صفحة جزء
[ ص: 517 ]

وتعرف الحقيقة بمبادرتها إلى الفهم بلا قرينة ، وبصحة الاشتقاق منه ، وتصريفه ، نحو أمر يأمر أمرا في الأمر اللفظي ، بخلافه بمعنى الشأن ، نحو : وما أمر فرعون برشيد إذ لا يتصرف ، وباستعمال لفظه وحده من غير مقابل ، كالمكر في غير الله تعالى ، بخلافه فيه نحو : ومكروا ومكر الله ، وباستحالة نفيه ، نحو : البليد ليس بإنسان ، بخلاف ، ليس بحمار .


قوله : " وتعرف الحقيقة بمبادرتها إلى الفهم بلا قرينة " ، إلى آخره .

لما فرغ من ذكر أقسام التجوز ، أخذ يبين ما تعرف به الحقيقة من المجاز من العلامات ، وذلك من المهمات ، وهو من وجوه :

أحدها : مبادرتها ، أي : مبادرة الحقيقة إلى الفهم بلا قرينة ، وذلك أن اللفظ المحتمل لمعنيين فأكثر ، إما أن يتبادر فهم أهل اللغة عند إطلاقه بلا قرينة إلى جميع محتملاته ، أو إلى بعضها ، والأول هو المشترك ، كلفظ العين والقرء .

وأما الثاني : فالمتبادر إلى الفهم هو الحقيقة ، لأن السامع لو لم يضطر إلى أن الواضع وضع ذلك اللفظ لذلك المعنى المتبادر ، لما سبق إلى فهمه .

فإن قيل : يحتمل أن مبادرة ذلك المعنى إلى فهم السامع كان لإلفه له ، وكثرة دوره على الألسنة في عرف التخاطب ، لا لأنه هو الحقيقة الوضعية .

قلنا : الكلام فيما إذا كان السامع من أهل اللغة الذين يفرقون بين الوضعيات والعرفيات ، ثم بتقدير أن تكون مبادرة اللفظ إلى فهم السامع لإلفه له ، يكون أيضا حقيقة عرفية أو اصطلاحية ، فلا تخرج المبادرة عن كونها تدل على الحقيقة .

وقولنا : بلا قرينة ، احتراز من مبادرة اللفظ بقرينة ، فإنه لا يدل على الحقيقة ، بل قد يكون اللفظ مجازا ، إذ شرط المجاز القرينة ، لما عرف من أن اللفظ إذا تجرد عن قرينة فهو للحقيقة ، لأنها الأصل عند الإطلاق ، والمجاز خلاف الأصل .

مثاله : إذا قال القائل : رأيت أسدا ، أو بحرا ، أو حمارا ، ولا قرينة هناك ، حمل [ ص: 518 ] على أنه رأى سبعا ، وماء كثيرا ، والحمار الذي هو أحد أبوي البغل ، ولو قال : رأيت أسدا بيده سيف ، أو بحرا على فرس ، أو حمارا على منبر ، علمنا بهذه القرائن أنه أراد الشجاع والكريم والبليد .

الوجه الثاني : أن يكون أحد اللفظين يصح فيه الاشتقاق ، والتصريف إلى الماضي والمستقبل ، واسم الفاعل والمفعول ، واللفظ الآخر لا يصح فيه ذلك ، فيكون الأول الحقيقة ، والثاني مجازا ، لأن تصرف اللفظ يدل على قوته وأصالته ، وعدم تصرفه يدل على ضعفه وفرعيته . وقد بينا أن الأصل هو الحقيقة ، والمجاز فرع عليه ، فكان التصرف دليلا على الحقيقة دون المجاز ، وذلك كلفظ الأمر : يطلق على الصيغة الطلبية ، نحو : اضرب ، واجلس ، ويطلق على الشأن والفعل ، نحو : وما أمر فرعون برشيد [ هود : 97 ] ، أي : شأنه وفعله ، فلما وجدناهم يصرفون الأمر اللفظي فيقولون : أمر يأمر أمرا ، فهو آمر ومأمور ، ولا يقولون ذلك في الأمر بمعنى الفعل ، دل ذلك على أن الأول حقيقة ، والثاني مجاز . وقد ضعفت هذه العلامة بأنها دعوى عامة ، فلا تثبت بمثال واحد ، ونقضت من حيث الطرد بالرائحة ، هي حقيقة في معناها ، ولم يشتق منها اسم ، ومن حيث العكس بأن البليد يقال له : حمار ، ويجمع على حمر ، فقد اشتق منه اسم مع أنه مجاز .

قلت : وفي النقض بالرائحة نظر ، فإن فعلها متصرف ، يقال : راح الشيء يراحه ويريحه : إذا وجد ريحه ، وتروح الماء إذا أخذ ريح غيره لقربه ، فهو متروح . وهذا غاية ما يكون من التصرف . [ ص: 519 ]

الوجه الثالث : أن يكون أحد اللفظين يستعمل وحده من غير مقابل ، والآخر لا يستعمل إلا في المقابلة ، كالمكر في حق غير الله تعالى ، فإنه يصح أن يقال : مكر زيد بعمرو ، ولا يصح ذلك في حق الله تعالى إلا مقابلة لمكر المخلوق ، نحو : ومكروا ومكر الله [ آل عمران : 54 ] ، ومكروا مكرا ومكرنا مكرا [ النمل : 50 ] ، فدل ذلك على أن إسناد المكر إلى الآدمي حقيقة ، وإسناده إلى الله تعالى مجاز ، لأن انفراد اللفظ في الاستعمال دليل تأصله ، وتمكنه واحتياجه فيه إلى ما يقابله دليل على فرعيته وتزلزله ، فلذلك توقف استعماله على مقابل ، لأن العرب استجازوا مع المقابلة ما لم يستجيزوه بدونها .

قلت : الأجود هنا التمثيل بالنسيان ، فإنه يطلق على المخلوق بدون مقابل ، نحو قوله سبحانه وتعالى : فنسي ولم نجد له عزما [ طه : 115 ] ، وفي حق فتى موسى : وما أنسانيه إلا الشيطان [ الكهف : 63 ] ، ولا يطلق على الله سبحانه وتعالى إلا مع المقابل ، كقوله سبحانه وتعالى : نسوا الله فنسيهم [ التوبة : 67 ] ، وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا [ الجاثية : 34 ] ، وفي الحديث : فاليوم أنساك كما نسيتني ، يقوله سبحانه تعالى للكافر يوم القيامة .

أما التمثيل بالمكر فينتقض بقوله سبحانه وتعالى : أفأمنوا مكر الله فلا يأمن [ ص: 520 ] مكر الله إلا القوم الخاسرون [ الأعراف : 99 ] ، فأسند الله سبحانه وتعالى المكر إلى نفسه بدون مقابل ، وإنما زعم أن المكر لا ينسب إلى الله تعالى بدون المقابلة من يعتقد أن المكر : هو التوصل إلى الغرض خفية للعجز عنه مجاهرة ، وليس كذلك ، بل هو التوصل إلى المراد خفية ، سواء كان مع العجز عن المجاهرة ، كما في المخلوق ، أو مع القدرة على المجاهرة ، كما في حق الله سبحانه وتعالى ، كقوله سبحانه وتعالى : سنستدرجهم من حيث لا يعلمون [ الأعراف : 182 ] ، وهذا هو حقيقة المكر بهم ، مع قدرته سبحانه وتعالى على اضطرارهم إلى ما يريده منهم جهرا ، بالنار المحرقة أو الملائكة المستحثة ، وما كان ذلك قادحا في عدله سبحانه وتعالى .

ومن الأمثلة الصحيحة أن الجزاء لا يطلق على لفظ السيئة إلا مع المقابلة نحو : وجزاء سيئة سيئة مثلها [ الشورى : 40 ] ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

الوجه الرابع : استحالة نفي اللفظ يدل على الحقيقة ، وجواز نفيه يدل على المجاز .

مثاله : أنه يستحيل أن يقول للإنسان البليد : ليس بإنسان ، ويجوز أن يقول فيه : ليس بحمار ، فالإنسان حقيقة فيه لاستحالة نفيه عنه ، والحمار مجاز فيه لصحة نفيه عنه ، وعكس هذا يصح أن يقول للحمار الحقيقي : ليس بإنسان ، ولا يصح أن يقول : ليس بحمار ، فلفظ الحمار حقيقة فيه ، لاستحالة نفيه عنه .

وتوجيه هذا مع ظهوره ، أنا قد بينا أن الحقيقة من الحق ، والحق هو الثابت ثبوتا مؤبدا ، والثابت ثبوتا مؤبدا يستحيل زواله وانتفاؤه .

وللفرق بين الحقيقة والمجاز علامات غير هذه . هذا الذي اتفق ذكره منها [ ص: 521 ] هاهنا .

فإن قلت : قد ذكرتم حد الحقيقة والمجاز ، والحد لا بد وأن يكون جامعا مانعا ، والحد يراد للتعريف ، ومع جمعه ومنعه يفيد تعريف جزئيات المحدود ، فإن كان الحد الذي ذكرتموه للحقيقة والمجاز يفي بتعريف جزئياتها ، فما الحاجة إلى هذه العلامات الفارقة بينهما ؟ وإن لم يف بذلك ، فليس بحد صحيح ؟

والجواب أن تعريف الحدود إجمالي وكلي ، وتعريف العلامات والخواص تفصيلي جزئي ، ففائدة ذكر علامات الشيء بعد ذكر حده كفائدة ذكر تفصيله بعد إجماله ، وجزئياته بعد كلياته .

ومثال ذلك : أن قولنا في حد الإنسان : حيوان ناطق ، يفيدنا معرفة حقيقته على جهة قانونية كلية ، فإذا قلنا بعد ذلك : من علامة الإنسان وخواصه أنه منتصب القامة ، ضحاك ، قابل لتعليم العلوم ونحوه ، أفادنا ذلك من البيان والإيضاح ما لم يفده قولنا : إنه حيوان ناطق .

التالي السابق


الخدمات العلمية