند المتكلمين وغيرهم . [ ص: 489 ]

قلت : والتقسيم المختار للحقيقة أنها : إما لغوية ، أو اصطلاحية ، واللغوية وضعية وعرفية كما سبق ، والاصطلاحية شرعية وغير شرعية .

فالشرعية : كاسم الصلاة والحج ونحوه .

وغير الشرعية : هي كل لفظ في علم أو صناعة اشتهر عند أهله استعماله في مدلوله عندهم . فيتناول ذلك اصطلاح الفلاسفة ، والمتكلمين ، والفقهاء ، والجدليين ، والنحاة ، والأطباء ، وغيرهم من العلماء ، واصطلاح النجارين ، والحدادين ، والصاغة والملاحين ، وغيرهم من الصناع على حقائقهم المتداولة بينهم .

وبالجملة : فالحقائق تتعدد بتعدد الواضع ، لغة أو شرعا أو اصطلاحا .

وبهذا التقرير يتحقق أن العرفية اللغوية حقيقة بالنسبة إلى ما اشتهرت فيه عرفا ، مجاز بالنسبة إلى ما خصت منه وضعا ، كالدابة : هي حقيقة عرفية في ذوات الأربع ، مجاز وضعي فيه ، لأنه مستعمل في بعض ما وضع له ، لا في كله .

أما الأسماء الشرعية ، فينبني القول فيها على الخلاف الآتي ذكره ، إن شاء الله تعالى .

فإن قلنا : هي وضع الشارع ابتداء ، فهي حقيقة مطلقة ، وإن قلنا : لم يضعها ابتداء ، بل نقل الحقائق اللغوية إلى المعاني الشرعية ، وزاد فيها شروطا ، فهي حقيقة بالإضافة إلى الشرع ، مجاز بالإضافة إلى الوضع ، والله تعالى أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية