صفحة جزء
[ ص: 496 ]

قالوا : العرب لم تضعها فليست عربية ، فلا يكون القرآن عربيا .

قلنا : عربية بوضع الشارع لها مجازا ، وإن سلم ، فلا يخرج القرآن عن كونه عربيا بألفاظ يسيرة من غيره .

قالوا : لو فعل ، لعرف الأمة بطريق علمي .


قوله : " قالوا : العرب لم تضعها " ، إلى آخره .

هذا دليل الخصم على نفي الحقائق الشرعية .

وتقريره : لو ثبتت الحقائق الشرعية على ما ذكرتم لم تكن عربية ، لأن العرب لم تضعها ، وكل ما لم تضعه العرب ، فليس بعربي ، فالحقائق الشرعية لو ثبتت لم تكن عربية ، ولو لم تكن عربية لم يكن القرآن عربيا ، لكن القرآن عربي ، فهذه الحقائق الشرعية عربية .

أما الملازمة ، فلأن أسماء هذه الحقائق ، كالصلاة ونحوها مذكورة في القرآن ، فهي بعضه ، فلو لم تكن عربية ، لكان بعض القرآن غير عربي ، وإذا كان بعض القرآن غير عربي ، لم يكن جميعه عربيا .

وأما انتفاء اللازم ، وهو أن القرآن عربي ، فبالنص والإجماع ، وإذا انتفى اللازم انتفى ملزومه ، وهو أن هذه الحقائق غير عربية ، فتكون عربية والعربي ما وضعته العرب ، فتكون هذه الحقائق من موضوعات العرب ، وذلك ينفي كونها من موضوعات الشرع وضعا استقلاليا ، فثبت أنه أبقاها على موضوعاتها في الأصل ، وزادها شروطا شرعية ، وهو المطلوب .

قوله : " قلنا عربية " ، إلى آخره .

وتقرير هذا الجواب من وجهين : [ ص: 497 ]

أحدهما : لا نسلم أن العرب لو لم تضع هذه الحقائق لم تكن عربية ، قولهم : لأن كل ما لم تضعه العرب ، فليس بعربي ، ممنوع ، بل جاز أن تكون هذه الحقائق عربية ، بوضع الشارع لها مجازا عن الوضع اللغوي ، ونحن قد بينا أن الحقيقة الشرعية مجاز لغوي ، ولو صح أن كل ما لم تضعه العرب لا يكون عربيا ، لخرجت مجازات اللغة عن أن تكون عربية ، لأنها لم تضعها العرب على مسمياتها ، فكما سميت مجازات أهل اللغة عربية - مع أنها ليست موضوعة وضعا أوليا - فكذا حقائق الشرع التي هي مجازات بالإضافة إلى اللغة .

وموضع المؤاخذة في المقدمة المذكورة أن يقال : ما المراد بقولكم : إن العرب لم تضعها ؟ إن أردتم لم تضعها وضعا أوليا في اللغة فمسلم ، لكن لا يلزم من ذلك أن لا تكون عربية ، بدليل المجاز اللغوي ، فإنه عربي وليس موضوعا وضعا أوليا ، وإن أردتم أنهم لم يستعملوها أصلا فممنوع ، إذ هي مشهورة في لغتهم ، وباستعمالهم لها صح استعارة الشارع لها ، وتجوزه بها إلى المعاني الشرعية ، وذلك يصحح كونها عربية مجازا ، لأن حد المجاز موجود فيها .

الوجه الثاني في الجواب : أنا وإن سلمنا الحقائق الشرعية ليست عربية ، لكنا لا نسلم أن القرآن يخرج بذلك عن كونه عربيا في عرب اللغة ، لأن تلك الألفاظ يسيرة بالنسبة إلى مجموع القرآن ، واليسير لا يغلب الكثير ، وقد وقع في شعر الفصحاء ، كالأعشى وغيره ألفاظ أعجمية ، ولم يخرج شعرهم بذلك عن كونه عربيا . وسيأتي الكلام - إن شاء الله سبحانه وتعالى - في أن في القرآن المعرب ، وهو ما أصله غير عربي ، وهو كما نحن فيه أو قريب منه . وغاية ما يلزم من ذلك عند التحقيق تخصيص قوله سبحانه وتعالى : إنا جعلناه قرآنا عربيا [ الزخرف : 3 ] بألفاظ [ ص: 498 ] يسيرة منه ، وذلك أمر سهل ، إذ التخصيص كثير ، فهو أسهل مما يلزمكم على تقدير نفي الحقائق الشرعية من الإبهام ، وجعل الشارع تابعا للواضع .

قوله : " قالوا : لو فعل " ، إلى آخره .

هذا دليل آخر لمنكري الحقائق الشرعية . وتقريره : أن الشارع لو وضع للمعاني الشرعية أسماء كما ذكرتم ، لوجب أن تعرف الأمة ذلك بطريق علمي ، لكنه لم يعرفهم ذلك ، فلا يكون قد وضع للمعاني الشرعية أسماء وضعا استقلاليا .

أما الملازمة ، فلأنه لو وضع لها ، ولم يعرف الأمة بذلك ، لكان تكليفا بما لا يطاق ، وهو ممتنع .

وأما أنه لم يعرف الأمة بوضع الأسماء الشرعية ، فلأن طريق التعريف : العلم ، أما العقل ، فلا تصرف له في اللغات ونحوها ، أو النقل ، وتواتره مفقود ، وإلا لحصل العلم بذلك كحصول العلم بوجوب الصلاة ونحوها ، والآحاد لا تفيد العلم .

وأما أنه يلزم من عدم تعريف الأمة بالوضع المذكور عدم ذلك الوضع ، فلأنا قد دللنا على أن التعريف لازم للوضع ، وإذا انتفى ملزومه .

التالي السابق


الخدمات العلمية